……
تردّدت ريتا لحظة، ثم أبعدت شظيّة المرآة وأطلقت سراح الخادمة.
تحوّل وجه الخادمة إلى ملامح باكية مرتعشة، فتلفّتت بخوف، وما إن أشار ليونهارت بعينيه حتّى هرعت خارج الغرفة هاربة.
أغلق ليونهارت الباب بعد خروج هانا، ثم استدار نحو أخته.
كان جسدها نحيلاً لا يكاد يُقارن به، لكن وقفتها ونظرتها تشبهان فارسًا تمرّس في ساحات القتال عشر سنوات.
‘يا تُرى، ما الذي مرّت به خلال فترة اختفائها؟’
اعتصره الألم، لكنّه كبح مشاعره وتصرّف بهدوء.
“……أمس، أثناء عودتنا إلى القصر، كنتِ نائمة بعمق، فسلّمتكِ إلى الخادمة لتغسّلكِ وتبدّل ملابسكِ، ثم أنامتكِ في غرفة الضيوف هذه.
هذا كلّ ما حدث لكِ البارحة.”
استعاد ليونهارت أحداث الليلة الماضية.
عند وصوله إلى قصر الدوق، كانت مستغرقة في النوم على ظهره، كأنّها فاقدة للوعي من شدّة الإرهاق.
وخلال قيام الخادمة بتنظيفها وتبديل ثيابها، أخذ ليونهارت ثوب النوم الذي عادت به ليلِيتا وتحدّث مع أفراد العائلة.
باستثناء والدته التي كانت قد أفاقت لتوّها بعد إغمائها في الجنازة، دعا والده وأخاه الأصغر فقط.
“لقد عادت ليلِيتا.”
“لكن يبدو أنّها لا تتذكّر طفولتها تقريبًا. تقول إنّها ليست ليلِيتا بل شخص يُدعى ريتا. وتؤكّد أنّ الجسد قد يكون جسد ليلِيتا، لكن الروح ليست لها…….”
كانت أغلب العائلات النبيلة العريقة تمتلك أداة سحرية للتحقّق من النَسب.
أداة يمكن تسجيل الشخص المُتحقَّق منه فيها، ولهذا كانت تُسمّى «شجرة العائلة».
كانت شجرة عائلة لاسكايل حوضًا برونزيًا ضخمًا تحيط به نقوش على هيئة مجرى نهر.
وضعت الخادمة خصلة الشعر التي جلبتها في ماء الحوض، وبعد لحظات تموّج سطح الماء وظهرت شارة العائلة واسمها.
زهرة السوسن محاطة بحبوب القمح حول جوهرة أرجوانية، وفوق شعار لاسكايل برز الاسم بوضوح: «ليلِيتا ديل نيسا لاسكايل».
كان ذلك دليلًا قاطعًا على أنّ صاحبة الشعر من دم لاسكايل، ومسجّلة في شجرة العائلة منذ ولادتها.
مهما كانت الروح، فإنّ هذا الجسد بلا شك هو ليلِيتا التي بحثوا عنها بلهفة عشر سنوات.
“ليون، برأيك، هل روحها هي نفسها روح تلك الطفلة؟ أم أنّها فقط فقدت ذكريات طفولتها وعاشت عشر سنوات كشخص آخر، فظنّت أنّها ليست ليلِيتا؟”
“نعم، هذا ما أراه.”
وثق دوق لاسكايل بحكم ابنه الأكبر، لكن الابن الأصغر لم يوافقه.
“لكنّها قالت إنّ الجسد ليس جسدها!
وقالت إنّها كأنّها شبح تلبّس الجسد!
سمعتُ أنّ في السحر الأسود ما يشبه ذلك.
ربما شخص آخر استولى على جسد لِلي!”
بعد نقاش طويل، توصّلوا إلى نتيجة واحدة.
جلس ليونهارت على الأريكة في غرفة ليلِيتا، وأشار بذقنه إلى الجهة المقابلة.
“فلنجلس ونكمل الحديث، يا ريتا.”
جلست ريتا ببطء أمامه، ووضعت شظيّة المرآة إلى جانبها بحيث تستطيع التقاطها في أيّ لحظة.
لمّا رآها، وقعت عينا ليونهارت على المرآة المحطّمة الملقاة في الزاوية.
اتبعت ريتا نظره، ثم انكمش عنقها وهي تبرّر.
“كنتُ بحاجة إلى سلاح. سأعوّضها لاحقًا بطريقة ما.”
كاد ليونهارت يقول إنّ الأمر لا بأس به، لكنّه انتبه إلى يدها فتفاجأ.
