الحلقة التاسعة والثلاثون.

رغم أن ريهارت قد خاض تجربة صيد الوحوش بصفتِه فارسًا، إلا أنه لم يمر بتجربة الحرب الفعلية.

بل، الأمر ليس مجرد مسألة شخصية.

 فقد مرت مئة سنة تقريبًا منذ الحرب الأخيرة التي خاضتها الإمبراطورية. 

ولم يعد هناك في صفوف المواطنين من عاش تجربة الحرب مباشرة.

عصرٌ سلمي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

ومع انزعاج ريهارت من الرائحة الكريهة والديدان والمشهد المروع، كانت شقيقته تتفحص الجثة بهدوء وتحلل علامات الوفاة كما لو كانت معادلة علمية باردة.

“تعرّض للضرب على مؤخرة رأسه فسقط إلى الأمام، وقد أُكلت أمعاؤه، كان على قيد الحياة حتى لحظة سقوطه… والجاني ليس بشريًا، ولا حتى حيوانًا عاديًا، يبدو أنه خرج للصيد بمفرده ولاقى حتفه… مؤسف.”

ثم عدّلت ريتا قفازها، وأعادت الجثة إلى وضعها الطبيعي، وجمعت الأمعاء المتناثرة وأعادتها إلى البطن.

صُدم ريهارت.

“ماذا… ماذا تفعلين؟”

 “لا يمكن أن نترك إنسانًا في هذا الوضع، لو رأى أهلُه هذا، لإنهاروا من الصدمة.”

وقف ريهارت مذهولًا، مراقبًا شقيقته. 

كانت حركتها في ترتيب الجثة غير عنيفة، بل تحمل احترامًا للميت، وكأنها تؤدي واجبًا لشخص كان حيًا قبل لحظات.

‘هي ليست مجرد جثة غريبة… إنها جسد إنسان يستحق الاحترام.’

كانت ريتا معتادة على الموت، وربما طبيعتها في التعامل مع الموت تجعلها تتصرف بهذه الطريقة الطبيعية، البعيدة عن أي شعور بالخوف أو الرعب.

ريهارت شعر بمزيج من الغربة والإعجاب تجاهها.

 شعور بالاحترام لشقيقة التي اعتبرها دومًا صغيرة وضعيفة.

‘أحقًا أشعر بالاحترام تجاهها؟’

لم يعرف ريهارت أنه في الوقت الذي كانت ريتا تعيد فيه الأطراف الممزقة إلى أماكنها، توقفت فجأة، وركّزت نظرتها على مفاصل الجسد المترنحة.

“ريهي أوبّا.”

“نعم…؟”

“لقد أُمسكت أطرافه قبل أن تتمزق، وأُكلت بعض أمعائه فقط، وترك بقية الجسد، هل يوجد وحش يقتل البشر بهذه الطريقة؟”

“همم… العفريت شرير لكنه صغير الحجم، لا يستطيع اللعب مع رجل بالغ بهذا الشكل، الغيلان ضخمة و قوية لكنها لا تعبث بفريستها، إذا كان ممكنًا، فالأورك، لكنه يعيش جماعيًا، ولا يترك فريسته هكذا.”

“إذن لا يخطر ببالك أي وحش محدد؟”

“في الوقت الحالي، لا، لكن هناك أنواع عديدة من الوحوش، وإذا بحثنا جيدًا سنعرف هويته.”

فتحت ريتا فمها لتقول شيئًا ثم أغلقت، مستوعبة أن هذا النوع من الوحوش الشبيهة بالقرود غالبًا ما يقتل البشر بهذه الطريقة، يسمى بالقرود الشياطين.

هذا الشيطان يُمسك بالأطراف، يأكل ما يعجبه من الأمعاء، ويترك البقية كما لو كانت قمامة.
لهذا السبب لم يكن المشهد غريبًا عليها.

‘لكن… في هذا العالم لا يوجد هذا النوع من الشياطين، ولا أحد يعرف حتى ما هو هذا الشيطان.’

رفعت رأسها لتتقصّى المحيط.

 لم تكن هناك أي آثار أقدام أو علامات لحركة الكائن. 

فقط بعض الأغصان المكسورة لشجرة مجاورة. 

وعند التدقيق، كانت الشجرة تموت تدريجيًا.

‘آه… الأشجار التي تتأثر بوحوش القردة أثناء تنقلها تموت بفعل تلوث السحر.’

اقتربت ريتا من الشجرة، وخلعت قفازها، ووضعَت يديها على الجذع.

“ريتا؟”

“لحظة فقط.”

ركزت الطاقة السحرية لتفحص أثر تلوث السحر على الشجرة.
‘لو كانت الشجرة تموت بسبب التلوث السحري، لكان من الواضح الآن…’

لكنها لم تشعر بأي شيء، ربما مجرد تأثير الكسر أو أسباب طبيعية أخرى أدت إلى موت الشجرة.
‘صحيح، هذا عالم خالٍ من تلوث السحر، إذن الشجرة تموت لأسباب طبيعية، لا وجود لتلوث سحر هنا.’

ورغم ذلك، شعرت بشيء من الغرابة.

 نظرت إلى ريهارت وقالت.

“ريهي أوبّا.”

“أولًا، دعينا نستدعي أحدًا، هناك جثة هنا…”

“هل أنت متأكد من أنه لا يوجد شياطين في هذا العالم؟”

“بالطبع، أنتِ كنت أول من سمعتُ منه هذا الأسم.”

