“يا إلهي، سامحيني، لقد بالغتُ قليلًا… أنا آسفة، عزيزتي.”
“أوه، أ-أنا أيضًا آسف.”
“يا للأسف، لا عليكِ، تناولي طعامكِ براحتك.”
هذه المرة، بدا واضحًا أنهم يحاولون جاهدين ألا يحدّقوا في وجهها.
لكن رغم ذلك، ما إن تقترب ريتا من زجاجة التوابل، حتى يبادر أحدهم إلى مناولتها لها قبل أن تطلب، وإن راق لها أحد الأطباق، تجد أحدهم يزحف بصحنه نحوها في صمت، بدا أنهم لا يزالون يركّزون اهتمامهم بالكامل عليها.
ورغم أن الأمر كان مرهقًا قليلًا، إلا أنها لم تكره هذا الشعور، فقد كانت تفهم دوافعهم، مما جعلها تبتسم بخفة وهي تتناول طعامها.
“يا له من طعمٍ مألوف…”
قبل أن تستعيد ذاكرتها، كانت تنظر بدهشة إلى هذه الأطعمة الفاخرة والغنية التي لم تألفها من قبل، أما الآن، وقد عادت لها ذكرياتها، فقد اكتشفت أن معظم هذه الأطباق كانت أطعمة من ذكرياتها القديمة، وعلى الرغم من مرور السنين، فإن مذاقها لم يختلف كثيرًا عمّا كانت تعرفه.
ما إن انتهى الجميع من تناول الطعام، حتى ترددت الدوقة قليلًا قبل أن تفتح فمها لتقول:
“ليلي، هل ترغبين في مرافقتي في جولة تسوق في وسط المدينة؟”
“نعم؟”
“ليس لديكِ الكثير من الملابس لتلبسيها حاليًا، أليس كذلك؟ يمكننا أن نؤجل خياطة الفساتين الرسمية لاحقًا، ونخرج الآن لنشتري بعض الملابس الجاهزة مؤقتًا، بالإضافة إلى أننا سنحتاج الى أشياء كثيرة أخرى بعد عودتكِ إلى المنزل… تسوّقٌ بسيط، وربما نتجول قليلًا في شوارع لاسكايل لنرى كم تغيّرت خلال هذه السنوات.”
كان اقتراحها خجولًا، مترددًا، لكن سرعان ما دعمها ريهارت بابتسامة مرحة وهو يقول:
“أمي، ألن تحتاجي إلى من يحمل الأغراض ويحرسكما؟ اصطحبيني أنا أيضًا.”
وأردف ليونهارت ضاحكًا:
“أنا لدي بعض الالتزامات، لذا لا أستطيع المجيء معكم، لكن… أظن أن الفكرة جيدة، ماذا ترين، ليلي؟”
لم تكن ريتا قد خاضت تجربة تسوّق حقيقية من قبل، ولم تكن تهتم كثيرًا بالملابس أصلًا، لكن عيني والدتها اللامعتين، المليئتين بالتوق واللهفة، جعلت من الصعب عليها أن ترفض.
“حسنًا، فلنذهب.”
***
غادرت عربات دوقية لاسكايل قصر البتولا وسط وداع من ليونهارت بدا عليه بعض التحسّر.
رغم أن ريهارت ادّعى أنه سيكون الحارس والمرافق، فإن كونه الابن النبيل للدوق جعله لا يُعتَبر حارسًا حقيقيًا، لذا رافقهما فارسان من فرسان العائلة لأداء مهمة الحراسة، أحدهما كان التابع الأمين لريهارت والمسمى بـ”الأماثيست”.
رافقتهم أيضًا خادمتا الدوقة وريتا، نانسي وهانا، لتقديم الخدمة، فتحوّل ما كان يُفترض أن يكون نزهة بسيطة إلى موكب صغير مصحوب بحاشية.
لم تكن عربة واحدة كافية، فاضطروا لاستخدام اثنتين، وكانت العربات، كما هو متوقّع، مزينة بشعار العائلة، وكذلك زي الفرسان، مما جعل وجودهم لافتًا للنظر أينما حلّوا.
“آه، أجل… هكذا تكون جولات النبلاء، سنجذب الأنظار بكل تأكيد.”
لقد اعتادت ريتا في حياتها السابقة على التنقل ببساطة، بل وبسرية أحيانًا، حتى كادت تنسى ما يعنيه أن تكون جزءًا من أسرة أرستقراطية، لِهذا بدأت تستعد نفسيًا لهذا التغيير.