“لقد جُرحتِ!”
“هاه؟”
نظرت ريتا إلى يدها اليمنى بدهشة خفيفة.
يبدو أنّها خُدشت خدشًا سطحيًا في راحة يدها رغم حذرها.
‘ما أضعف جلد هذا الجسد.’
نقرت لسانها بضيق، لكنّه أخرج منديله بسرعة ومدّ يده إليها.
“أعطيني يدك.”
……
تأمّلت ريتا وجهه الشبيه بوجهها، ثم سلّمت يدها بهدوء.
ضغط ليونهارت على الجرح وربطه بالمنديل قائلًا:
“الحمد لله أنّها ليست إصابة خطيرة. سنكتفي بإيقاف النزف الآن، وسأرسل الطبيب لاحقًا ليعالجكِ.”
“آسفة. أذيتُ جسد أختك.”
توقّف ليونهارت عن عقد المنديل.
تنفّست ريتا بعمق وأضافت:
“سأكون أكثر حذرًا من الآن فصاعدًا.
فهذا ليس جسدي.”
……
ظلّ ليونهارت صامتًا لحظة، ثم أنهى العقدة وأبعد يده.
وبنبرة متردّدة قال:
“قلتِ إنّكِ لستِ أختي.”
“نعم، لستُ هي.”
“ولِمَ أنتِ واثقة إلى هذا الحدّ؟”
نظرت ريتا نحو النافذة.
شمس ساطعة، وسماء صافية، وعالم أخضر منعش.
“سأعرّف بنفسي من البداية. اسمي ريتا باسكال، وعمري اثنتان وعشرون سنة.”
“اثنتان وعشرون؟”
“نعم.
لماذا؟ كم عمرها؟ تبدو أصغر، لكن—”
“ليلِيتا عمرها عشرون عامًا.”
“أرأيت؟ حتى العمر مختلف.
ثم إنّ مظهري الأصلي مختلف تمامًا عن هذا الجسد. كنتُ أملك شعرًا بنيًا محمرًّا وعينين بلونٍ مماثل.”
……
“وفوق ذلك، كنتُ من ‘أطفال باسكال’، وقائدة فرقة مستقلّة تابعة لخطّ الدفاع الأخير تُدعى ‘بيكون’.”
“باسكال؟ خطّ الدفاع الأخير؟”
سأل ليونهارت بارتباك، فتنفّست ريتا كأنّها كانت تتوقّع ذلك.
“يبدو أنّ عالمي مختلف تمامًا عن هذا العالم.
البيئة بحدّ ذاتها مختلفة.”
“عالم آخر؟ ماذا تعنين—”
“هل تعرف ما هي ‘الوحوش السحريّة’؟”
مسح ليونهارت فمه وهو يفكّر.
“لدينا وحوش، لكنّ التعبير مختلف.”
“وحوش؟ تقصد أورك، غوبلن، ترول؟”
“نعم.”
“تلك مخلوقات سمعتُ بها فقط في الحكايات.
على أيّ حال، تلك أنواع حيّة.
أمّا الوحوش السحريّة فهي شيء مختلف.
كائنات مشوّهة بسبب تلوّث المانا.
نسمّيها اختصارًا وحوشًا سحريّة.
لم تسمع بها من قبل؟”
“أبدًا.”
“……إذًا لا وجود لها هنا.
لذلك هذا العالم…… مسالم وجميل هكذا.”
نظرت ريتا مجددًا إلى النافذة.
ارتسمت على وجهها ابتسامة باهتة، خليط من الفراغ والمرارة.
تنفّس ليونهارت بعمق وسأل:
“إذًا…… وُلدتِ ونشأتِ في عالم توجد فيه تلك الوحوش؟ وهل تتذكّرين طفولتكِ؟”
“طفولتي؟ بالطبع لا أتذكّر كلّ شيء.
لكنّني أذكر الخطوط العريضة.
كنتُ يتيمة عاديّة.
كان ذلك عالمًا كهذا.”
“هل يمكنكِ أن تكوني أكثر تحديدًا—”
“قبل ذلك، حدّثني عن هذا المكان. حتّى اسم هذا العالم لا أعرفه.”
“آه.”
كان قد تسرّع.
تنحنح وعرّف بنفسه:
“اسمي ليونهارت ديل نيسا لاسكايل، أبلغ من العمر ثمانيةً وعشرين عامًا، وأنا الابن الأكبر لدوق لاسكايل. والدي هو الدوق فالدمار ديل ريجيس لاسكايل، ووالدتي الدوقة روزيتا ديل نيسا لاسكايل، ولي أخ أصغر بعامين يُدعى ريهارت.
