الحلقة الرابعة عشر.
“ادخل.”
كان ليونهارت هو من فتح الباب ودخل.
تعلو وجهه ملامح استعجالٍ واضحة.
من الطبيعي أن تكون لديه أسئلة كثيرة، بعد أن فقدت وعيها وهي تبكي بجنون ليلة أمس ، لقد جاء يطرق بابها بمجرد أن أشرقت الشمس.
رفعت ليليتا البطاقة التي كانت عليها نبتة النفل ذات الأربع أوراق، وأرتها له وهي تتحدث:
“تعرف هذه، أليس كذلك؟”
“ريتا…”
“في الواقع، لم يكن ذلك امتحانًا يُمكن الرسوب فيه، أليس كذلك؟”
تعلقت عينا ليونهارت بتلك البطاقة الصغيرة، القديمة، التي بدت وكأنها ستتمزق في أي لحظة.
“لقد وجدتُ هذه!”
“أخي ليون، عليك أن تنجح في الامتحان!”
“في ذلك الوقت، كنتَ تتهيأ لاجتياز امتحان التخرج من الأكاديمية ، وهو امتحان لا يوجد فيه رسوب أو نجاح، بل مجرد ترتيب درجات، أليس كذلك؟ أنا لم أكن أعلم ذلك ، ظننت أنه يشبه امتحان القبول الذي خضته أنت لدخول الأكاديمية، أو ذاك الذي خاضه أخي ريهارت للالتحاق بالفرسان المقدسيين ، لم أكن أعرف أنه يوجد امتحان بدون نتيجة ‘ناجح’ أو ‘راسب’.”
اتسعت عينا ليونهارت أكثر فأكثر، فتابعت ليليتا بابتسامة:
“لذا كتبت لك ‘أتمنى أن تنجح’، لكنك لم تصحح لي خطئي، بل ضحكت، ثم قلت لي إنك ستنجح حتمًا، وقبّلتني على خدي ، بعد أن غادرت، أخبرني ريهارت ضاحكًا أنني كتبت عبارة خاطئة.”
ثم أغلقت علبة الثقاب ومدّتها إليه.
“منذ ذلك اليوم، لم نلتقِ مجددًا، أخي ليون… لأنني اختفيت قبل أن تعود من الأكاديمية.”
ارتعشت نبرتها، إذ اجتاحها شعور قوي مفاجئ.
لكن ليونهارت لم يتمكن من الرد، ولا حتى من تسلّم علبة الثقاب، كان يحدّق بعينين واسعتين، يلهث بأنفاس مضطربة، ثم فتح فمه متلعثمًا، بصوت مرتجف أكثر منها:
“لي… لي تا… تتذكرين؟”
“نعم، تذكّرت كل شيء، كل شيء.”
“يا إلهي…”
تهاوى ليونهارت نحوها، واحتضنها بشدة بين ذراعيه الواسعتين.
“لي…ليتا، أنتِ… أنتِ فعلاً…”
“نعم.”
هذه المرة، لم تتراجع ليليتا ، قابلت حضنه بحضن مماثل، وهي تمسك بعلبة الثقاب في يدها.
عشرة أعوام مضت.
ثم سمعت أنينه المكبوت قرب أذنها، وبدأت كتفاها تبتلان شيئًا فشيئًا.
تنفست ليليتا تنهيدة طويلة وعميقة.
“أتعلم؟ كنت على حق، اوبا أنا حقًا… كنت ليليتا، نسيت كل شيء… حتى لم أعد أميّز عائلتي.”
همست، وهي تحتضن أخاها الأكبر الذي نسيته طويلًا.
“عائلتنا لم تتخلَ عني أبدًا، ومع ذلك، قضيت كل هذا الوقت وأنا أظن أنكم تخلّيتم عني، فظللت ألومكم، لو كنت أعلم أنكم تبحثون عني بهذا الشكل… آسفة، لقد أسأت الفهم.”
“لا بأس… لا بأس بذلك كله.”
أجابها ليونهارت بصوت مشوش، وهو يمسح على شعرها بلا توقف.
