الفصل الثالث
“ما بك؟ متى جئتَ؟
أنت لا تملك حتى مهارات التخفي مثل إيثان، فلماذا تظهر دائمًا بلا أيّ أثر؟!”
قفزت ريتا، وقد باغتها حضوره، وردّت عليه بحدّة وهي تنهض مادّةً يدها نحو المسدّس الذي سُلب منها.
“أعِدْ لي مسدّسي!”
“أين اختفى قيد الإخراج؟
أولي، هل هذا من صُنعك؟”
قطّب حاجبيه المستقيمين كما لو كانا مرسومين بعناية، وحدّق في المرأة ذات النظّارة.
شبكت المرأة ذراعيها وأشارت بذقنها نحو ريتا.
“إن لم نفكّه، فستفجّر جسدها بدل السلاح، أليس كذلك؟
الأخت سيرا التي فحصت ريتا قالت إنّ فكّ القيد أفضل من ترك الوضع هكذا.”
“……حقًّا، هذا يبعث على الجنون.”
تنفّس الرجل زفرةً عميقة، ثم أعاد المسدّس إلى ريتا وقال بصوتٍ قاتم:
“ريتا، أنتِ تعلمين أنّ عمري يُستنزف كلّما اندفعتِ بجنون، أليس كذلك؟
أرجوكِ، احفظي نفسك قليلًا.”
“تتحدّث وكأنّك لم تندفع بلا حساب وتنجُو بفضلي.”
“ذاك لا يُسمّى اندفاعًا، بل اختراقًا استراتيجيًّا.”
“إذًا، لو لم أندفع أنا، هل كان القائد جايد باسكال سينجو أم يموت أثناء تنفيذ ذلك الاختراق الاستراتيجي؟”
سألت ريتا وهي تُدخل المسدّس السحري في الحافظة عند خصرها وتدور حول نفسها بخفّة.
صرّ الرجل الذي دُعي جايد على أسنانه وأجاب:
“هاه، حسنًا.
اعترف. لقد عشتُ بفضلكِ وأنتِ في نوبة جنونك.”
“إن كنتَ تعرف ذلك، فبدل القلق عليّ، ضع خطّة.”
شدّت ريتا ذراعه وسحبته بعيدًا عن بقيّة آل «باسكال».
وأثناء توجّههما نحو البرج الوحيد السليم نسبيًّا داخل القلعة المهدّمة، خفّضت صوتها وسألته:
“هل عاد إيس، الزميل، من الاستطلاع؟”
“عاد قبل قليل.
ولهذا جئت أبحث عنكِ.”
“أخبار سارّة أم سيّئة؟”
فتح جايد بصمت ثلاثة أصابع من يده اليمنى.
أطلقت ريتا ضحكةً جافّة.
“ثلاثة أخبار سيّئة فقط؟
تبًّا، ما الأمر؟”
“لنتحدّث في الداخل.”
فتح لها باب البرج بأدب، وتابع:
“هناك أمور لا يمكن مناقشتها إلّا معكِ.
نحتاج رأيكِ.”
“ألا تعتمد عليّ أكثر من اللازم أيّها القائد؟
ماذا ستفعل إن لم أكن هنا؟”
ضحك بخفّة، كما لو كانت مزحة، ثم أضاف:
“ألم تدركي ذلك بعد يا ريتا؟
أنا لا أستطيع العيش دونكِ.”
—
حلمتُ بحلم اليوم السابق للموت.
فتحت ريتا عينيها.
وفي اللحظة التي استيقظت فيها، نهضت فجأةً وشدّت جسدها كلّه.
مكانٌ غريب، ولا أثر واحد لرفاقٍ مألوفين.
أن تنام بهذه الطمأنينة في مكانٍ كهذا… أمر لا يُصدَّق.
تحسّست خصرها بحذر.
لم تشعر بملمس المسدّس السحري الذي كان مألوفًا لجسدها كما جسدها نفسه.
وبدلًا منه، علقت أناملها بشيءٍ ناعمٍ وطويل.
رفعتْه أمام عينيها.
شَعرٌ يلمع تحت شمس الصباح المتسلّلة من النافذة، كخيوط ذهبٍ منسوجة.
“……”
لم يكن ذلك اللون البنيّ المحمَرّ الذي تعرفه،
بل ذهبيًّا نقيًّا يبعث على الدهشة.
‘هذا ليس جسدي.’
حافظت على توتّرها وهي تنزل عن السرير.
كان سريرًا طريًّا إلى حدٍّ غير مألوف،
هي التي اعتادت النوم على التراب أو ما هو أسوأ منه.
انجذبت نحو النافذة المغمورة بالضوء.
حديقةٌ مُعتنى بها، تتفتّح فيها الأزهار.
وخلف السياج المتشابك مع عروق الورود، امتدّت غابة من أشجار البتولا البيضاء، مكسوّةً بالأخضر الفاتح.
بالنسبة لها، القادمة من عالمٍ رماديّ لا تكاد ترى فيه برعمًا،
كان هذا مشهدَ ربيعٍ لم تعرفه إلّا في الصور.
وفوق ذلك المشهد، امتدّ في الأفق سماءٌ زرقاء صافية على نحوٍ بعيد.
لا ضباب، لا عكارة، ولا غيوم بلونٍ خانق.
‘سماءٌ بهذا الصفاء…’
فتحت ريتا النافذة كمن سُحر.
اندفع هواءٌ عليل ممزوج بعطر الزهور إلى أنفها،
ووصلت إلى أذنيها زقزقة الطيور.
وعندما رأت الشمس، المتلألئة إلى حدٍّ يعجز البصر عن تحمّله، معلّقة في السماء
بدل ذلك الشمس الرماديّة التي لم يبقَ منها سوى جمرٍ خافت،
أدركت من جديد:
‘ما رأيته أمس لم يكن وهمًا.
