الحلقة الرابعة.
“………..”
ترددت ريتا للحظة، ثم أزاحت شظايا المرآة جانبًا وفكّت وثاق الخادمة.
كانت الفتاة تحدق إليها بعينين دامعتين، ترتجف كطائر مبلل، تلتمس النجاة بنظراتها المتوسلة.
وما إن لمحت إيماءة سريعة من ليونهارت حتى اندفعت الخادمة هاربة من الغرفة، كأنما الموت كان يطاردها.
أغلق ليونهارت الباب خلفها بهدوء، ثم استدار ينظر إلى شقيقته.
كانت جسدًا هزيلًا لا يكاد يُرى، أشبه بقبضة يد صغيرة، ولكن وقفتها الصلبة ونظرتها الحادة ذكّرتاه بفارس عجوز تمرّغ في ميادين القتال لعشر سنين.
أيُّ جحيم هذا الذي مرت به أثناء اختفائها؟
طعنه هذا الخاطر في قلبه، لكنه كبح شعوره بالعجز، وتحدث بنبرة هادئة خالية من الانفعال.
“…عندما عدنا إلى المنزل البارحة، كنتِ قد غرقتِ في نوم عميق، لذا أوصيت الخادمة أن تعتني بك…تغسلك، وتبدل ملابسك، ثم تركتك ترتاحين في هذه الغرفة. “
“ما حدث البارحة لا يتجاوز هذا، لا شيء آخر.”
سحب ليونهارت أنفاسه متذكرًا تفاصيل تلك الليلة.
حين وصلوا إلى قصر الدوق، كانت هي نائمة على ظهره، رأسها مستند إلى كتفه، وكأنها هربت من العالم كله إلى غيبوبة ثقيلة.
بدا عليه وكأنها لم تكن نائمة، بل شبه مغمى عليها من شدة الإنهاك.
وخلال انشغال الخادمة بتغسيلها وتبديل ثيابها، جلس ليونهارت مع أسرته يتحدث عن الليلة العاصفة التي عادت فيها ليليتا الفتاة التي طالما اعتقدوا أنها فقدت إلى الأبد.
كانوا قلة تلك الليلة: الأب، الأخ الأصغر، أما الأم، التي أغشي عليها أثناء مراسم الجنازة، فظلت مستلقية تتعافى.
قال ليونهارت، صوته مزيج من يقين وحيرة:
“لقد عادت ليليتا.”
ثم صمت لحظة، وكأن الكلمات تعلقت بحلقه، قبل أن يضيف:
“لكنها لا تتذكر طفولتها… لا شيء تقريبًا، بل تدّعي أنها ليست ليليتا على الإطلاق، بل تدعو نفسها ريتا، تقول إن هذا الجسد ربما يعود ليليتا، لكن الروح التي تسكنه مختلفة تمامًا…”
في بيوت النبلاء الكبرى، توجد أدوات سحرية قديمة تحفظ الأنساب وتثبت صلة الدم، ويسمونها شجرة العائلة، وإن لم تكن شجرة بالمعنى الحرفي، بل رمز حي للدماء التي تجري في العروق.
أما عائلة لاسكايل، فكان رمزهم حوضًا ضخمًا من الماء تحيط به تماثيل برونزية تمثل الأنهار المتدفقة، رمزًا لجذورهم العميقة.
حين أسقطت الخادمة خصلة من شعر الفتاة في الحوض، ارتعش سطح الماء كأن روحًا أيقظت فيه، ثم تماوجت الرموز وارتسم الاسم بوضوح لا يقبل الشك:
زهرة السوسن الأرجوانية، سنابل القمح، وحجر كريم بنفسجي و شارة عائلة لاسكايل، يعلوها اسم محفور كالشمس الساطعة:
“ليليتا دل نيسا لاسكايل.”
كان هذا برهانًا قاطعًا؛ مهما ادّعت الفتاة، فدمها هو دم لاسكايل، والجسد هو جسد تلك الطفلة التي قضوا عشر سنوات يطاردون طيفها.
قال الدوق، صوته مفعم بالشكوك:
“ليونهارت… هل تعني أن روحها أيضًا هي ليست ليليتا؟ أم أنك تظن فقط أنها نسيت ماضيها وعاشت كل تلك السنين على أنها شخص آخر… فصارت تعتقد الآن أنها ليست ابنتنا؟”
أجاب ليونهارت بثبات، وإن كان في أعماقه عاصفة تعصف:
“نعم، هذا ما أراه.”
وثق دوق لاسكايل بحكم ابنه الأكبر، الذي ورث عنه العقل والحكمة.
