ما إن رفعت رأسها حتى وجدته وقد اقترب منها على حين غفلة.
عيناه محمرّتان من الإرهاق أو الغضب، ويده الكبيرة انخفضت لتستقر على رأسها برفق.
قال بصوت مبحوح لكنه مشبع بالحنان.
“لقد كبرتِ وأصبحتِ فتاة رائعة.”
كلمات لم تكن تتوقعها قط.
اتسعت عيناها دهشةً، غير مُصدّقة ما تسمع.
ومع ذلك، راح الدوق يربّت على شعرها مبتسمًا.
“أنا فخور بكِ.”
تلعثمت، غير قادرة على استيعاب ذلك.
“…بي، أنا؟”
ابتسم أكثر وهو يضم كتفها ويجذبها إلى صدره، ثم احتواها بذراعيه في عناق دافئ محكم، وقال بصدق يزلزل القلب.
“أجل، أبيكِ فخور بكِ حقًا.”
توقف نفسها للحظة.
رائعة؟ فخور بها؟
لم يخطر ببالها يومًا أن تسمع مثل هذه الكلمات.
وربما… ربما كانت طوال الوقت تتوق إلى سماعها.
لعلها أرادت أن يُعترف بجهودها، أن يقرّ أحدهم، وبالأخص عائلتها، بأنها عاشت بجدارة، وكافحت بقوة.
وإلا، فلماذا كانت هذه الكلمات القصيرة كفيلة بأن تزلزل وجدانها كله؟
كان جسدها المتصلب يتراخى شيئًا فشيئًا، والدفء يتغلغل في أعضائها، وقلبها يخفق بعنف.
‘أجل… كما توقعت، عائلتي، ما زالوا عائلتي.’
وبينما كانت غارقة في أحضان أبيها الحانية، التفتت لترى الآخرين.
كانت أمها تبكي بصمت.
“شكرًا لكِ يا ابنتي… شكرًا لأنكِ أخبرتنا… لا بد أنكِ عانيتِ كثيرًا، ومع ذلك نضجتِ بهذا الجمال، وأصبحتِ بهذه القوة… شكراً لكِ.”
اقتربت منها أُمها دون أن تدري، وأحاطت يديها الدافئتين بكفيّ ابنتها، تمسح عليهما بحنان.
أما ليونهارت، فابتسم ابتسامة تحمل مرارة وأسى.
“ليلي… مهما تغيّرتِ، تذكّري أن حقيقة كونك شقيقتي الصغيرة لن تتغير أبدًا، كما قلتِ، عشر سنوات قد مرّت، وخلالها حدث الكثير، لذا طبيعي أن نشعر بشيء من الغُربة أو الحرج.”
تنفس بعمق، ثم أضاف بثبات.
“لكن، وماذا في ذلك؟ نحن عائلة يا ليلي، وسنعتاد على بعضنا من جديد، كما جلستِ اليوم لتحدثينا، سنواصل الحديث، شيئًا فشيئًا، حتى نتعرّف من جديد.”
قال ريهارت وهو يعقد حاجبيه وينظر إليها بخفة ممزوجة بجديّة.
“كلام أخي صحيح، لكن ما بك تنظرين إلينا وكأنك اتخذتِ قرارًا مصيريًا؟ هل توقعتِ أننا سننكر كونك ريتا باسكال؟ صحيح أن ما عانيتِه من ظلم يثير الغضب، لكننا أبدًا لن نمحو كل ذلك أو نتجاهله.”
ثم مد يده بعفوية، يربّت على رأسها وهي لا تزال في أحضان أبيها.
“لقد عانيتِ كثيرًا… مرحبًا بعودتك، يا ريتا.”
وللمرة الأولى، ناداها بـ ريتا لا ليلي.
عندها التفت ليونهارت بدهشة صغيرة، وابتسم على استحياء، ثم قال بدوره.
“أجل… مرحبًا بعودتكِ يا ريتا.”
قهقه ريهارت.
“أها، أتتبعني الآن يا أخي؟”
فأجابه بنفاد صبر.
“اصمت.”
وبرغم الدموع التي تتساقط بلا توقف، لم تستطع الدوقة إلا أن تضحك قليلًا على شجار الأخوين، ثم نظرت إلى ابنتها بوجه ذائب رقة.
“ابنتي… بأي اسم تفضلين أن أناديكِ؟”
ترددت ريتا، إذ بدا حلقها معقودًا.