“حتى لو لُمتِنا، فهذا لا يهم ، المهم أنك عدتِ رجعتِ إلينا… وهذا كل ما يهم.”
أسندت ليليتا رأسها على صدره، وهمست:
“لقد عدت أخيرًا، اوبا.”
ولم يعد ليونهارت قادرًا على الكلام، جسده الكبير انهار بين ذراعي شقيقته التي لا تصل حتى إلى نصف حجمه.
عشر سنوات منذ اختفاء أخته الصغرى، عشر سنوات منذ أن تفتّتت العائلة التي كانت سعيدة وكاملة.
بين أمٍّ على حافة الانهيار، وأبٍ ينهشه الندم، وأخٍ صغير يتحطّم من الشعور بالذنب… ظلّ الأخ الأكبر متماسكًا، يتظاهر بالقوة.
لكنه اليوم، سمح لنفسه أخيرًا بالانهيار.
أقل حزنًا من أمه، أقل ألمًا من أبيه، أقل يأسًا من أخيه… لذلك شعر أنه لا يملك الحق في البكاء.
بعد اجتيازه امتحان التخرج وعودته إلى قصر البتولا ، سمع الخبر.
كان ينوي تقديم دمية وبعض الحلوى لها، مكافأةً على البركة التي حملها معه ذلك النفل ذو الأربع أوراق، حين سمع بما حدث… فسقطت الهدايا من يده الضعيفة.
ومنذ ذلك اليوم، لم يسمح لنفسه بالبكاء.
وسط أمٍّ تنتحب، وأبٍ مذهول، وأخٍ أزرق الشفاه من الرعب… لم يكن بمقدوره الانهيار أيضًا.
“لي…ليتا لقد… لقد افتقدتكِ كثيرًا، لم أستطع تصديق أنك لم تعودي هنا… شكرًا لك لأنك عدتِ حية… شكرًا… شكرًا…”
رغم أنها فوجئت برؤية شقيقها الأكبر، الذي كان دومًا ذلك الشاب الهادئ الرصين في ذاكرتها، يبكي ويستند إليها بهذا الشكل، إلا أنها لم تشعر بالارتباك ، بل احتضنته بهدوء.
لأنها فهمت، دون أن يحتاج إلى أن يخبرها، كم تحمّل… وكم قاوم.
غادر ليونهارت على عجل وهو يمسح دموعه، ليبعث برسالة إلى الدوق.
ففكرة أن تكون ابنته على قيد الحياة لكن ليست هي، جعلته غير قادر على رؤيتها، فانتقل إلى منزل في العاصمة.
“لقد كان يتجنّبني حقًا.”
كان لديه بعض الأعمال هناك، نعم… لكن الأهم، أنه لم يشأ أن يفقد رباطة جأشه عند رؤيتها.
“أبي ذهب إلى برج السحر بالعاصمة ليجمع معلومات عن السحر الأسود، لأن ريهارت قال إنكِ ربما مُسِكتِ بسحر شيطاني… سيعود حالما تصله الرسالة، لكن ذلك سيستغرق بعض الوقت.”
“أما أمي، فقد مرضت، يبدو أن دخولها إلى البحيرة أثّر على جسدها كثيرًا ، الآن تأخذ دواءها وتنام… لكنها ظلت تناديك ، سنذهب إليها معًا لاحقًا.”
“ريهارت هرب مجددًا من المنزل، لكنه عادة ما يعود ليلًا… والآن وقد عدتِ، لا بدّ أنه سيعود لرشده.”
“ليلي، لدي الكثير من الأسئلة، وأريد أن أعرف كل شيء ، ماذا حدث؟ وأين كنتِ؟ لكن لا أريد إجبارك على تكرار القصة… فلنستمع جميعًا لها عندما نكون مجتمعين، أعلم أنها ليست قصة يسهل سردها.”
قال ذلك، وأصرّ أن يتولى كل شيء بنفسه، طالبًا منها فقط أن ترتاح.
رغم صلابته الظاهرة، ظلّ أخوها الأكبر دافئًا وحنونًا كما كان قبل عشر سنوات.
“من تغيّر… أنا فقط.”
