رفعت لافينيا ذقنها بتحدٍّ، وأدارت رأسها بفظاظة بعيدًا، فما كان من آنيماري إلا أن وضعت يدها على جبينها في أسى، قبل أن تتقدم نحو ليليتا لتكرر اعتذارها.
قالت بصوت يفيض بالحرج.
“ليلي، أنا آسفة حقًا، لافينيا أبدت اهتمامًا بك، فظننت أنها إن اقتربت منك فقد تستفيد وتتعلّم شيئًا… لكن لم يخطر ببالي أنّها ستتصرف هكذا منذ اللحظة الأولى، كان يجب أن أبعدها بأي وسيلة قبل أن تأتي.”
ابتسمت ليليتا بخفة، مجيبة. “لا بأس، فأنا من طلبت مساعدتك أصلًا، وأشكرك لأنك جئت رغم ضيق وقتك.”
“أي شكر بيننا؟ آه، بالمناسبة… هذا شقيقي الأصغر أنطون، أظنك لم تريه منذ كنّا صغارًا، أليس كذلك؟”
تنحّت آنيماري قليلًا، فكشف ذلك عن فتى له ملامح هادئة تشبهها إلى حد بعيد، يعلو رأسه شعر بنيّ داكن، كان واقفًا متيبسًا، ووجهه محمر حتى رقبته، يحدّق في ليليتا بذهول لا يخلو من ارتباك.
“أنطون؟ ماذا تفعل؟ عليك أن تلقي التحية!”
وبينما كان يتلعثم في مكانه، نقرته أخته بخفة على ذراعه تحثه، فانتبه كأنه استيقظ من حلم، وقال متلعثمًا.
كانت آنيماري على وشك أن تؤنبه بعبوس، لكنها التفتت إلى ليليتا فجأة، وأطلقت ضحكة باهتة.
“المعذرة يا ليلي… إنكِ جميلة أكثر مما يحتمل، فقد أربكتِ عقله المسكين، أجد نفسي لا أفعل شيئًا غير الاعتذار اليوم.”
“أختي!” صرخ أنطون وهو يحاول استجماع كرامته.
“هاه، أأفاقت روحك قليلًا؟”
“آآآه…”
غمر وجهه الخجل حتى صار كالجمر، فأخفى رأسه بين كفّيه وهو يطلق أنينًا غريبًا، أما ليليتا فلم تجد سوى أن تبتسم.
‘أنا أيضًا… استغرقت وقتًا لأتأقلم’
لقد مرّ أكثر من شهر على عودتها، فاعتادت قليلًا على مظهرها الجديد، لكنها ما تزال أحيانًا تُذهل حين ترى انعكاسها في المرآة، وكأنها لا تنظر إلى وجهها بل إلى لوحة زيتية فاتنة.
لأنها نشأت في جسد آخر، كان الشعور بأنّ هذا الوجه ملكُها ما يزال ضعيفًا، فما إن تحاول تخيّل ذاتها، حتى يسبق إلى ذهنها وجه ريتا باسكال القديم.
سارت ليليتا مع آنيماري وشقيقها أنطون، ومع لافينيا التي ما تزال عابسة، متجهين إلى قاعة الحفل حيث ستقام حفلة الظهور الأول.
كانت قد رتبت الأمر مسبقًا، معتقدة أن التدرب في المكان نفسه سيكون أنسب.
التدريب لا بد أن يكون في ساحة المعركة ذاتها.
رافقهم ليندسي أيضًا، متسللة بخطواتها لأجل غاية أخرى مرتبطة بالتدريب، وهناك سبقتهم هانا، وقد أعدّت جهاز الفونوغراف لتشغيل الموسيقى.
وقفت ليليتا مواجهة أنطون، بينما تراقبهم آنيماري بعين حذرة.
‘مم… حتى عينيه لا يجرؤ أن يرفعها نحوي. التوتر بادٍ عليه كالشمس’
تذكرت أنها لمحته مرة أو مرتين في منزل العطلة الصيفية حين كانا أطفالًا، لكنها بالكاد تذكر ملامحه.