هذا ليس عالمي.
إنّه عالمٌ آخر تمامًا.’
بدأت ذكريات الأمس تطفو ببطء.
كانت تظنّ نفسها ميّتة، ثم فتحت عينيها تحت الماء،
وقابلت رجلًا قال فجأة إنّها أخته الصغرى التي فُقدت منذ عشر سنوات.
‘قلتُ له بوضوح إنّني لستُ أخته…
لكنّه لم يبدُ مقتنعًا.’
بل وأدار لها ظهره بلا اكتراث،
ما أربكها بشدّة.
ففي منطقها، إظهار الظهر لغريبٍ بهذه السهولة أمرٌ مستحيل.
ولهذا قرّرت أن تثق به مؤقّتًا.
وهي محمولة على ظهره، نظرت حولها.
غابة البتولا، والبحيرة التي انعكس عليها ضوء الغروب،كلّها كانت جميلةً وحقيقيّة لدرجةٍ جعلتها تُطلق تنهيدة إعجاب دون وعي.
ثم وصلا إلى قصرٍ هائل، فاخر، بلون الكريما…
وبعد ذلك…
لا تتذكّر شيئًا.
فقدت وعيها في مكانٍ كهذا؟
‘لم يغشَ عليّ.
جسدي الآن لا يظهر أيّ أثر لضربة أو مخدّر.
هل… نمتُ فحسب؟’
نامت بلا حذر؟
ريتا باسكال؟
دون رفاق، في مكانٍ غريب؟
لقد تهاونت.
‘حتى الملابس تغيّرت.
هل نمت وأنا فاقدة الوعي بينما يبدّلون ثيابي؟
جنون، كم ساعة بقيتُ بلا أيّ حماية؟’
وبينما كانت القشعريرة تسري في عمودها الفقري،
سمعت فجأةً طرقًا على الباب.
ما فاجأها أكثر من الطَرق، هو أنّ شخصًا استطاع الاقتراب إلى هذا الحدّ دون أن تشعر به.
‘حواسي تبلّدت بشدّة.
لأنّه جسدُ شخصٍ آخر؟’
جسدٌ لم يتدرّب على شيء.
ولم تشعر بطاقة الأود التي كانت تستخدمها كما لو كانت تنفّسًا.
في هذه الحالة العاجزة، لا يجوز استقبال متطفّل.
مهما بدا الخارج مسالمًا، ومهما كان الداخل فاخرًا.
بحثت غريزيًّا عن شيءٍ يصلح كسلاح.
“ألم تستيقظي بعد؟ سأدخل يا آنسة.”
وحين لم يصل أيّ ردّ، دخلت الخادمة بحذر…
لتتفاجأ.
السرير فارغ.
ولا أثر للفتاة.
الآنسة ليلييتا، التي عادت بعد عشر سنوات، اختفت مجدّدًا!
“م- مصيبة—!”
لكنّ فمها أُغلق فجأة.
“اهدئي.”
همسة من خلفها، وقطعة مرآةٍ مكسورة حادّة كالنصل وُجّهت أمام عينيها.
“إن أصدرتِ صوتًا، سأقتلكِ.
إن فهمتِ، أومئي.”
أومأت الخادمة برأسها وهي ترتجف.
سحبت ريتا يدها ببطء، ولاحظت شعر الخادمة.
‘بنيّ محمَرّ.’
اللون نفسه الذي كان لشعرها في الأصل.
سألتها وهي لا تزال تضغط بقطعة المرآة:
“أين نحن؟”
“ه-ه-هذا قصر دوق لاسكايل، يا آنسة……”
“وأين يقع؟”
“م، ماذا؟
في إقليم الدوقيّة…… أ-ألا تتذكّرين؟”
“لا.اشرحي الموقع بدقّة.”
“قصر دوق لاسكايل يقع في شمال إمبراطوريّة كايرام،
في سهل كورنو، عند قلب الإقليم الممتدّ على نهر هيندر،
في قلعة غابة البتولا……”
كلّها أسماء تسمعها للمرّة الأولى.
زفرت ريتا وسألت:
“من أنتِ؟”
“أ، أنا خادمة في بيت الدوق،
وا-ومن اليوم سأخدمكِ…
ا-اسمي هانا……”
“أنتِ التي بدّلتِ ملابسي؟”
كانت ترتدي ثوب نومٍ جديدًا، طويلًا يصل إلى كاحليها.
“ن-نعم!
أ-أنا التي بدّلت ثيابكِ البارحة……”
سألتها ريتا بآخر أمل:
“وأثناء ذلك… هل رأيتِ أيًّا من أغراضي؟”
“م-ماذا؟”
“خنجر، بطاقة تعريف، حزام مع حقيبة صغيرة، عقد، بوصلة…”
“ل-لم يكن معكِ شيء……”
كما توقّعت.
كانت تعلم ذلك منذ لحظة الاستيقاظ،
لكنّها لم تستطع التخلّي عن الأمل.
ثم قالت:
“إذًا، ما الذي حدث البارحة—”
“سأجيب أنا.”
تدخّل صوتُ رجل فجأة.
التفتت ريتا بحذر.
كان الرجل الأشقر الذي حملها بالأمس يقف عند الباب.
شَعره الذهبي يشبه شعرها الحالي،
وعيناه وملامحه أيضًا… بشكلٍ لا يمكن إنكاره.
‘إذًا… نحن فعلًا أشقّاء.
على الأقل، هذا الجسد.’
تقدّم بخطواتٍ بطيئة وقال:
“لنتحدّث، يا ريتا.
واتركي الخادمة البريئة.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 3"