ما إن عاد ريهارت إلى البيت حتى كاد ينهال على ليليتا بالأسئلة عن السلاح، غير أن الدوقة اعترضت بعزم راسخ وأصرّت أن تُترك الطفلة لترتاح.
أما ليونهارت، فقد انشغل بالتحقيق في حادثة ظهور الوايفرن، ذاك الذي كان يعيش في أعماق الجبال ثم ظهر فجأة وسط البلدة، فلم يستطع المجيء لرؤيتها.
بفضل ذلك، نالت ليليتا فرصة أن تستحم على مهل، وتخلد إلى راحة تامة، تاركةً لنفسها فسحة لتجميع شتات أفكارها.
ما إن قالت إنها تريد الاستحمام، حتى سارعت الخادمات لإعداد حمامٍ يليق بالأميرات.. حوض رخامي امتلأ بماء ساخن، أذابوا فيه أعشابًا عطرية ومساحيق للاستحمام، ونثروا فوقه ذرّات من الذهب، وغطّوا سطحه ببتلات الزهور.
اثنتا عشرة سنة لم تذق فيها دفء ماءٍ ساخن، فجاء هذا الحمام ترفًا يصعب تصديقه.
لكن في ذاكرة ليليتا لم يكن الأمر سوى حمام عادي اعتادت رؤيته كل يوم.
غاصت ليليتا في الماء، شاعرةً من جديد بالهوة السحيقة بين حياتها هي وحياة ليليتا.
الجسد المتوتر بدأ يتراخى شيئًا فشيئًا تحت وطأة الدفء.
وأسندت ظهرها إلى حافة الحوض، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم أرسلت بصرها إلى انعكاس وجهها في الماء البنفسجي الموشّى بألوان المستحضرات.
وجه فاتن، يستحيل أن يُنسى بمجرد النظر إليه مرة واحدة.
شعر ذهبي لامع، ورموش كخيوط الذهب الخالص، وعينان بنفسجيتان تضفيان عليه جمالًا أسطوريًا أشبه بجمال الجنيات.
‘أهذا وجهي أنا؟’
كان ما يزال غريبًا عنها.
فالوجه الذي عهدته ليليتا في ذاكرتها لم يكن إلا وجه طفلة صغيرة، والوجه الذي اعتادت هي نفسها عليه بعد أن كبرت لم يكن هذا.
‘… مختلف تمامًا.’
وليس الوجه وحده، بل كل شيء، ليليتا وريتا كانتا مختلفتين تمامًا.
همست في أعماقها، كأنها تؤنب ذاتها..
“كلا، ليليتا، عليك أن تغضبي، عليك أن تثوري وتصرخي ظلمًا لما جرى لك، أن تعترفي بأنكِ تعبت، أن تشكين وتبوحي بمرارتك.. هذا هو الطبيعي، لكنك الآن… هادئة أكثر من اللازم، صامتة على نحو يبعث على الريبة.”
وما إن تذكرت ردّة فعل ليونهارت، حتى أحست فجأة كم تغيّرت عما كانت عليه في طفولتها، وشعرت بالخوف.
عادت إلى ذاكرتها صورة ذلك الباسكال الذي لقي حتفه مستغلًا على أيدي عائلته، مؤمنًا بهم حتى آخر لحظة، ومع ذلك لم يعترفوا به يومًا كعائلة.
وتذكرت أيضًا أولئك الكبار الذين كانوا يربتون على رأس طفلٍ صغير قائلين إنه يتعذب في ساحة المعركة، ثم ما لبثوا أن انقلبوا عليه فجأة، ورفعوا السلاح في وجهه صارخين..”أبناء الباسكال ليسوا إلا وحوشًا!”
‘هل يمكن أن يكون حال عائلتي هكذا أيضًا…؟’
ارتعشت، وانكمشت في الماء خوفًا من خيالها.
لكن في داخلها، كانت ريتا باسكال تنظر إلى نفسها بعين باردة متجردة:
‘أنا… خائفة.’
ومنذ تلك اللحظة، راحت تحاول أن تتصرف كما كانت في طفولتها بالضبط.
تظاهرت بالفرح وهي تذهب في جولات التسوّق التي لم تكن ترغب بها، حاولت جهدها أن تخفي حدّة طباعها، وبالغت في كبت كل ما يمكن أن يُظهر ريتا باسكال الحقيقية.