ابتلعت ريقها بصعوبة قبل أن تهمس.
“لا… لا فرق… أي اسم كان.”
ابتسمت أمها وسط الدموع وهي تمسح على وجنتها.
“صحيح، فأنتِ في النهاية ليلي وريتـا وليليتا كلها معًا، أليس كذلك؟”
ثم مالت أكثر وهمست.
“لكن، سأظل أناديكِ ليلي، صحيح أنكِ أصبحتِ راشدة ناضجة، لكنكِ ستبقين دومًا طفلتي الصغيرة الحبيبة.”
ضحك الدوق بخفوت على كلمات زوجته، واهتز صدره بالضحكة وهي لا تزال بين ذراعيه.
رفع يده ليمسح عن شعرها الذي بعثره ريهارت بمرح، وقال بلطف عميق.
“وأنا أيضًا سأناديكِ ليلي، مهما كنتِ امرأة ناضجة ومهيبة، ستبقين بالنسبة لي الطفلة المدللة، آخر العنقود.”
قاطعه ريهارت بعبوس مفتعل.
“وماذا يترك هذا لنا نحن؟ إذا ناديتماها أنتما بليلي، فهل نحن مضطرون أن نلتزم بريتا؟”
ابتسم ليونهارت قائلاً بهدوء.
“ولِم لا؟ نحن الإخوة الذين يعاملون شقيقتهم الناضجة باحترام، ويعترفون بكونها كبرت وأصبحت شخصًا مستقلًا.”
صفّر ريهارت بدهشة قبل أن يضحك.
“واو، أخي الكبير يتحدث بحكمة نادرة هذه المرة.”
وانفجر الجميع بالضحك.
جلست ريتا تحدّق فيهم بدهشة ممتزجة بالرهبة، حتى شعرت بحرارة دموعها تصعد إلى عينيها.
مد ريهارت يده ليضغط بخفة على أنفها.
“ما الأمر؟ هل تأثرتِ لهذه الدرجة، صغيرتنا؟”
أجابت وهي تحاول التماسك.
“كفّ عن هذا، ريهي أوبا.”
ابتسم ماكرًا.
“ولِمَ لا؟ أبكِي، بربكِ، ابكِ حتى أبكي أنا أيضًا من دون خجل.”
عينا ريهارت الحمراوان كانتا تفضحان مشاعره.
ابتسمت رغمًا عنها، ثم انفجرت بالبكاء.
كانت دموعها هذه المرة جياشة، لا يمكن كبحها.
هل كان ذلك شكرًا؟ أم لأن قلبها أخيرًا صدّق أنها عادت فعلًا إلى بيتها؟ أم لأن عائلتها ما زالت هي نفسها، لم تتبدّل؟
لم تعرف، ولم تستطع التفسير.
كل ما استطاعت فعله هو أن تبكي بكل ما أوتيت من روح.
ولأنها لم تكن وحدها، لم تشعر بالخجل.
***
وبعد أن أنهت قصتها، ظلّت العائلة مجتمعة في الصالة المطلة على الحديقة، حتى أسدل الليل ستاره.
جلسوا أمام الموقد، بعيون محمرة وقلوب متخمة بالحديث.
قال أحدهم غاضبًا: “ذلك الساحر العجوز الحقير… هو من حرّك كل شيء، صحيح؟ ذلك البائس الذي تلاعب حتى بالخادمة الصغيرة!”
رد الدوق وهو يزفر بحرارة.
“كلامك صائب، علينا أن نراقب الخادمة عن كثب، أما ذاك المسمى باسكال، فلابد أن ننزل به العقاب العادل.”
وأضاف آخر.
“باسكال…! لا أستطيع حتى أن أتخيل من يكون، غريب من عالم آخر… طبيعي إذن أن نجهل هويته، لكن مهما كان غرضه، فلن يفلت من غضب لاسكايل.”
تدخلت الأم بصوت متقطع من العاطفة.
“ابنتي… لا بد أن تلك الليلة كانت مرعبة عليكِ، لقد استجمعتِ شجاعتك لترويها لنا ثانيةً… هل تريدين أن تنامي الليلة معي؟”
اشتعل الغضب في القلوب وهم يتذكرون حادثة اختطافها، ثم تلا ذلك دفء وحرص في كلمات مواساة.
توزعت الأحاديث بين البحث عن آثار السحر المتبقية على حذائها الممزق وتابوتها المحطم، وبين خطط التحقيق.