ومع ذلك لم يكن شعورًا بالغربة الخالصة، وزاد من ارتياحها مظهره المرتبك العاجز.
بدا بلا خبرة قتالية، بلا أثر لتدريب، وهذا جعلها تلقائيًا تطمئن.
‘هكذا على الأقل… إن وضعت يدي على ظهره فلن تندفع بي غريزة القتال لتكسير ذراعه’
أما أنطون، فكان في مأزق حقيقي، لم يدرِ أين يضع عينيه، ولا يده، كان يشعر بالظلم.
‘صحيح… وهي صغيرة كنتُ أظنها جميلة جدًّا… لكن هذا؟! هذا غير عادل! كيف لا يسبقني أحد بتحذير على الأقل يا أختي؟!’
في عالم النبلاء، عادة ما يدخل الفتى أو الفتاة العالم الاجتماعي في الخامسة عشرة، أو في أبعد تقدير عند الثامنة عشرة.
وكان أنطون قد بلغ التاسعة عشرة، أي أنه قدم ظهوره الأول منذ عامين، وكان نشطًا في دوائر المجتمع قدر ما يستطيع.
وهو أصغر أشقائه، وأخته الكبرى وريثة العائلة، بينما آنيماري الثانية، ولم يكن يملك موهبة تتيح له مهنة أخرى، لذا جعل هدف حياته أن يتزوج من عائلة لائقة.
ولهذا، كان يتقن أساسيات الحفلات الراقصة مثل رقصة الفالس، إلى درجة يستطيع فيها أن يؤديها مغمض العينين.
لكن وهو يرقص مع ليليتا، غلبه التوتر من ملامستها، فضغط بيده الموضوعة على ظهرها أكثر مما يجب.
كان خطأً غير مقصود، سببه ارتباكه أمام جمالها.
غير أن النتيجة جاءت كارثية.
في اللحظة التي شعرت فيها ليليتا بتوتر أصابعه على ظهرها، انقضّت بغريزتها.
امتزج صراخه بألحان الفالس المنبعثة من الفونوغراف، في مشهد سريالي.
وبوجه خالٍ من الانفعال، مسحت ليليتا بعينيها المحيط بحثًا عن خطر آخر، قبل أن تلاحظ وجوه من حولها، آنيماري تحدق مصدومة، لافينيا فاغرة فاها، هانا تغطي نصف وجهها بكفها.
حينها فقط أدركت ما فعلت.
“آسفة! آسفة جدًّا، لم أقصد!”
أسرعت تطلق ذراعه.
كان أنطون يمسك كتفه المتألم، والدمع يتجمع في عينيه.
ولحسن الحظ، لم يكن جسد ليليتا قويًا كما كان جسد ريتا باسكال، وإلا لانكسرت عظامه حتمًا.
تمتمت آنيماري بدهشة.
“لكنكِ كنتِ تؤدين الرقصة بسلاسة قبل لحظة… لم أعد أفهم لماذا تحتاجين للتدريب أصلًا… ليلي؟”
“هذا… في الواقع…”
تعثرت الكلمات على لسانها، فتدخلت هانا بهدوء.
“الآنسة… في السنوات العشر الماضية، تعلمت فنون القتال، مثل الفرسان تمامًا، وقد التصقت تلك الحركات في جسدها، فإذا انتابها حذر، تستجيب هكذا تلقائيًا.”
“فنون… قتال؟”
رددت آنيماري بذهول، غير قادرة على الاستيعاب.
أما لافينيا، فقهقهت باستهزاء.
“أيّ هراء هذا؟ أظنني لا أعرف ما هو الفارس؟ مَن يتدرّب عشر سنوات لا يكون جسده هزيلًا بهذا الشكل! حتى الفارسات عضلاتهن متينة، وأجسادهن مشبعة بالندوب! من الواضح أنها لم تتعلم سوى بعض حركات دفاعية مبتذلة، والآن تتظاهر بأنها فارسة عظيمة!”