تذكرت ما حدث في ذلك اليوم… حين بدأ أن طفلة ستقع في براثن وحش، ضغطت على زناد البندقية بلا وعي، ثم تلعثمت أمام دهشة الدوقة ، متخبطة تبحث عن عذر.
“آه… ذاك… ذاك لأنني…”
لكنها لم تستطع حتى أن تُحسن اختلاق حجة، فيما سارعت هانا إلى الخارج تستطلع الأمر بدلاً منها.
الخادمة التي لا تكف عن الضجيج، والدوقة التي رمشت بعينيها مذهولة.
لو كانت ريتا، لتجاوزت الأمر ببرود كأنه لا يعنيها. ولو كانت ليليتا، لأخذت تفتخر بنفسها وتتباهى بما أنجزت.
أما الأثنتين معًا…، فقد أرادت في تلك اللحظة أن تُخفي البندقية، أن تمحو أثر ما فعلته وكأنه لم يحدث.
كانت تخشى أن تنظر إليها أمها كما تنظر إلى غريب.
“هذا… يعني… حدث هكذا فحسب…”
تمتمت متخبطة، فصمتت الدوقة برهة، ثم قالت بهدوء.
“لا بأس، ليلي… لا بأس يا ابنتي.”
لم تفهم ليليتا مغزى تلك الكلمة، وما إن عادت إلى القصر، وتركتها أمها وحيدة، حتى أدركت.
“لقد أصبحتُ… جبانةً حقًا.”
لم يكن قول أمها لا بأس مجرد سوء فهم، بل كانت قد رأت ابنتها بوضوح تام.
هي فعلًا كانت ترتعد، خائفة من أن تبدو غريبة في أعينهم.
‘هذه ليست أنا.’
مدّت يدها تنقر سطح الماء، فتموج انعكاس وجهها.
“لستُ ليليتا ولستُ ريتا..”
ريتا باسكال لا تكترث لنظرات الناس، تعلم أنها ليست وحشًا، وما عساها تُبالي بما يقال؟ مسألة الهوية بالنسبة لها حُسمت منذ زمن بعيد.
أما ليليتا، فلم تشك يومًا في أسرتها، بل كانت تعيش بيقين راسخ أن العائلة ستبقى سندها وحبها.
والآن، ليليتا لم تكن هذه ولا تلك، كانت تخشى نظرات أسرتها، وتساورها الشكوك في محبتهم.
غرفت بيدها ماءً بنفسجيًا ورشّته على وجهها، ثم فركته براحة كفيها، ومسحت خصلاتها المبتلة العالقة بخديها.
ثم نظرت إلى انعكاسها في الماء المموج، وضحكت باستخفاف.
‘غبية حقًا.’
عادت إلى ذهنها صور… الأخ الأكبر وهو ينهار باكيًا في حضنها. الأخ الثاني وهو يعانقها ويشهق. وأمها قبل قليل، تحدّق فيها بعينين صادقتين وتقول…، لابد إنه كان يفتك بكِ داخليًا، رغم أنك تقولين إنك بخير..
فكرت ليليتا.
‘عائلتي لن تعاملني يومًا كوحش، مهما تغيّرت.’
أبي، وأمي، وإخوتي… سيحبونني أيًا كنت، وسيظلون دومًا في صفي.
وفكرت ريتا.
‘أيًا كان ما يراني الناس به، فما شأني أنا؟ إن لم أخجل من نفسي، فهذا يكفيني.’
أنا أحب نفسي كما أنا الآن. لقد بذلت جهدي في حياتي، ولم أخن إرادتي ولا قيمي.
عانيت كثيرًا، وتجرعت لحظات مروعة ما زالت ترعبني إذا تذكرتها، لكنها كلها جزء مني.
لا أريد أن أنفيها أو أتظاهر أنها لم تكن.
أريد أن أحتويها وأتجاوزها.
فكرت ليليتا.
‘لن أختبئ بعد الآن.’
سأكشف نفسي كما هي، وأتقبل ردة فعل عائلتي أياً كانت.
‘لأني أنا ليليتا، وريتا باسكال، وليليتا ديل نيسا لاسكايل..’
انقشع اضطرابها الداخلي فجأة، وصار قلبها صافيًا.
نهضت من الماء، غير عابئة بما يعكسه السطح، جففت وجهها وجسدها، وخرجت بخطوات خفيفة.
