جلس أفراد العائلة كلٌّ في مكانه المخصص، وأمام كل واحد منهم فنجان من القهوة أو الشاي.
كانت الدوقة عند النافذة، وإلى جوارها جلس الدوق، أما ليونهارت فاتخذ مكانه قرب الباب، في حين أسند ريهارت ظهره إلى الجدار بجانب المدفأة.
جلست ليليتا أمام وهج النار، فالتفتت إليها أعين العائلة مجتمعة.
لقد اجتمعوا جميعًا، حان الوقت للكشف عن السنوات الضائعة.
ارتشفت رشفة صغيرة من القهوة، ذلك الشراب النادر الذي لم تكن لتجده في عالم الرماد ذاك، تذوّقت مرارتها الدافئة قبل أن تفتح شفتيها ببطء.
“في تلك الليلة… رأيت حلمًا غريبًا.”
بدأت ليليتا تحكي قصتها، مستندة إلى دفء الفنجان ومرارته، تروي ما عاشته منذ تلك الليلة التي قلبت حياتها رأسًا على عقب، وحتى هذه اللحظة.
حين أصبحت ريتا، وجدت نفسها في مبنى غريب.
في ذلك المكان كانت هناك قاعة ضخمة تصطف فيها أسرّة منقوشة بدوائر سحرية.
عاش في القاعة معها عشرات الأطفال الأيتام، تتراوح أعمارهم بين العاشرة والرابعة عشرة.
كانوا يقضون معظم ساعات اليوم في النوم.
ما إن يدوّي صوت الجرس، حتى يتمدّدوا على الأسرّة، فيغشاهم نوم ثقيل لا يقاوم.
وفي أحلامهم، كانت تُحشر في أدمغتهم شتى أنواع المعارف قسرًا.
وعندما يرنّ الجرس مرة أخرى ليستيقظوا، كان الألم يمزّق رؤوسهم كما لو أنها ستنفجر.
بعضهم تقيّأ، وقلة منهم بصقت الدم، أولئك الذين نزفوا كانوا يُقتادون من قِبل باسكال، ولا يعودون أبدًا.
شهور مضت، لا يعرفون من الحياة إلا النوم، والاستيقاظ للأكل، أو الغسل، أو القليل من التمارين.
ثم شيئًا فشيئًا، بدأت ساعات النوم تقلّ.
“حان وقت العهد.”
كان باسكال يستدعي الأطفال واحدًا تلو الآخر، ويجري لهم اختبارًا غريبًا قبل أن يوقظ فيهم الـ أود ، وكان هو من يحدد صيغة العهد لكل واحد منهم، ولا أحد يعرف بأي معيار يختار.
“أمّا أنا… فكنت حالة استثنائية.”
عندما جاء دور ريتا، صمت باسكال طويلًا، ثم قال ببرود.
“تعاهدي فقط أن تقتلي كل وحش تلمحينَه، هذا أبسط ما يمكن.”
هكذا، صارت ريتا مع سائر الأطفال أصحاب العهود وقد أُيقظت قواهم.
ثم بدأ التدريب الحقيقي.
لم يعد الجرس يدعوهم إلى الأسرّة، بل إلى النزول عبر درج يقود إلى قبو مليء بغرف صغيرة تشبه خلايا النحل.
كان اسمها: “غرف التدريب”.
في كل مرة، يخرج من داخل الغرفة وحش مختلف، في بيئة مختلفة.
لم تكن حقيقية، بل أوهام سحرية، لكنها بدت واقعية بكل تفاصيلها، حتى الجراح والألم عند الإصابة كانا حقيقيين.
سلّم باسكال لكل طفل سلاحًا مختلفًا، لا أحد عرف على أي أساس اختارها، لكنها دائمًا ما طابقت مواهبهم تمامًا… باستثناء ريتا.
سلاحها كان خنجرًا صغيرًا.
وما زُرع في رأسها من معرفة كان فنون الاغتيال، والرمي بالشفرة، والاختباء للانقضاض.
لكنها لم تكن تدرك آنذاك أنّ هذا السلاح لا يلائمها إطلاقًا.
أما الآخرون، فقد اكتشفوا أن المعارف المزروعة في رؤوسهم تتطابق مع أفعالهم في القتال، وكأن أجسادهم تذكر ما تعلموه مسبقًا.
لكن بين المعرفة والفعل هوة عميقة.
في البدايات، كان الجميع يموتون، موتًا وهميًا داخل الوهم، لكنه مؤلم تمامًا كالحقيقي.
كثيرون فقدوا شهيتهم، بعضهم أغشي عليه من الصدمة، وهناك من بكى مرعوبًا محاولًا الهرب.
لكن الجرس إذا دوّى، كان عليهم جميعًا النزول، مهما حاولوا.
حتى من بال على نفسه أو اختبأ تحت السرير كان يُسحب قسرًا، تحت أنظار باسكال الغامضة، ويُلقى في غرفة التدريب.
الباب لا ينفتح إلا بموت الوحش أو موت الطفل.
واستمرّت الحياة على هذا النحو.