ليليتا، تلك الفتاة البريئة الطاهرة التي نشأت بين قلوب محبة وظروف هادئة، لم تعد موجودة.
الفتاة التي عاشت 12 عامًا كـ”ريتا باسكال” باتت مألوفة أكثر بظلام العالم وقبح البشر.
لا تدع نفسها تنجرف في العواطف، ولا تنغمس بها طويلاً ، لم تكن تملك ترف ذلك في البيئة التي اضطرت للنجاة فيها.
“لكن لماذا… لماذا ذهبت معها في تلك الليلة؟”
استعادت تلك الليلة المشؤومة بينما استرجعت ذاكرتها، وغمرها الغضب من ذاتها الطفلة، لكنها في الوقت ذاته، تفهّمت.
“كنت مجرد طفلة ساذجة، لا أصدقاء لها، ضعيفة أمام من هم في مثل عمرها، والآن… لا فائدة من الغضب، لن يغير شيئًا.”
لكن الآن، هناك ما يجب عليها فعله.
“أ، أنا… اسمي هانا، وأعمل كخادمة في منزل الدوق، ومن اليوم… سـ… سأكون في خدمة الآنسة…”
كانت الخادمة ذات الشعر الكستنائي المحمر تبكي بتلعثم وهي تقدم نفسها.
“هي من اختطفتني في تلك الليلة.”
“لكنها لم تكن الجانية الحقيقية، فتاة يتيمة، في الثانية عشرة، فقدت أمها وتبنّيت كخادمة… لا يمكن أن تكون خططت لهذا وحدها، كانت حالتها غريبة في ذلك اليوم أيضًا…”
لابد أنها كانت واقعة تحت تأثير سحر أو ما شابه، وهذا يعني أنها لا تذكر شيئًا على الأرجح كونها لا تزال تعمل خادمة حتى اليوم يؤكد ذلك.
لكن رغم ذلك، لا بد من التحقيق معها.
فلابد من معرفة السبب، ولماذا اختفت ليليتا فجأة، لتجد نفسها في جسد فتاة تُدعى “ريتا باسكال”.
هانا… كانت الخيط الوحيد المتاح.
“وباسكال؟ من يكون هذا الرجل؟ حتى لو كان ساحرًا عظيمًا، هل يعقل أن يسرق الأرواح من عوالم أخرى؟ أهذا ممكن أصلاً؟ هل له شركاء في هذا العالم؟”
وإن كان ممكنًا، لماذا كل هذا التعقيد؟ لماذا اختطف روح، ومحى ذاكرتها، واسكنها في جسد يتيم؟!
“إن كان هدفه إنشاء سلاح بشري، أليس تصنيع آلة أو غولم أكثر سهولة؟ لماذا كل هذه الفوضى؟”
ثم… لماذا هي بالتحديد؟
هل جميع أطفال باسكال مثله؟ وإن مات أحدهم، فهل يعود إلى جسده الأصلي كما حدث لها؟
فجأة، خطرت في بالها العبارة التي كان باسكال يكررها:
“لا تخافوا الموت، فموتكم سيكون بذرة الأمل.”
هل كان يقصد بهذا… أن الموت سيعيدهم إلى عالمهم الأصلي؟ إلى أجسادهم الحقيقية؟ ألا داعي للخوف لأن الموت ليس نهاية؟
“لا يعقل… حقًا؟”
هل الجميع جُلبوا من نفس العالم؟ أم من عوالم متعددة؟
إن كانوا من نفس عالمها، وإن كان الموت يعيدهم إليه فعلًا… فهل تملك فرصة لرؤيتهم مجددًا؟
“رفاقي في الفرقة ما زالوا أحياء، لذا لن أراهم هنا ، لكن ربما… أولئك الذين ماتوا بالفعل… إن لم يكونوا من عالم آخر…”
كلها مجرد فرضيات، لكنها ليست مستبعدة.
“سأبحث عن كل ذلك، بهدوء… وبالترتيب.”
قررت أن تطلب من الخادم إحضار هانا، لكن، وقبل أن تفتح فمها…
طرق أحدهم الباب.
“آنسة… أنا، هانا، هـ هل يمكنني الدخول؟”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"