“حين أشعر بنظرات كثيرة عليّ، أتوتر، لو لم أتحكم في نفسي، قد أنفجر في وجه أحدهم دون قصد، لا… لا داعي لكل هذا التوتر، هذا العالم لا تحكمه شمس الرماد، لا حاجة للمبالغة في الحذر.”
خشيت أن يجد أفراد العائلة تصرفاتها غير لائقة بِـ ليلي، لذلك عزمت على كبح تصرفاتها الغريبة قدر المستطاع.
“حتى لو شممت رائحة الباتشولي، لا تطلقي النار، لو اقترب شخص غريب فجأة أو شعرتِ بشيء غريب، لا تطلقي النار على رأسه، فقط صوبِي إلى الذراع أو الساق، بهدف الشلل، لا القتل.”
وفيما كانت تقبض على المسدس الذي أهداه لها ليونهارت، وتُدخله بين أصابعها في تفكير، سألها ريهارت من الجهة المقابلة لها في العربة باندهاش:
“مهلًا، ما قصة هذا المسدس؟ يبدو كأنه قطعة من مجموعة أبي!”
“أعطاني إياه ليون أخي.”
إذًا، كانت من مجموعة أبي بالفعل…
“لا عجب أن ليون بدا غير مهتم بها كثيرًا.”
وفجأة تذكّرت ريتا مدى شغف والدها بالصيد، وكيف كان يهوى جمع البنادق… ومن أعماق ذاكرتها خرجت صورة قديمة لأبيها وهو يضمّها إلى صدره وهي طفلة صغيرة، ثم يريها المسدس بلطف… وتذكّرت أيضًا كيف ثارت أمها عليه مذعورة في ذلك اليوم!
“إذًا، حُبّي للأسلحة ورثته من أبي؟”
حدّقت بنظرة مختلفة في المسدس الفضيّ الذي تزيّنه نقوش ذهبية فاخرة، قد يكون بنظرها قديمًا بعض الشيء، لكنه لا بدّ أن يكون حديثًا جدًّا في هذا العالم.
“لو قلتُ إنني أحب الأسلحة مثل أبي، هل سيفرح بذلك؟”
اجتاحها حنين مفاجئ… اشتاقت إلى والدها بشدة، تمنّت في تلك اللحظة لو يعود من العاصمة سريعًا.
سألها ريهارت بتردّد:
“أخي أعطاك إياه؟”
“قلت له إنني بحاجة إليه.”
“لكن… لماذا تحتاجين إلى مسدس؟”
“لأنني أرتاح بوجوده، هو السلاح الذي اعتدت عليه وأُجيده… وجوده في متناول يدي يمنحني الطمأنينة.”
“هممم…”
تغيّرت ملامح وجه ريهارت، كأن ما سمعه لم يكن متوقَّعًا، لكن ريتا، وقد توقعت ردّ فعله مسبقًا، اكتفت بابتسامة خفيفة.
“هل من الغريب أن أعتبر المسدس سلاحًا؟”
“لا، ليس هذا فقط… بل قولكِ إنكِ لا تطمئنين إلا بوجود سلاح؟… أنتِ؟”
“أظن أن ليون لم يخبرك بما كنت أفعله طوال السنوات الماضية، أليس كذلك؟”
“بالعكس، أوصاني بعدم سؤالكِ أبدًا عن أي شيء يخصّ ماضيكِ، ما دمتِ غير مرتاحة للحديث عنه.”
“آه، فهمت.”
“لكن بما أننا فتحنا الموضوع… هل يمكنني أن أسألك؟ أين كنتِ طوال هذا الوقت؟ وكيف عشتِ؟”
“هممم… سيكون حديثًا طويلًا إن بدأتُ بالكلام…”
“لقد وصلنا!” قاطعت الدوقة الحديث بصوتٍ مبهج وهي تفتح باب العربة التي توقفت في تلك اللحظة.
نزلت ليليتا من العربة مستندة إلى ذراع ريهارت، لتجد نفسها أمام متجر فخم وضخم لبيع الملابس.
وكما توقّعت، تدفّقت عليها النظرات من كل حدبٍ وصوب.
المارّة في الشارع توقّفوا عن السير، وتجمّعوا حول عربات عائلة الدوق وهم يتهامسون فيما بينهم، فقد كانت عائلة لاسكايل، طوال السنوات العشر الماضية، شبه منقطعة عن المناسبات العامة، ولهذا جذب ظهورهم المفاجئ الأنظار بشدة.
“من الأفضل أن أدخل بسرعة.”
شعرت بتوتر يتسلل إلى أطرافها، فسارعت إلى التوجه نحو الداخل.