مع الوقت، بدأوا يتحدثون على مائدة الطعام عمّا واجهوه في غرف التدريب، ويشاطرون بعضهم تقنيات القتال، بل ويدربون أنفسهم فرادى وجماعات.
كانوا يزدادون قوة بسرعة، وكأنهم يسترجعون مهارات منسية.
أصبحوا يدخلون التدريب يوميًا بلا رهبة، يخرجون بعد أن يقتلوا الوحش، ثم يلتهمون الخبز ويتفاخرون…”مزّقت ساق الوحش اليوم”، “انفجرت عينه أخيرًا”.
أما ريتا، فبقيت تائهة.
كانت تموت كل يوم، لم يتناسب الخنجر مع يديها، وعجزت عن وصل ما في ذهنها بما تفعله بجسدها.
بينما تكيف الآخرون، ظلت هي تتقيأ بعد كل تدريب.
لم ترتقِ حتى إلى مستوى الضعفاء، لم تخرج يومًا حيّة من الغرفة، كانت أشبه بقطعة تالفة، لا فائدة منها.
لم يضايقها الأطفال الآخرون، لكنهم لم يقتربوا منها أيضًا.
فهي بلا جدوى.
وباسكال لم يدرّس أو يوبّخ، بل كان يتعامل معهم كما لو كانوا في مصنع… نوم، طعام، تدريب.
في تلك العزلة، غارقة في العجز والاحتقار لنفسها، مدّ إليها أحدهم يده.
إنه جيد.
ـــ “أنتِ… لم تقتلي وحشًا قط، صحيح؟”
كان جيد مختلفًا عن الجميع، الأسرع دائمًا في إسقاط الوحش، الأذكى، الأجمل، والأكثر ودًّا.
الأطفال يتوافدون عليه ليسألوه المشورة، يستمعون لنصائحه في القتال، بمرور الوقت، صار سندهم جميعًا.
“هل أساعدك؟”
لكن ريتا، بدل أن تمسك يده ممتنة، أجابت ببرود:
“لا داعي، أنت لا تريد هذا أصلًا.”
“ماذا؟”
“لا داعي لأن ترهق نفسك بمساعدتي، أنت تكره طلبات البقية أصلاً، أليس كذلك؟ باسكال لا يهتم بما نفعل، فلا حاجة لتتصنّع المثالية، دعني وشأني كفاشلة.”
لقد رأت ما لم يره الآخرون.
التجاعيد الدقيقة في جبين الصبي حين يتوسله الأطفال، النظرة الطامعة في عينيه وهو يرمق باسكال، كمن يطلب اعترافًا.
هي الوحيدة التي أدركت أنه يفعل كل ذلك ليحظى باعتراف باسكال، ليس لأنه يريد.
جُمد الصبي مندهشًا من جوابها، فيما تركته هي وانصرفت.
لكن في اليوم التالي، حين خرجت من التدريب تتقيأ بعد موت جديد، عاد إليها جيد.
“ألا تتعبك هذه الميتات المتكررة؟” “طبعًا تتعبني.” “إذن… دعيني أساعدك.” “قلت لك لا حاجة.” “هذه المرة ليس إكراهًا، لديّ طلب منك.”
“مني أنا؟ أنتَ تطلب مني؟”
“أنتِ تملكين عينًا ثاقبة، لا تهتمين لباسكال أو غيره، غدًا، حين ادخل التدريب، لا تقاتلي فقط راقبيني، أشعر أن شيئًا ما يزعجني في قتالي ولا أعرف ما هو.”
“وفي المقابل؟”
“أساعدك أنا أيضًا، سنكون عونًا لبعضنا.”
وافقت ريتا.
في اليوم التالي، شاهدت قتاله بعين فاحصة، ثم قالت.
“أنت أعسر، لماذا تمسك السيف باليمين؟”
“أنا… أعسر؟!”
“أما كنت تعلم؟ يدك اليسرى أكثر براعة بوضوح.”
تأمل جيد يده اليسرى بوجه متقزّز، سألت ريتا متعجبة.
“أتكره استخدام يدك اليسرى؟”
“إنها مقززة، تجعلني أبدو ناقصًا.”
“لكنها لا تبدو كذلك أبدًا.”
“…ربما عندكِ، لكن الآخرين؟ يرونها عيبًا.”
“ولمَ تهتم بما يرونه؟ المهم أن تناسبك.”
حدّق الصبي فيها كمن يرى شيئًا غريبًا، ثم قال متردّدًا.
“فلنغيّر هذا بيننا، ابتداءً من الآن، اليسار هو الخير، واليمين هو الشر، إذا حدث شيء جيد، نرفع إصبعًا من اليسار، إذا كان سيئًا، من اليمين، ما رأيك؟”
تأملها طويلًا، ثم مدّ يده اليسرى وأمسك يدها.
“…حسنًا.”
ومنذ ذلك اليوم، كانا يتبادلان الإشارات.
إذا قتلا وحشًا، مدّا إصبعًا أيسر، وإذا ماتا داخله، أشارا بالأيمن، إذا جاء الخبز الأبيض على المائدة، فُتح إصبع من اليسار، وإذا قُدّم طعام رديء، أُشير باليمين.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 24"