تأمّل ليونهارت وجه أخته الحاسم بمشاعر متشابكة، ثم فتح فمه أخيرًا.
“إن كنتِ ترغبين في العودة إلى ما كنتِ عليه، فسأُعاونكِ بكلّ ما أستطيع لتحقيق ذلك الهدف.”
“ستساعدني في إيجاد طريقة للعودة؟”
“نحن أيضًا نريد استعادة ليلِيتا الحقيقية. أرى أنّه اقتراح يصبّ في مصلحتكِ كذلك.”
انعقد حاجبا ريتا، وأسندت ذقنها إلى يدها غارقة في التفكير.
حافظ ليونهارت على هدوئه قدر الإمكان، مستعيدًا النقاش الذي دار في الليلة الماضية.
هو أكّد أنّها ليلِيتا الحقيقية، بينما رفض ريهارت تصديق ذلك.
الدوق وثق بابنه الأكبر، لكنّه وجد في رأي ريهارت منطقًا أيضًا؛ إذ كانت هناك أمور كثيرة غريبة يصعب تجاهلها للاحتفال بعودة الابنة بصفاء تام.
وفي النهاية توصّلوا إلى قرار واحد.
أن يراقبوا ليلِيتا عن كثب في الوقت الحالي.
فمهما يكن، فإنّ جسدها بلا شك جسد ليلِيتا لاسكايل.
وفوق ذلك، ورغم إنكارها الشديد، إن كانت روحها هي حقًّا روح ليلِيتا…… فلن يحتملوا فقدانها مرّة أخرى. أبدًا.
لكن لم يكن بالإمكان إخبار الدوقة التي أصبحت هشّة بعد فقدان ابنتها، لذا تقرّر إبقاء أمر وجود ليلِيتا سرًّا عنها في الوقت الراهن.
“أخي، أنا لا أصدّق أعذارًا من قبيل أنّها لا تعرف ما حدث لها. إن كانت تلك المرأة قد استولت على جسد لِيلي بسحر أسود أو ما شابه، فسأستعيد جسدها مهما كلّف الأمر.”
وعلى عكس الأب المتحفّظ لعدم لقائه ليلِيتا بعد، أو الأخ الأصغر الذي يعضّ على شكوكه، كان ليونهارت في الحقيقة شبه متيقّن.
‘حتى والدي، إن راقبها، سيدرك الأمر قريبًا. لأنّنا عائلة. وريهارت سيفهم هو الآخر لا محالة.’
لكن بما أنّها تُصرّ على أنّها ليست ليلِيتا، لا يمكنه إجبارها أو فضح الأمر الآن.
‘إلى أن تدرك لِلي الحقيقة بنفسها…… سأعاملها فقط على أنّها ريتا باسكال.’
غرقت ليلِيتا في تفكير طويل، وليونهارت انتظرها بصمت.
تسلّل نور الصباح مع شروق الشمس، يملأ الغرفة شيئًا فشيئًا ويدفع الظلال جانبًا.
وفي ضوء الصباح المكتمل، أومأت برأسها أخيرًا.
“حسنًا.
أقبل هذا العرض.”
—
بعد أن تناولت فطورًا خفيفًا في الغرفة، وعالج الطبيب الخاص الذي أرسله ليونهارت جرح يدها، تبعت ريتا الخادمة في الممرّات.
رغم قبولها القيام بـ‘دور ليلِيتا’، لم تكن تعرف بالضبط ما الذي يتعيّن عليها فعله، فشرح لها ليونهارت الأمر خطوة خطوة.
“في الوقت الحالي، عيشي هنا وكأنّ هذا القصر هو منزلكِ. أخبرتُ الخدم أنّكِ عدتِ فاقدةً للذاكرة، فتعاملوا معهم براحة. وإن سألكِ أحد أين كنتِ، قولي فقط إنّكِ لا تتذكّرين.”