لكن الأخ الأصغر، كان يرمق شقيقه بعينين متصلبتين، يرفض أن يتقبل ما سمعه.
“قلتَ إنها أنكرت أن الجسد جسدها، أليس كذلك؟ قالت كأن روحًا غريبة استحوذت عليه بعد موتها، كالأرواح التي تستدعيها السحر الأسود؟! سمعت أن هناك نوعًا من السحر يفعل هذا… ماذا لو كان شخصًا آخر قد سلب جسد ليليتا فعلًا؟!”
هكذا، وبعد نقاش طويل، توصّلوا إلى خلاصة واحدة…
جلس ليونهارت على الأريكة في غرفة ليليتا، ثم أشار بذقنه نحو المقعد المقابل.
“تعالي، اجلسي هنا لنكمل حديثنا، يا ريتا.”
“……”
تحركت ريتا ببطء وجلست قبالته، موضوعة بجانبها قطعة المرآة المكسورة، حيث تستطيع الإمساك بها في أي لحظة إذا اضطرت.
وقعت عينا ليونهارت على الشظايا المحطمة المرمية في زاوية الغرفة، فتابعها بنظره بتمعن، ما جعل ريتا تشعر بتقلص في عنقها، فبادرت تتعذر بنبرة متوترة:
“كنت بحاجة إلى سلاح… سأعوّضك لاحقًا، بطريقة ما.”
كان ليونهارت على وشك أن يطمئنها، لولا أن عينيه وقعتا على يدها، فتغيرت ملامحه فجأة، وصاح:
“لقد جرحتِ نفسك!”
“هاه؟”
نظرت ريتا إلى كفها اليمنى، ولم تخفِ ارتباكها.
مع أنها أمسكت الشظية بحذر، إلا أن قطعة زجاج رقيقة شقت راحتها، فتركت أثرًا داميًا خفيفًا.
كم هذا الجسد هش!
تمتمت في سرّها بامتعاض، ولسانها يقرع أسنانها كمن لا يصدق ما يراه.
وفي تلك اللحظة، أسرع ليونهارت يسحب منديلًا من جيبه، ومد يده نحوها بأمر حازم:
“ناوليني يدك.”
نظرت ريتا إلى وجهه، الذي يحمل نفس ملامحها تقريبًا، وانتابها شعور غريب، ثم سلّمته يدها دون مقاومة.
ضغط ليونهارت على الجرح الصغير، ولفه بالمنديل، صوته ينزل عليها كتحذير حنون:
“يا للراحة، أنه جرح سطحي، ليس خطيرًا. سأوقف النزيف الآن، وسأرسل طبيب القصر إليك لاحقًا ليعالجك كما ينبغي.”
تناهى إلى مسامعه صوتها، خافتًا لكن مثقلًا بالذنب:
“أنا آسفة… لقد جرحت جسد أختك، من غير قصد.”
توقف ليونهارت عن لف المنديل لوهلة، ثم نظر إليها بنظرة معقدة يصعب تفكيكها.
تنهدت ريتا، وكأنها تحمل على صدرها صخرة، ثم قالت، صوتها مكسور بعض الشيء:
“سأكون أكثر حرصًا من الآن فصاعدًا… فهذا الجسد ليس لي، في النهاية.”
ساد صمت ثقيل للحظة، قبل أن يشد ليونهارت العقد الأخير في المنديل، ويترك يدها بهدوء.
ثم رفع رأسه، صوته منخفض لكنه مشحون بشيء أقرب إلى الألم:
“أنت قلتِ إنك لستِ شقيقتي، أليس كذلك؟”
أجابت ريتا بلا تردد، وكأن الجواب صار جزءًا من نبضها:
“نعم، لستُ هي.”
“لكن… لماذا تبدين واثقة هكذا؟”
رمقت ريتا النافذة نظرة عابرة، حيث كانت الشمس تبسط ضوءها الذهبي على أرضية الغرفة، والسماء صافية كصفحة ماء رقراق.
ثم التفتت إليه، ونطقت كمن يقدم اعترافًا أخيرًا:
“حسنًا، دعني أعرّفك بنفسي كما ينبغي. اسمي ريتا باسكال، وعمري اثنان وعشرون عامًا.”
ارتفع حاجبا ليونهارت بدهشة واضحة:
“اثنان وعشرون؟”
ابتسمت ريتا ابتسامة مشوبة بالمرارة:
“نعم، لماذا؟ كم كان عمر هذه الفتاة؟ تبدو أصغر قليلًا، صحيح؟”
ردّ بصوت حاد قليلًا:
“ليليتا في العشرين.”