***
في اليوم التالي.
كان قصر البتولا في حركة لا تهدأ.
فالدوقة التي كانت تقيم في الملحق انتقلت إلى المبنى الرئيسي، وغرفة الابنة التي حُفظت كما كانت منذ عشر سنوات تقرر إصلاحها، بل وعاد الدوق نفسه من العاصمة على عجل، مثيرًا جلبة كبرى.
“لقد عاد والدي، يبدو أنه لم ينم طوال الطريق، أتى مسرعًا لرؤيتك.”
قال ليونهارت وهو يقودها نحو الحديقة الخلفية.
“ستجدينه أمام شاهد القبر، فقد أمر بفتح التابوت ما إن وصل.”
“شاهد قبري…؟”
سألت ليليتا بدهشة، فهزّ ليونهارت رأسه بابتسامة مبهمة، لا يعرف أيلزمها الضحك أم البكاء.
“نعم، قبرك.”
توقف عند الباب المؤدي إلى الحديقة، وفتح لها الطريق. تقدمت ليليتا إلى الخارج.
هناك كان الخدم يحفرون الأرض بعناية، وقد كوّموا التراب والزهور المنقولة جانبًا، وسط المشهد، وقف دوق لاسكايل شامخًا، يحدق في شاهد قبر رخامي أبيض.
كان يرتدي بذلة سوداء أنيقة، ومعه عصا من خشب الماهوغاني الأسود، وقبعة حرير سوداء… هيئته بأسرها كأنه يحضر جنازة.
سقطت القبعة الحريرية أرضًا، وتدحرجت العصا على العشب. رماهما بعيدًا وركض نحوها، يعانقها بذراعين قويتين ارتعشتا بلا حول.
ثم انفجر في بكاء مرير.
لم ينطق بكلمة.
لم يستطع.
كان البكاء أشبه بزئير حيوان جريح، يملأ الفضاء.
ألقى بكل وقاره ومقامه جانبًا، وبكى بصوتٍ يهزّ الأرواح.
توقف الخدم عن الحفر، وخلع بعضهم قبعاتهم ووضعوها على صدورهم، ومسح آخرون دموعهم من أطراف عيونهم.
أما ليليتا، فلم تقل شيئًا، لم تكن الكلمات لازمة، فقط فتحت ذراعيها، وضمت أباها بقوة.
***
أُخرج التابوت الفارغ، وقلعت شاهدة القبر، ثم غرس البستاني مكانه أزهار الربيع الزاهية…نرجس وتوليب وكروكوس ملونة و وجه العجوز أشرق بابتسامة راضية.
أما في الداخل، في غرفة المعيشة المطلة على الحديقة الخلفية…
كانت تلك الغرفة أخصّ مكان في قصر البتولا، مخصصة لأبناء عائلة لاسكايل فقط.
قاعة دائرية عند ملتقى الممرات المؤدية لغرف النوم، أرضها مكسوة بسجاد سميك ناعم، تملؤها وسائد داكنة اللون مبعثرة، وجدار فيه مدفأة، والآخر نافذة واسعة تطل على الحديقة.
هناك، في طفولتهم، كان ريهارت وليليتا يتمددان على الأرض يلعبان الشطرنج.
وكان ليونهارت يجلس بجوارهم على الوسائد، يقرأ كتابًا، ويتدخل أحيانًا في لعبهم، فيثور ريهارت غاضبًا، لينتهي الأمر بمباراة شطرنج بينه وبين ليونهارت، بينما تضحك ليليتا بصوتٍ عالٍ، وتلتقط دفتر رسمها لتخط وجوه إخوتها.
كانت الدوقة تجلس عند النافذة، تحيك أو تطرّز، تراقب صغارها بعينين دافئتين.
وكان الدوق يدخل بعد قليل، يحمل في يديه الكبيرتين عدة فناجين قهوة وشوكولا ساخنة، يقدمها لكل واحد منهم، ثم يجلس باسترخاء، يرتشف قهوته، ويبادل زوجته حديثًا لطيفًا، وربما طبع قبلة على وجنتها.
ذكريات صغيرة، لكنها أثمن اللحظات.
تلك المدفأة، التي خبت نيرانها طوال عشر سنوات… اليوم، وللمرة الأولى منذ عقد كامل، اشتعلت من جديد.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 23"