هانا لم تتحمل.
“تتظاهر؟! آنستي لا تتظاهر بشيء! إنها حقًا استثنائية! لقد أسقطت طائرًا من السماء برصاصة واحدة! حتى الوايفرن اصطادته برصاصة واحدة!”
قهقهت لافينيا بصوت مرتفع، رافعة ذقنها بغرور.
“هزيلة مثلك لا تعرف شيئًا، رصاصة تُسقط طائرًا محلّقًا؟ حتى السير فابيان، أمهر رماة فرساننا، قال إن ذلك صعب للغاية! أتضحكين عليّ؟!”
“أنتم الذين تجهلون! آنستي حقًا…”
“كفى يا هانا.”
تدخلت ليليتا متنهّدة. “هذا ليس أمرًا مهمًّا.”
“لكن آنستي!”
“قلت ليس مهمًّا.”
حقًا، ما الذي سيغيّره إن كانت نبيلة مقبلة على أول ظهور اجتماعي قد تدربت على القتال؟ لافينيا لتظن ما تشاء، فهذا لا يعني ليليتا شيئًا.
‘المشكلة الحقيقية… أنني قد أفعل الشيء نفسه مع ولي العهد في حفلة ظهوري الأول.’
رمقت أنطون المتألم، ثم أطلقت زفرة ثقيلة، واستدعت من ذاكرتها القواعد البروتوكولية التي حشرتها في رأسها على عجل.
“الآنسة لافينيا دويربورغ، أرجو أن تغفري لحماقة خادمتي، لقد كان اندفاعها بدافع الولاء، وأرجو كرمك أن تتسامحي معها.”
كان اعتذارها رسميًا، صادق النبرة.
فتصلبت لافينيا التي كانت منذ لحظة تتحدث بفظاظة، ونظرت بحذر إلى آنيماري، ثم سرعان ما اعتدلت في جلستها، نافخة صدرها.
“هُمف! حسنًا، سأغفر وقاحتها، فأنا… كريمة القلب.”
ـ”أشكركِ.”
انحنت ليليتا بأدب، فيما اتسعت عينا هانا بدهشة، إذ أدركت أن سيّدتها تعتذر نيابة عنها لتحميها.
فلو تشبثت لافينيا بالحادثة، لكان العقاب واقعًا على الخادمة مهما كانت حججها.
“آه… آنستي…”
اغرورقت عينا هانا بالحزن والامتنان، فيما بدا أن الشجار انتهى أخيرًا.
لكن لافينيا لم تدع الأمر يمرّ بهدوء، بل تابعت تثرثر بفوقية.
” لكن سلاح ناري؟ أتمزحين؟ أي بندقية هشة كهذه لا يمكنها صيد وايفرن، إنها تتعطل كل حين، ومن يستخدمها لا فرق بينه وبين الآخر! السيف هو سلاح الفارس، والرمح والقوس سلاح الجندي! أما البنادق، فلا يعدّها أحد حتى سلاحًا، وتريدون إقناعي أنها فن قتال؟! مهزلة!”
توقفت خطوات ليليتا، أو بالأحرى ريتا باسكال.
ثم استدارت ببطء، وعينيها بلا انفعال، تتطلع إلى لافينيا التي تراجع جسدها الصغير خطوة إلى الوراء دون وعي، ثم بدت حائرة لمَ فعلت ذلك أصلًا.
وسألتها ريتا بصوت هادئ لكن حادّ.
“تقولين إن البنادق لا يمكن أن تصطاد وايفرن؟”
“أ… أها؟”
“وأنها متشابهة، لا يهم من يستخدمها؟ وأنها ليست سلاحًا؟”
“آ… آه…”
ارتبكت لافينيا أمام ذلك الضغط الغريب، تلعثمت كمن فقد لسانه.
أما ريتا، فظلت تحدّق فيها بصرامة، قبل أن تبتسم ابتسامة صغيرة باردة:
“هكذا قولكِ إذن… آنسة دويربورغ؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 42"