كانت ليندسي تتابع شرحها بنبرة جريئة لا تعرف التردّد.
“الإمبراطور السابق كان الابن الثاني، والإمبراطورة السابقة كانت من أصل متواضع، وولي العهد الحالي يحمل دم خادمة عادية لا يمكن حتى رفعها إلى مرتبة الإمبراطورة. بالمقابل، الدوق الأكبر أديكل من الجيل السابق تزوج أميرة من دولة أخرى، والدوق الأكبر الحالي تزوج من الآنسة النبيلة من عائلة دويربورغ، التي تُعتبر مع لاسكايل العائلتين الوحيدتين من مرتبة دوق في الإمبراطورية، هل تستطيعي أن تستنتجي معنى هذا يا آنسة؟”
قالت ريتا بعد برهة صمت وقد عقدت حاجبيها. “…… إنك تقصدين أن وريث آل أديكل المولود من هذا الزواج، لو أخذنا نقاء الدم فقط، لكان أنقى نسبًا من ولي العهد الحالي؟ وأن دُويربورغ سيكون بيت جدّه من جهة الأم؟”
ابتسمت ليندسي بخفة.
“بالضبط، ثم لا تنسي أن آل لاسكايل هم العائلة الوحيدة القادرة على الوقوف في وجه آل دُويربورغ.”
تمتمت ريتا وهي ترفع يدها إلى صدغها يائسة من ثقل التفكير.
“يكفي هذا ليكون لدوق أديكل دافعٌ قوي.”
كانت جبهتها تؤلمها.
لم يكن في عالم ريتا باسكال القديم وجود لملوك أو نبلاء، لكنها رأت بما يكفي في مقرّ القيادة أيام انهيار العالم من دسائس السياسة وصراعات النفوذ لتعلم كم هو سامّ ذاك الطريق.
لقد جرّبت بأمّ عينيها كيف أن حتى على جبهة الدفاع الأخيرة، حين كانت الإنسانية على حافة الفناء، لم يكن هناك سوى رجالٌ عُمي عن كل شيء سوى السلطة.
ورأت كيف يجرّون الجميع إلى الهلاك، وكيف خسرت رفاقًا، وتخطّت بوابات الموت مرارًا.
ومن خلال تلك السنوات الموحشة، نشأت ليليتا العشرينية، أشدّ نضجًا من الطفلة البريئة التي كانت تُدعى ليلي، وأكثر وعيًا بثقل موقعها كابنة لعائلة لاسكايل.
‘أيعقل أنّ اختفائي هذا قد يكون جزءًا من نزاع سياسي كهذا؟’
تردّد في داخلها سؤال يلسعها.
إذا كشفنا عن العقل المدبر وراء هذا، فهل ستُجرّ عائلة لاسكايل إلى الصراع السري على العرش؟ ألن يُعرّض ذلك عائلتي للخطر؟
‘فهل الأجدى إذن أن أدفنه وأتظاهر بالجهل؟ أم أن العكس أصحّ، أن أحفر أكثر حتى يظهر العدو بوجهه الحقيقي ثم أطيحه؟’
انعقدت شفتاها في تفكير مظلم.
إن كان دوق أديكل حقًا هو الرأس المدبّر… ألن يكون من الأنسب أن أقتنصه من بعيد برصاصة واحدة وأنهي الأمر؟ هنا لا يعرفون شيئًا عن فنون القنص الحديثة، فلن يشكّ أحد.
أيهما يضمن سلامة عائلتها أكثر.. أن تترك النار مطموسة تحت الرماد، أم أن تقتلعها جذورًا؟
لكن قبل أن تغرق في دوّامة الأفكار، قطعت ليندسي صمتها وقد صفّقت براحتها فجأة لتجذب انتباهها.
“لكن، سيدتي… الحقيقة أن هذه القضية انتهت تقريبًا.”
رفعت ريتا حاجبها بدهشة.
“ماذا؟ انتهت؟ أي قضية؟”
“قضية النسب، نسب ولي العهد ودوق أديكل، قبل أربع سنوات فقط، كانت هذه المسألة ملتهبة حقًا، الإمبراطور الحالي ضعيف… أعني، قليل الاهتمام بشؤون الحكم، أما ولي العهد الذي كان ذكيًا في الأصل فقد أصيب قبل سنوات بحادث جعله أحمقًا، الأمر الذي منح دوق أديكل نفوذًا هائلًا آنذاك…”
تنهّدت ليندسي ورفعت كتفيها ثم أتمّت.
“لكن منذ أربع سنوات، استعاد سموّ ولي العهد رشده فجأة، وما إن فتح عينيه حتى صفّى جميع من حاولوا التسلّق على ظهره في تلك المدة، ودوق أديكل كان أبرز من سَحقهم ولي العهد.”
اتسعت عينا ريتا قليلًا.
“سحقهم؟”
سعلت ليندسي بخفة ثم قالت بنبرة اعتذار مصطنعة.