قال الدوق بحزم.
“سأتولى التحقيق في آثار السحر، لدي معارف في برج السحر بالعاصمة.”
وأضاف ليونهارت.
“وسأبحث عن مصدر ذلك التابوت، حجمه وحده يجعل استقدامه من خارج أراضي لاسكايل أمرًا صعبًا، لابد أنه صُنع هنا.”
الأم أيضًا تداخلت.
“ليلي، سأكلّف خادمات أثق بهن لمراقبة تلك الفتاة، هانا ، لا تقلقي أنتِ، لكن تذكري، إن أزعجتك الفتاة أو أقلقتك، فأخبِريني فورًا. …أتعرف يا عزيزي؟ تلك الطفلة ليست عادية، لا بد أن وراءها قصة ما.”
أجاب الدوق بعد لحظة صمت. “أجل… ماضيها معقد، ولكن هذا ليس الوقت المناسب لسرد التفاصيل ، لاحقًا، حين يأتيك الأميثيست قريبًا ، سيفسر لكِ كل شيء.”
أما ريهارت، فزم شفتيه وقال.
“ذلك الوغد باسكال… لا شك أنه ساحر أسود، بل لا بد أنه كذلك، سأبحث عن كل ما يتصل بالسحرة السود، وسأتقصى كذلك إن كانت المعابد تخفي أي معلومات عن العوالم الأخرى.”
وهكذا، تواصلت نقاشاتهم بين الخطر القادم والخطط المستقبلية، وبين أحاديث خفيفة عابرة يتبادلونها كأنهم يريدون أن يسدوا فجوة السنوات العشر الماضية.
ضحكوا حين تحدثت عن قتالها مع الوحوش، اندهشوا من إطلاقها الناري، وانهالت الأحاديث الممزوجة بالدهشة والفخر.
حتى إن الدوقة رمت زوجها بنظرة عتاب مرحة.
“أنت المسؤول عن تعلقها بالبندقية، أعترف بذلك.”
ضحك الدوق بصوت مجروح وهو يحاول التظاهر بالجدية.
فالتفت إلى ابنته مقترحًا بحماس.
“ليلي، ما رأيك أن تذهبي معي في رحلة صيد قريبًا؟”
فمازحته الدوقة.
“إياكِ أن تقبلي بسرعة، قد يموت من شدة فرحته!”
احتقن وجهه خجلًا وهو يسعل ليتدارك الموقف، لكن ليليتا ابتسمت وقالت: “ولِم لا؟ في صغري لم أذهب معكم يومًا، والآن وقد كبرت، فلنُحقق ذلك.”
لم يستطع الدوق إخفاء ابتسامة انتشرت على وجهه، حتى سخر منه ريهارت، فضحك الجميع.
ثم، وكأنها تذكرت فجأة، قالت الدوقة.
“بالمناسبة… الموسم الأجتماعي يقترب، هل ما زلتِ تذكرينه؟”
أجابت مترددة. “كان يقام في منازل العاصمة… من الربيع حتى الصيف، أليس كذلك؟”
أشرق وجه الدوقة.
“أجل! أربعة أشهر متواصلة، من أبريل حتى أغسطس، كل نبلاء الإمبراطورية يتجمعون هناك، حيث تقام الولائم والرقصات والاحتفالات، وحتى مسابقات الصيد والمهرجانات الكبرى!”
ثم صاحت بحماسة طفلة.
“ليلي، ما رأيك أن تجعلي هذا الموسم موعد ظهوركِ الأول؟ سيكون حفل عودتك الرسمية! سنقيم حفلاً باذخًا في قصر كريم دوم، حفل تقديمك للمجتمع وللأحتفال بعودتك!”
اندفع ليونهارت بدهشة.
“هل حقًا سنشارك هذا العام؟”
فأجابته الأم بلا تردد.
“طبعًا! ابنتنا عادت! لا بد أن نُعلن ذلك للجميع بحفل فخم، أليس كذلك يا عزيزي؟”
أومأ الدوق بتفكير.
“صحيح، لا يمكن أن نمرر عودة أميرة لاسكايل مرور الكرام، كما قالت الدوقة سيكون من الأنسب تقديمها في هذا الموسم.”
ابتسم الابن الأكبر قائلًا. “سيكون إذن احتفالًا لا بعودة ليلي فحسب، بل بعودة بيت لاسكايل نفسه، يجب أن نُحسن الاستعداد.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 31"