ما إن دخلت حتى عمّ الهرج والمرج في المكان. لم يكن غريبًا أن يُفاجأ الجميع بزيارة الدوقة شخصيًا، وخصوصًا أنها لم تغادر القصر طيلة السنوات التي أعقبت اختفاء ابنتها.
“لو اتصلتم بنا لكنا أتينا فورًا! يا للروعة، ما الذي دفع الدوقة الجليلة إلى التشريف بنفسها…؟”
لكن صوتها تلاشى تدريجيًا، وعيناها اتسعتا وهي تحدّق في ليليتا.
“آه، من تكون هذه الفتاة الجميلة؟”
ردّت الدوقة، وابتسامتها تشعّ فرحًا:
“إنها ابنتي.”
اتّسع فم المصمّمة حتى كاد لا يغلق.
“م-ماذا؟! تقصدين… الآنسة لاسكايل؟ التي اختفت منذ عشر سنوات؟!”
“نعم،وقد عادت إلينا مؤخرًا، سالمةً معافاة، لذا نحن بحاجة إلى ملابس تناسبها.”
“يا للعجب! مباركٌ لكم، سيدتي! أبارك لكم من كل قلبي!”
صاحت المصمّمة وهي تصفق بفرح، ثم أصدرت أوامرها بسرعة، فتحرّك الموظفون على عجل.
نُقلوا جميعًا إلى غرفة استقبال فاخرة، وفي أحد أركانها نُصبت غرفة تبديل صغيرة، وبدأت رفوف من الفساتين الراقية والتنانير الفخمة تُنقل إلى الداخل واحدة تلو الأخرى.
وسرعان ما بدأ العرق البارد يتسلل على ظهر ريتا.
“…لا يُعقل، كانوا يقولون إن الرائحة الباتشولي موضة رائجة هذه الأيام، لكن لم أظن أنهم جادّون!”
كانت رائحة الباتشولي تفوح من كل فستان… وكلما زاد عددها، زادت الرائحة قوة.
اضطربت أنفاسها، وأحست برغبة في سحب المسدس وإطلاق النار على رفوف الملابس… لكنها تمالكت نفسها وعضّت على شفتيها.
“كلا، ريتا باسكال، لا يوجد شياطين بين هذه الفساتين، لقد تأكدتِ باستخدام الأود، ولم تشعري بشيء… الشياطين التي لا تلتقطها حواسك شبه معدومة، لا، في الحقيقة، هذا العالم يخلو من الشياطين أصلًا. اهدئي.”
“آه، لا! لا يمكن!”
صاحت هانا، خادمة ريتا، فجأة، بصوتٍ مرتعش.
وقبل أن تهمّ نانسي بتوبيخها على صراخها الوقح في حضرة الدوقة، أسرعت هانا تصرخ:
“رائحة الباتشولي!… آنستي تكره هذه الرائحة بشدة!”
“ماذا؟”
“ما الذي تقولينه؟ لماذا…؟”
استدارت الدوقة نحو ريتا، وسرعان ما شهقت بفزع:
“آه، ليلي!”
“نعم؟”
“شفاهكِ تنزف! يا إلهي، ما الذي حدث؟!”
“آه…”
تلمّست ريتا فمها، ثم سارعت إلى مسح الدم عن شفتيها بظهر يدها وهي تقول مرتبكة:
“لا، لا شيء… فقط كانت جافّة قليلًا…”
“لا، بل بسبب الباتشولي! هذا مؤكد!”
صرخت هانا مجددًا، ثم اندفعت نحو رفوف الملابس قائلة:
“رجاءً، أبعدوا هذه الفساتين فورًا! أي شيء تفوح منه رائحة الباتشولي ممنوع!”
بدأ الموظفون يسحبون رفوف الملابس من الغرفة وهم في حالة ذهول، خاصة بعدما رأوا هانا تصرخ، وريتـا تمسح الدم عن شفتيها بوجه شاحب.
أسرعت هانا إلى فتح النوافذ للتهوية، وبدأت الرائحة تتلاشى تدريجيًا، ومعها خفّت التوترات التي كانت تشتد داخل ريتا.
“اللعنة… يبدو أنني حتى بعد استخدام الأود، لا أزال أتأثر بهذه الروائح لو كنت قوية بما يكفي، لا مفر.”
وضعت يدها على طرف فمها وقالت بلطف:
“شكرًا لك، هانا.”
“هل أنتِ بخير، ليلي؟”
قالت الدوقة وهي تُخرج منديلاً وتمسح به الدم عن يد ريتا المرتبكة، بادلتها ريتا ابتسامة مطمئنة:
“أنا بخير، أمي. فقط… يبدو أنني حسّاسة قليلًا تجاه تلك الرائحة.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 21"