هذه هي عائلة ليلِيتا.”
“أسماء طويلة وأنيقة.
لأنّكم نبلاء، أليس كذلك؟”
هزّت ريتا كتفيها وأضافت:
“في عالمي، الدوقات والنبلاء موجودون فقط في كتب القصص، لذلك لا أعرف آداب الأرستقراطيين. أتمنّى أن تتفهّم.”
“لا بأس. سأعيّن لكِ معلّم آداب، شخصًا كتومًا.”
“ماذا؟ هل تتوقّع منّي أن أتعلم الآداب؟”
“من الآن فصاعدًا، أنتِ نبيلة.”
“ماذا؟!”
فتحت ريتا عينيها بدهشة، كأنّها لا تصدّق ما تسمع.
استند ليونهارت إلى الأريكة وشبك أصابعه فوق ركبتيه.
“ريتا، قلتِ إنّكِ من عالم آخر، وإنّ روحكِ فقط دخلت جسد أختي.”
“همم، على الأرجح.”
“هل تعرفين لماذا حدث ذلك؟”
“للأسف لا. ظننتُ أنّني متّ، ثم فتحتُ عيني فوجدتُ نفسي في قاع بحيرة.”
“إذًا لا تعرفين أيّ وسيلة لاستعادة جسدكِ الأصلي أو العودة إلى عالمكِ، صحيح؟”
“……نعم.”
“إذًا، ما رأيكِ أن تعيشي مؤقّتًا باسم ‘ليلِيتا’؟”
“ماذا قلتَ؟”
“ليس لديكِ وسيلة للعودة، ولا مكان تذهبين إليه في هذا العالم. فلماذا لا تعيشين وفق هوية هذا الجسد، كليلِيتا لاسكايل؟”
“ما هذا الكلام—”
“ريتا، أختي كانت مفقودة منذ عشر سنوات، منذ أن كان عمرها عشر سنوات. بحثنا عنها طوال تلك السنوات، ولم نستسلم إلّا قبل أيّام، وأقمنا لها جنازة بتابوت فارغ.
والدتي أُغمي عليها آنذاك.”
……
“لا أستطيع تخيّل ما قد يحدث لوالدتي إن علمت أنّ جسد ابنتها عاد وفيه روح غريبة. والأسوأ، لو غادرتِ بهذا الجسد……”
……
“هل تفهمين ما أعنيه؟ إن كنتِ حقًّا تستعيرين جسدًا ليس لكِ، فأقلّ ما يمكنكِ فعله أن تؤدّي الدور الذي يليق به.”
“الدور…….”
“عيشي كابنة الدوق التي عادت بعد عشر سنوات، ‘ليلِيتا’. عندها سنعاملكِ كابنة لاسكايل الحقيقية. وستنعمين بحياة مترفة ومريحة مدى الحياة.”
تأمّلت ريتا المنظر الجميل خارج النافذة، ثم الغرفة الفاخرة الدافئة.
عالم بلا وحوش سحريّة، وحياة نبيلة ميسورة……
لا شكّ أنّها حياة مريحة.
لكن……
مرّت في ذهنها وجوه لا تُحصى.
تلاميذ أصغر، رفاق، قادة، ثم—
“لا تفعلي هذا، اللعنة! لا تفعلي! ريتا! أرجوكِ!”
تذكّرت الرجل الذي كان يصرخ وهو يندفع نحوها في اللحظة الأخيرة.
أقدم رفيق سلاح لها.
منذ أن أُبيد الأطفال الذين تدرّبوا معهم ولم يبقَ سواهما، أصبح كلٌّ منهما دافع الآخر الوحيد.
قد يكون قوله إنّه لا يستطيع العيش بدونها مجرّد مزاح، لكنّه الآن، وهو يظنّها ميتة، لا بدّ أنّه محطم—
جايد باسكال.
كانت ‘بيكون’ فرقة مستقلّة مكوّنة فقط من أطفال باسكال.
أيتام عاشوا في ساحات القتال منذ أوائل مراهقتهم، يراهنون بحياتهم كلّ يوم.
اتّخذوا من بعضهم بيتًا بدل البيت الذي لم يكن موجودًا، رابطتهم أشدّ من رابطة العائلة.
لا يمكنها أن تتركهم في الجحيم وتختار الراحة وحدها.
هزّت ريتا رأسها نفيًا.
“كلا.
لا أنوي أن أعيش هنا بهذا الجسد.
سأعود إلى عالمي الأصلي.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"