“أليس موجودًا ولم تعثروا عليه فحسب؟”

“إذا اكتُشف كائن غريب، أول من يعلم هو الكهنة في المعبد ، أي شخص يلاحظ شيء غريب يهرع فورًا للمعبد ليطلب النجدة.”

“أها.”

“حسب قولك، الشيطان ليس كائنًا يتكاثر، بل هو نتيجة تلوث السحر الذي يحوّل الحيوانات أو البشر أو حتى الأشياء إلى كائنات شريرة، لو ظهر شيء كهذا، لكان المعبد قد اهتز بالكامل، لم تصلنا أي أخبار.”

“…أفهم.”

“ربما هو وحش غير معروف بعد، أو نوع لم يُكتشف، احتمال كبير أنه جاء من الغابة السوداء، سنحقّق لنكتشف هويته.”

“حسنًا.”

إذا كان هذا عالمًا توجد فيه الوحوش والشياطين معًا، لما كان بالإمكان أن يسود السلام. 

أي شيطان يمكن أن يظهر في أي لحظة، وبدون استعداد لتلوث السحر، سيكون الوضع أكثر فظاعة من العالم الذي نشأت فيه ريتا.

‘لكن… ماذا لو كانت هناك شياطين هنا أيضًا، فقط لم يُكتشف تلوثها بعد؟’

شعرت بقشعريرة تمرّ عبر جسدها. 

قبضت على مسدسها بقوة لتكبح الخوف والكوابيس المفاجئة.

‘لا، مجرد رد فعل مفرط، هذا وطني، مختلف عن هناك.’

أطلقت يدها ببطء وتنفسّت بعمق.
‘لكن لن أغفل تمامًا، قد تظهر مفاجآت في أي وقت.’

أثناء ذلك، أطلق ريهارت صاروخًا إشارة. توقف الصيد فورًا عند اكتشاف الجثة.

مع أن موت شخص على يد وحش مجهول في غابة الأميثيست أمر نادر، إلا أنه ليس مستحيلًا.

 الغابة متصلة بالغابة السوداء التي تعج بالوحوش، وقد حدثت مثل هذه الحوادث من قبل.

باشر الحرس التحقيق في هوية القتيل، وزادوا من تأمين القرى القريبة، بينما قام فرسان لاسكايل بتفتيش الغابة بأكملها لتتبع أثر الوحش واصطياده.

كانت الحادثة مجرد حادث، لكن دوق لاسكايل أمر بتقديم تعويضات وأجر جنائز للمتضررين. 

كما طلبت ريتا إعلامها بهوية الوحش إذا تم كشفه لاحقًا.

رغم أن الصيد لم يمنحها شعورًا بالراحة، بل زاد من قلقها وزيادة الكوابيس، إلا أنها لم تُظهر ذلك أمام عائلتها.

وانتهى الحدث في 7 أبريل 1770، حين غادرت عائلة لاسكايل متجهين إلى العاصمة، ووصلوا بعد رحلة هادئة استمرت ثلاثة أيام إلى رامكاد.

في الوقت نفسه، وصل عدد كبير من النبلاء إلى العاصمة، وعادت الحياة إلى قصور المدينة التي كانت فارغة.

كانت بداية الموسم الاجتماعي للإمبراطورية.

***

2. لقاء مجدد

قصور المدينة مخصصة للنبلاء الذين يأتون من الأراضي الإقليمية لإقامة مؤقتة بالعاصمة.

يمكنهم البقاء في الفنادق، لكن شراء منزل وإعداده كمقر مؤقت أكثر جدوى إذا كانوا يترددون كثيرًا على العاصمة.

مع موسم اجتماعي طويل يمتد لأربعة أشهر، يفضل معظم نبلاء كايرم الاحتفاظ بِـ قصر بالمدينة. 

بعض العائلات تستأجره فقط خلال الموسم، لكن البيوت العريقة تبني قصرًا فاخرًا.

وعائلة لاسكايل، واحدة من أكبر الدوقات في الإمبراطورية، لم تكن استثناء.

كريم دوم.

سيلاحظ أي زائر سبب تسمية قصر المدينة بهذا الاسم، مبنى رائع من الطوب الكريمي، مع قبة كبيرة في منتصفه.

كانت القبة سقف قاعة الاحتفالات، واسم كريم دوم يشير أيضًا إلى هذه القاعة المميزة.

القاعة مزينة بنقوش ولوحات جدارية دقيقة، وبفضل أحد أسلاف لاسكايل المهتمين بالفن، أصبحت القاعة تحفة معمارية وفنية.

وفي هذه القاعة، كان من المقرر أن يُقام حفل الظهور الأول للأميرة الوحيدة لعائلة لاسكايل، ريتا، في 17 أبريل القادم.

حين وصلت الدعوات، صُعق النبلاء.

 لم يشاركوا في الموسم الاجتماعي تقريبًا خلال السنوات العشر الماضية، ومن المدهش أنهم يعقدون حفلًا الآن، بعد اختفاء الأميرة لمدة عشر سنوات، وعادت لتُعلن عن ظهورها الرسمي.

كان من المؤكد أن هذا الحدث سيكون الأبرز خلال الموسم، ولم يكن بالإمكان تفويته، فتهاف النبلاء على إرسال ردودهم سريعًا.

وبين الردود، كان هناك بعض الردود القادمة من البلاط الملكي.

“سيدتي، هل سمعتِ؟ ولي العهد سيحضر حفل ظهورك الرسمي!”

قناة التيلي : https://t.me/+34Ui4bbNIOsyYmE0