“أعتذر على اللفظ، لكن بالفعل… منذ ذلك الحين لم يعد أحد يجرؤ على التطرق لموضوع النسب، لقد وطّد ولي العهد مكانته لدرجة أن حتى آل دُويربورغ صمتوا، وأما دوق أديكل فقد أُبعد مطرودًا من العاصمة إلى إقطاعيته، ولم يبقَ له لسان ينطق به، فمن ذا الذي يجرؤ على التحدي الآن؟”
ثم التفتت إلى ريتا وابتسمت لها ابتسامة مشرقة تكاد تبعث على الارتياح.
“لهذا السبب، بوسعك يا سيدتي أن تلاحقي خلفية حادث اختطافك من دون خشية، وحتى لو ثبت أن دوق أديكل متورط، فبمجرد أن يكون الدليل قاطعًا، فإن سعادة الدوق سيقدر على معاقبته كما يجب.”
تأملت ريتا وجهها الذي بدا مبهجًا حدّ الغرابة، ثم انفلت منها ضحكة قصيرة ساخرة.
“وأنا متأكدة أن ولي العهد جيديون سيكون سعيدًا جدًّا بمعاقبة دوق أديكل، أليس كذلك؟”
أجابتها ليندسي بسرعة.
“بلى، بكل تأكيد.”
أومأت ريتا.
“فهمت، أحسنتِ يا ليندسي.”
انحنت قليلًا وهي تقول.
“ذلك لأن سيدتي تتسع رحابتها لكل كلماتي.”
ابتسمت ريتا جانبًا.
“وأنا لا أرى في كلماتك خطأً كي أرفضها.”
ثم أضافت بنبرة حاسمة.
“لكن، قضية والد هانا، لا تحرّكيها أكثر الآن، سأناقشها مع والديّ فيما بعد.”
“أمرُك، سيدتي.”
نهضت ريتا عن مقعدها بعد أن ألقت نظرة سريعة على الساعة.
“يكفينا درسًا لليوم… لقد حان وقت قدوم معلّمة الآداب.”
***
وهكذا انطلقت الأيام تتسارع كالسهام.
بينما كانت ليليتا تتلقى من خادمتها تعبيرات فظة تكشف لها عن خبايا البلاط والعائلات الكبرى، كانت أيضًا تخضع لدروس مكثّفة في آداب السلوك واللياقة.
ومع مرور الوقت، راحت ثقتها الأولى تلك التي اكتسبتها بجهل تتلاشى شيئًا فشيئًا.
‘مواجهة وحش أهون من هذا!’
هكذا كانت تتمتم كلما أُرهقت من قواعد الجلوس والقيام، من طريقة رفع الكأس، من أسلوب التحية الذي يتغير بحسب مكانة المخاطب، من قواعد التزيّن وتنسيق الملابس، من حركة المروحة وحتى طريقة الابتسام… بل حتى كيف تخرج إلى المرحاض.
كان كل جزء من الجسد، من الرأس حتى أخمص القدم، محكومًا بقواعد لا تنتهي.
لو أنها نشأت منذ الطفولة كابنة دوق، لكانت تلك العادات انغرست فيها طبيعيًا.
لكنها، وقد جاهدت لتلقين نفسها كل هذا في أشهر قليلة، شعرت كأن لسانها يتعثر وأطرافها مشدودة بحبال غير مرئية.
فما اعتادت عليه من حياة خشنة ولسان جاف وحركات صلبة، كل ذلك جعل التحوّل إلى سيدة رقيقة مهمة تكاد تكون مستحيلة.
يزيد الأمر صعوبة أن جسد ليليتا ضعيف البنية، يفتقر إلى اللياقة، فلا يطاوعها كما كانت تعوّدت في حياتها السابقة.
أما الأحذية الضيقة والفساتين الثقيلة فكانت تضاعف العذاب.
‘يا لثقل هذه المعاناة…’
ومع ذلك، وبقوة عزيمة لا تلين، مضت.
حتى إذا بدا في النهاية أنها، على الأقل في المظهر، صارت قادرة على التصرّف كابنة نبلاء.
صحيح أنها كلما غفلت ظهر سلوكها القديم، وصحيح أن ‘الآنسة’ التي تحاول تقمّصها تخنقها أحيانًا، لكنها على كل حال نجحت إلى حد أذهل معلّمتها التي كانت قد يئست من إمكان تعليمها شيئًا.
وقبل أن يحلّ موعد الرحيل إلى العاصمة في شهر أبريل، كانت قد تمكّنت من تعلّم جلّ القواعد الأساسية.
بقي فقط فنّ الرقص، الذي فضّلوا تأجيله لظروف معيّنة إلى حين وصولهم إلى قصر العاصمة.
***
27 مارس 1770، قبل أربعة أيام من المغادرة إلى العاصمة رامكاد.
تحوّلت غرفة ليليتا القديمة، التي كانت غارقة بالدمى والأرانب القطنية، إلى حجرة ناصعة البياض مزدانة بالذهب، تضم رفوفًا للكتب وخزانة للقطع الثمينة.
ورغم أنها تخلّت عن معظم ذكريات الطفولة، فقد أبقت على دمية أرنب ضخمة كانت لا تفارق حضنها في الليل.