هزّت ريتا رأسها بابتسامة صغيرة، كمن يضع الدليل الأخير على الطاولة:
“أرأيت؟ حتى العمر لا يتطابق، ليس هذا فحسب، حتى مظهري الحقيقي مختلف تمامًا، شعري كان كستنائي اللون، يميل إلى الحمرة، وعيناي كانتا بلون النبيذ، بنيّتان مائلتان للأحمر. لا يشبهان هذا الجسد إطلاقًا.”
توقفت لحظة، ثم أكملت، نبرتها تتبدل فجأة، تزداد صلابة:
“وفوق ذلك، أنا كنت قائدة وحدة مستقلة، ضمن خط الدفاع الأخير، الفرقة الذاتية المعروفة باسم بيكون.”
ارتجف حاجباه، وأعاد كلمتيها بتردد:
“قوة باسكال؟… خط الدفاع الأخير؟”
عندما كرر ليونهارت السؤال بنبرة مشوبة بالارتباك، أطلقت ريتا تنهيدة طويلة، وقد خيّم على وجهها تعبير يقول بوضوح:
كما توقعت.
“يبدو أن العالم الذي كنت أعيش فيه… يختلف تمامًا عن هذا المكان، كل شيء هنا غريب علي، حتى الجو، حتى الهدوء هذا… إنه مريب بقدر ما هو جميل.”
قطّب ليونهارت حاجبيه، يضغط بإصبعه على ذقنه وهو يفكر، ثم قال ببطء:
“عالم آخر؟ ماذا تعنين…؟”
رفعت ريتا عينيها نحوه، تسأل، وفي صوتها نبرة اختبارية:
“هل تعرف شيئًا اسمه ‘الوحوش السحرية’؟”
مرر ليونهارت يده على فمه مفكرًا، ثم أجاب:
“هناك ما نسميه بالوحوش… لكن الكلمة التي استخدمتها تحمل وقعًا مختلفًا، أليس كذلك؟”
ارتفعت زاوية فم ريتا بسخرية خافتة:
“وحوش؟ تعني مثل الأورك، أو الغوبلين، أو التروول؟”
أومأ ببطء:
“نعم، هذه الأجناس التي نسمع عنها في القصص القديمة.”
ضحكت ريتا ضحكة قصيرة، لكنها بلا فرح:
“أما أنا فلم أسمع بتلك إلا في الحكايات الخرافية، على كل حال، ما تتحدث عنه أنواع حية، مخلوقات من جنس معين.”
“أما الوحوش السحرية في عالمي، فهي شيء آخر تمامًا، كائنات مشوهة بفعل تلوث الطاقة السحرية، اختصارًا نسميها ‘الوحوش السحرية’، أو ‘الماسو’، أول مرة تسمع بها، صحيح؟”
هز ليونهارت رأسه، عابسًا:
“لم أسمع بهذا قط.”
أطلقت ريتا زفيرًا عميقًا، وعيناها تتعلقان مرة أخرى بالسماء الصافية خلف النافذة، تلك السماء التي لا تعرف عنها شيئًا، كأنها مشهد من حلم بعيد.
قالت بصوت مشوب بالمرارة:
“يعني هذا أن عالمكم لا يعرفهم، ولهذا… هو مسالم وجميل إلى هذا الحد.”
ارتسمت على شفتيها ابتسامة هزيلة، وبدت ملامحها للحظة وكأنها تتأرجح بين الحزن والاستسلام، وكأنها تبتلع غصّة خفية.
أما ليونهارت، فقد مرر يده على وجهه في حركة عصبية، ثم سألها، نبرته ممزوجة بشك متزايد:
“إذن… هل وُلدتِ وتربيتِ في هذا العالم الذي يعج بما سمّيته الوحوش السحرية؟ هل تحتفظين بذكرياتك عن طفولتك هناك؟”
رمقته ريتا بنظرة جانبية، وقالت بنبرة واقعية خالية من التجميل:
“طفولتي؟ بالطبع لا أذكرها بالكامل، لا أحد يفعل، لكن… أتذكر الخطوط العريضة، على الأقل، كنت يتيمة عادية، لا شيء مميز.. في عالم مثل ذاك، كان هذا أمرًا شائعًا جدًا.”
مال ليونهارت للأمام قليلًا، صوته يزداد حدة:
“أريد تفاصيل أكثر، كوني أكثر تحديدًا…”
لكن ريتا قاطعته وهي تلوّح بيدها بفتور:
“قبل ذلك، لمَ لا تخبرني عن هذا المكان؟ أنا حتى الآن لا أعرف أسماءكم جميعًا.”