“أبي وأخي يعلمان أنّكِ ‘ريتا باسكال’. لكنّ أمّي لا تعرف شيئًا. تفهمين ما أعنيه، أليس كذلك؟”
“عندما تصبحين قادرة على أداء دور ليلِيتا بشكلٍ مقنع، سنخبر أمّي بعودتكِ. إلى ذلك الحين، احذري من مواجهتها.”
“ترين ذلك الملحق خلف الحديقة؟ أمّي تقيم هناك. لم تستطع تحمّل البقاء في القصر الرئيسي لكثرة ذكرياتها مع ليلِيتا. نادرًا ما تخرج، لذا يكفي ألّا تقتربي من الجهة الخلفيّة.”
“تولّيتُ أمر إسكات الخدم. قلتُ لهم إنّكِ في حالة ارتباك وتحتاجين للتأقلم، وإنّ الدوقة بحاجة إلى الاستقرار. الجميع شاهد إغماءها في الجنازة، لذا سيكونون حذرين.”
“عدا ذلك…… عيشي ببساطة كابنة الدوق الصغرى ‘ليلِيتا’ وتأقلمي مع الحياة هنا. حاولي أن تعيشي بذهنية أنّكِ أصبحتِ ليلِيتا حقًّا.”
إلى أن تتمكّن من الوقوف أمام الدوقة بدور ‘ليلِيتا’ دون خلل، عليها أن تعيش في القصر كليلِيتا وتعتاد حياة الآنسة النبيلة.
تلقّت ريتا اقتراح ليونهارت كما لو كان هدفًا عملياتيًّا.
‘التقمّص أو التمثيل بهوية مدنيّة ليس من نقاط قوّتي أصلًا. هذا كان اختصاص إيس السينيور.’
وها هي مطالَبة بلعب دور نبيلة، بل ابنة دوق، وهي لا تعرف حتى معنى النبل!
شعرت بصداع ينبض في رأسها.
حتى عبارة “اعتبريه بيتكِ وارتاحي” بدت صعبة المنال.
ريتا باسكال لم تملك بيتًا قط.
كانت تتنقّل بين ساحات القتال والأنقاض مع أفراد فرقتها.
المخيّم المؤقّت لا يمكن تسميته بيتًا.
‘حسنًا…… إن لم أعرف ماذا أفعل، قال إنّ عليّ اليوم ارتداء فستان والتجوّل في القصر، أليس كذلك؟ سيستدعي معلّم الآداب قريبًا، لذا إلى ذلك الحين…….’
كان فهم تضاريس المكان وهيكله من أساسيات التخييم.
لذا قرّرت ريتا أنّ هدف اليوم هو استكشاف وحفظ مخطّط هذا القصر، أو ‘قصر شجرة البتولا’ كما يُسمّى، فشعرت بقليل من الارتياح.
“آه…… آنسة، و، و، وصلنا. ه، هنا.”
أفاقت من أفكارها على صوت الخادمة المرتجف.
أدركت ريتا حينها فقط أنّ هانا، الخادمة المكلّفة بخدمتها، لا تزال خائفة.
“أم…….”
“ن، نعممم!”
ما إن نادتها بحذر حتّى أجابت هانا بفزع.
ابتلعت ريتا زفيرها وفتحت فمها بنبرة لطيفة قدر الإمكان.
“لقد فُزِعتِ قبل قليل، أليس كذلك؟ أنا آسفة.
فقدتُ ذاكرتي…… وظننتُ أنّ هذا المكان غريب، فكنتُ متحفّزة أكثر من اللازم.
أخفتُكِ، أعت—”
“لا-لا بأس! كيف تعتذرين لي-لي-لي أنا؟!”
قفزت الخادمة في مكانها تقريبًا، ثم سارعت لتغيير الموضوع.
“ا-انظري! ه، هذا هو مستودع الفساتين التي أعدّتها السيّدة خصيصًا لكِ!”
أشارت هانا إلى باب خشبيّ عتيق، ثم ارتسم على وجهها تعبير شارد.