جلست تلك الدمية على كرسي بجانب الخزانة وقد زُيّنت بشريط زاهٍ.
وعلى الطاولة الصغيرة بقربها، استقرّت علبة موسيقية.
استيقظت ريتا مع أول خيوط الفجر، فاتجهت نحو تلك العلبة التي تركتها تعزف طوال الليل.
كانت من عاج أبيض، مرصّعة بالأحجار والذهب، تُخرج لحنًا هادئًا.
شبيهًا بذلك اللحن الذي عزفته العلبة القديمة التي وجدتها مع جيد، لكنها هنا مصنوعة بإتقان أكبر.
لقد أرسلت والدتها الدوقة إلى حرفيّ بارع وموسيقار ليستمعا إلى النغمة التي كانت ريتا تدندنها من ذاكرتها، ليصنعا لها واحدة تشبهها.
كان ذلك هدية خاصة طلبتها ريتا بنفسها من والدتها التي لم تكن تعرف كيف ترضيها.
حدّقت ريتا طويلًا في الفراشة المرصعة بالأحجار التي ترقص داخل العلبة، وفي الزهرة الذهبية التي تدور بلا توقف.
لكن، على الرغم من فخامتها، لم تفارقها صورة العلبة القديمة..مرآتها المكسورة ودمية الملاك الباهتة اللون ربما لأن من شاركتها تلك اللحظة القديمة ما زالت تطبع قلبها.
أغلقت ريتا الغطاء بهدوء.
كانت الحياة الساكنة الجديدة غريبة عنها.
كأن السكينة ذاتها تجلب معها المزيد من الصدى المزعج.
كوابيسها تزايدت، وهواجسها تسللت أكثر من أيام الحرب.
ولولا هذه العلبة لكانت الليالي أطول بكثير.
لم تُبدِ شيئًا لعائلتها، خشية قلقهم، لكنها ما زالت تعاني، حتى الليلة الماضية.
‘حتما اشعر بالضغط من تغيّر البيئة، سيمرّ مع الوقت…’
لكنها أيضًا لم تعش يومًا بلا قتال.
والآن، وقد انقضى قرابة شهر لم تخض فيه أي معركة، بدأ قلق غريب يتآكلها.
‘الهدوء هذا لا يدوم… لا بد أن شيئًا سيتفجّر قريبًا…’
غريزة لا تستطيع السيطرة عليها.
لولا وعدها اليوم لوالدها بالخروج إلى الصيد، لكانت قد خرجت تبحث عن وحش تتقاتل معه حتى ترتاح.
‘لعلّ إطلاق النار على خنزير بري يسكّن هذه التوترات؟’
***
لقد رافق ليونهارت وريهارت والدهم في الصيد من قبل، أما ليلي الصغيرة فلم يُسمح لها قط أن تشارك لصِغَر سنّها وضعف جسدها.
واليوم سيكون أول مرّة.
لم يكن الصيد هنا مجرّد هواية؛ بل كان أيضًا عملًا يقوم به الدوق لحماية أراضيه.
إذ ينبغي تطهير الغابات من الغزلان التي تفسد المحاصيل، والذئاب التي تفترس الماشية، والخنازير البرية والدببة التي تهجم على القرى والمناجم، وحتى الطيور والأرانب التي يتكاثر عددها أكثر من اللازم.
إقليم لاسكايل واسع، يحدّه من الشرق نهر هيندر أعظم أنهار الشمال، ومن الجنوب سهول كورنو الخصبة، أما شماله فجبال بيضاء شاهقة تمتد إلى هضاب، وهي السلسلة الجبلية الأكثر وعورة في القارة، وإلى الغرب كانت هناك غابة واسعة تتدفق من سلسلة الجبال.
كانت الغابة تسمى “الغابة السوداء” إذا ذهبت عميقًا في الجبال البيضاء، وكان هناك العديد من الوحوش، ولكن “غابة الجمشت”، التي كانت أقرب إلى المدينة، كان بها عدد قليل من الوحوش والعديد من الحيوانات، بما في ذلك الوحوش البرية.
وكانت غنية بالمناجم والأحجار الكريمة، ومنها ازدهرت صناعة الجواهر في المنطقة.
ولأنها ملاصقة للسهول الزراعية، فإن أي زيادة في الحيوانات الضارة تضر مباشرة بالناس، ولهذا صارت مطاردة هذه الحيوانات جزءًا من واجبات الدوق.
ضحك ليونهارت وهو يقود جواده وقد حمل ريتا أمامه.
“مع ذلك، أبي لا يخرج للصيد بدافع الواجب فقط، إنه يعشق الصيد أصلًا.”
نادراً ما كان ليون يرافق والده، لأنه لا يحبّ الصيد، لكنه اليوم خصّص وقته لمرافقة أخته التي ستشارك للمرة الأولى.
غير أن ريهارت، الذي كان يسير بمحاذاتهم، ألقى عليها نظرة ثم قطّب حاجبيه فجأة.
“لكن… ليون، ألا ترى أن وجه ريتا شاحب؟ أختي، هل تشعرين بمرض؟ أم أنك لستِ بمزاج جيّد؟”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 34"