توقف ليونهارت، وبدت عليه لمحة ندم على اندفاعه، ثم اعتدل جالسًا وقد تنحنح خفيفًا.
قال، وصوته عاد للهدوء:
“صحيح، تسرعت، اسمي ليونهارت ديل نيسا لاسكايل، عمري ثمانٍ وعشرون عامًا، وأنا الابن الأكبر لعائلة الدوق لاسكايل.”
“والدي هو الدوق فالديمار ديل ريجيس لاسكايل، ووالدتي هي الدوقة روزيتا ديل نيسا لاسكايل، أما أخي الأصغر، فهو ريهارت، يصغرني بعامين. “
“ونحن الأربعة… عائلة ليليتا، أو لنقل… عائلتك الجديدة.”
رفعت ريتا حاجبيها، تبتسم بخفة لم تخفَ على ليونهارت:
“أسماؤكم طويلة… وتبدو فخمة، كما يليق بالنبلاء، أليس كذلك؟”
ثم هزّت كتفيها باستخفاف ناعم، وأضافت:
“في عالمي، الدوقات والنبلاء لا يظهرون إلا في قصص الأطفال، لذا، لا تتوقع مني أن أكون خبيرة بآداب الطبقة العليا، أتمنى أن تتفهم وضعي.”
ردّ ليونهارت بابتسامة مقتضبة، وقال بنبرة عملية:
“لا بأس، سأجلب لك معلمًا للآداب، شخصًا أمينًا وكاتمًا للسر.”
رمشت ريتا بدهشة، عاقدة حاجبيها:
“ماذا؟ تعني أنك ستجعلني أدرس آداب النبلاء؟!”
ابتسم ليونهارت ابتسامة واسعة هذه المرة، واستند إلى ظهر الأريكة، مشبكًا أصابعه فوق ركبتيه:
“بالطبع، من هذه اللحظة، أنتِ أيضًا تنتمين إلى عائلة نبيلة.”
اتسعت عينا ريتا، وحدقت به كما لو أنه تفوّه بكلام لا معنى له:
“ماذا تقول بحق الجحيم؟! هل فقدت صوابك؟”
لم يُجِبها مباشرة، بل ظل ينظر إليها، عيناه تراقبان كل تعبير يمر على وجهها المتقلّب.
ثم قال، صوته انخفض، ولكن فيه ثقل الحقيقة:
“ريتا، أنتِ نفسك قلتِ إنك من عالم آخر… وإن روحك فقط هي من حلت في جسد شقيقتي.”
أومأت برأسها ببطء، وشفتيها تنفرجان عن همهمة خافتة:
“على الأرجح… هذا ما يبدو عليه الأمر.”
“إذن، هل تعرفين سبب حدوث هذا كله؟ لماذا حللتِ في هذا الجسد بالتحديد؟”
ارتجفت أنفاس ريتا، وأجابت بصراحة قاتمة:
“آسفة… ليس لدي أدنى فكرة، كل ما أعلمه هو أنني كنت مقتنعة أنني متُّ، ثم… عندما فتحت عيني، وجدت نفسي في أعماق بحيرة.”
توقف ليونهارت، يتأملها، ثم سألها بنبرة أخف، لكنها لا تزال تتقصى:
“إذن، لا تعرفين وسيلة لاستعادة جسدك؟ ولا تملكين طريقة للعودة إلى عالمك القديم؟”
رمش ليونهارت ببطء، وكأنه يحاول استيعاب عنادها، ثم قال بنبرة هادئة لكنها تخفي تحتها نبرة إقناع ثقيلة:
“إذًا، هذا يعني أنك… لا تنوين البقاء هنا طويلاً، صحيح؟”
ارتجفت أهداب ريتا للحظة، ثم همست، شفتاها بالكاد تتحركان:
“…نعم، هذا صحيح.”
رفع ليونهارت نظره إليها، عينيه تزدادان عمقًا وثقلاً مع كل كلمة:
“ومع ذلك، ماذا عن الوقت الحاضر؟ الآن، وأنتِ في هذا الجسد، بلا طريقة للعودة، ولا مكان تلجئين إليه في هذا العالم، ما رأيك أن تعيشي مؤقتًا كـ ‘ليليتا’؟”
شهقت ريتا، كأنما صُدمت من بساطة عرضه بالنسبة إلى فداحة ما يطلبه:
“ماذا؟!”
تجاهل احتجاجها، وتابع، صوته ثابت كمن يقرأ قرارًا لا رجعة فيه:
“ريتا، أختي ليليتا كانت مفقودة منذ أن كانت في العاشرة، عشرة أعوام ونحن نبحث عنها، حتى استنفدنا كل الطرق… وفي النهاية، قبل أيام فقط، أقمنا لها جنازة بلا جثمان، تابوت فارغ، لكن والدتي انهارت عند رؤيته.”