“السيّدة كانت تقول…… إنّه يجب أن تكون هناك فساتين جاهزة متى ما عادت الآنسة، لذلك كانت تفصّل فستانًا جديدًا كلّ عام في عيد ميلادكِ…….”
ارتجفت ريتا.
كانت قد سمعت فقط أنّ عليها تبديل ملابسها، ولم تتوقّع هذا.
‘هل يحقّ لي أنا، التي لستُ ليلِيتا الحقيقيّة، أن أرتدي تلك الفساتين؟’
ابتلعت السؤال الذي لا تستطيع نطقه، بينما مسحت هانا دموعها وهمست:
“كانت تفصّلها على مقاس متوسّط فتيات عمركِ في كلّ عام…… وكانت تقول إنّ الفتاة في الصورة لا تكبر، لكنّ فساتينكِ وحدها تكبر عامًا بعد عام.
كانت تقول إنّكِ كنتِ بهذا الصغر، والآن صرتِ شابّة ناضجة…….”
……
ثقل قلب ريتا، فلم تستطع قول شيء.
رفعت هانا رأسها بعينين دامعتين، وضمت يديها.
“عودة الآنسة معجزة حقيقيّة! كلّما نظّفتُ هذه الغرفة ورأيتُ الفساتين بلا صاحبة، كان قلبي يتألّم.
آه، كم ستفرح السيّدة…… أتمنّى لو نستطيع إخبارها بعودتكِ في أقرب وقت.”
……
لم تستطع ريتا مواجهة نظرة الامتنان تلك، فأشاحت بصرها وردّت بصعوبة:
“لا…… مع ذلك، تهديدي لكِ كان خطأً واضحًا…….”
“أنا بخير حقًّا! فزعتُ قليلًا فقط، لكنّي الآن لستُ خائفة إطلاقًا! كيف أخاف من ابنة سيّدتي؟ لقد كنتُ متحمّسة جدًّا لأن أُكلّف بخدمتكِ!”
قالت ذلك بحماس، واضعة يديها على صدرها، وعيناها تتلألآن.
“أتمنّى أن تعامِليني براحة! سأخدمكِ بإخلاص كخادمة مرافقة، فاعتبريني من الآن فصاعدًا يديكِ وقدميكِ!”
“أ، آه…… ش، شكرًا.”
تحت وطأة حماسها، أومأت ريتا أخيرًا.
ابتسمت هانا وقد استعاد وجهها إشراقه، وفتحت باب غرفة الفساتين.
“إذًا، آنسة، الفس—”
في اللحظة التي فُتح فيها الباب، توقّفت ريتا.
شمّت رائحة.
رائحة ترابٍ مبتلّ بعد المطر، أو خشبٍ متفحّم.
رائحة لاذعة مُرّة تخز الأنف.
رائحة مألوفة…… ومشؤومة.
إنّها الهالة التي تنبعث حين يلتهم وحشٌ سحريّ جسد إنسان ويهضمه.
وأن تبلغ شدّتها حدّ أن تُشمّ بأنفٍ بشريّ، فهذا يعني وجود وحش مُسمّى بالغ القوّة.
خاتمة لا تُحصى من المآسي والمجازر.
ومقدّمة لمعركة يائسة.
رائحة كابوس منقوشة في أعماق عظامها.
استجابت غريزتها فورًا.
سحبت المدنيّة التي أمامها إلى الخلف لتحميها، وخفّضت جسدها وحبست أنفاسها.
وفي اللحظة نفسها، امتدّت يدها لتسحب سلاحها—لكنّها أمسكت بالهواء.
‘لا يوجد سلاح. اللعنة.’
يمكنها إطلاق الرصاص السحريّ بيدٍ عارية، لكنّ ذلك يتطلّب التحكّم بـ«الأود».
وفوق ذلك، فهي الآن في قتال فرديّ بلا رفاق، ومعها مدنيّة عاجزة.
‘أسوأ سيناريو.’
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"