شعرت ريتا بشيء ثقيل يهبط على صدرها، عندما تخيّلت امرأة مفجوعة تسقط مغشيًا عليها أمام نعش ابنتها الفارغ.
“والآن…”
أكمل ليونهارت، وصوته ينخفض كمن يخشى حتى نطق ما يفكر فيه.
“لو علمت والدتي أن ابنتها التي عادت، ما هي إلا جسدها فقط، بينما تسكنه روح شخص غريب… لا أعلم ما الذي سيحدث لها، وإن غادرتِ أنتِ الآن، وتركتِ هذا الجسد خلفك بلا روح، فسيكون ذلك موتًا ثانيًا لها.”
اتسعت عينا ريتا، قلبها ينبض بعنف، وهي تهمس:
“…أنت تعني…”
أومأ ليونهارت، صوته حاد، كأنه يقطع بحكم قاطع:
“أفهم وضعك، ريتا، وأصدق أنك روح أخرى، لكن بما أنك استعرتِ هذا الجسد، فلتؤدّي على الأقل الدور الذي يُناسبه.”
“عيشي كـ’ليليتا’ حتى… حتى نجد حلًا هذه أقل مسؤولية عليكِ.”
ارتجفت شفتاها، تعلّق ذهنها بكلمة واحدة تتردد كصدى:
دور…
تابع هو، عاقدًا يديه فوق ركبتيه:
“بصفتك ابنة دوق لاسكايل، سنعاملك كالأميرة التي عادت لعائلتها”
“حياة فاخرة، قصور، خدم، كل ما تحتاجينه سيكون بين يديك، لا قتال، لا جوع، لا دماء فقط حياة هانئة، كما يليق بنبيلة من سلالتنا.”
ببطء، أدارت ريتا رأسها نحو النافذة خلف الزجاج، كان المشهد يبدو كلوحة معلّقة:
سماء زرقاء صافية، حدائق مزدانة بالأزهار، وأشجار تتراقص مع نسمات ناعمة جمال هادئ، عالم لا يعرف شيئًا عن الفوضى التي خبرتها.
لكن خلف عينيها، تسللت وجوه، كالأشباح، لتطفو في ذاكرتها.
وجوه أولئك الذين قاتلوا بجانبها، من كانوا يسقطون واحدًا تلو الآخر بينما كانت هي تصرخ، تحاول أن تبقيهم أحياء.
وجوه الصغار الذين علمتهم كيف يصمدون، كيف لا يخافون، رغم أن عيونهم ما زالت تحمل براءة الطفولة.
وأخيرًا، جاء صوته… ذلك الصوت الذي انطبع في ذاكرتها كطعنة لا تندمل.
“لا تفعليها، ريتا! بحقك، توقفي! لا تفعلها! ريتا!”
تجمدت أنفاسها، عندما لمعت صورة ذلك الرجل في مخيلتها:
جيد باسكال.
رفيقها الأقدم، من ظل بجانبها عندما فقدوا كل شيء، الرجل الذي قال يومًا، بنصف ضحكة ونصف ألم:
“لا استطيع العيش من دونك ، ريتا.”
تخيلته الآن، ينهار حين يظن أنها ماتت، كما ظن الجميع.
ضغطت على قبضتيها، أظافرها تغرز في راحتيها، وصوت قلبها يهدر كطبول معركة.
“إن كان ما يزال على قيد الحياة… فعلي أن أعود، بأي ثمن.”
كانت بيكون، فرقة الظلال الأخيرة، عائلتها الحقيقية.
أيتام مثلها، كبروا وهم يحترفون الموت، يعيشون على الحافة، لم تكن تستطيع تركهم هناك، في الجحيم، بينما تنعم هي هنا بحياة أرستقراطية رخوة.
رفعت رأسها، عيناها تلمعان بإصرار عنيد، وقالت ببطء، وكأن كل كلمة كانت سكينًا تشق الهواء:
“…لا. لا أنوي العيش هنا كـ’ليليتا’، لن أرتدي قناعها، ولن أختبئ خلف اسمها سأنهي هذا الوضع وأعود، مهما تطلّب الأمر، سأرجع إلى عالمي، إلى جسدي.”
صمت ليونهارت، يحدق بها طويلًا، وكأنما يرى لأول مرة أن هذه الفتاة، رغم هشاشة جسدها الجديد، تخفي خلف أضلاعها محاربة حقيقية.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"