الحلقة الحادية عشر.
كانت الغرفة التي تقيم فيها حاليًا تقع في الطابق الثالث.
لكن إن نزلت بهدوء عبر الدرج، فلن تتمكن من اللحاق بالدوقة.
اجتازت ريتا حافة النافذة بخفة، وضغطت بإصبعي السبابة والوسطى على عنقها، ثم أطلقت طاقة أود عبرهما.
“أُريد..”
خرج صوت غريب يتردد من فمها.
“…رياحًا تمنع سقوطي.”
تمتمت بتعويذتها وقفزت مباشرة من النافذة.
كانت هذه إحدى أساسيات السحر، حتى فارسة مسلّحة مثلها تستطيع فعلها، تدافعت الرياح والتفت حول جسدها المتساقط، فرفعتها برفق لتمنع سقوطها.
هبطت بخفة كالريشة وسط الحديقة، وركضت عبر ممرٍ ضيق وسط غابة أشجار البتولا ، متتبعةً الدوقة التي اختفت عن الأنظار.
“هَاه… هُووف…”
سرعان ما بدأ نفسها يضيق، وكانت قدماها تؤلمانها بفعل ارتدائها نعال غرفة النوم الرقيقة.
وقد فكرت في هذا مرارًا خلال الأيام الماضية: هذا الجسد…
هذا الجسد كان هشًا بالفعل، تمامًا كما يبدو عظامه رقيقة وضعيفة، والتدريب لن يغيّر الكثير.
رغم أنّ قابليتي لاستخدام الأود خارقة، إلا أن هذا الجسد بائس… آه، وجدتها!
بين أشجار البتولا ، لمحت ظل الدوقة.
كادت ستناديها دون قصد، لكنها سرعان ما وضعت يدها على فمها، لقد تذكّرت مجددًا أنها ليست ليليتا الحقيقية، رغم أنها تحتل جسدها.
أحتاج لشيء يخفي ملامحي…
كان القمر ساطعًا بشكل مزعج.
وفيما كانت تفكر في ما يمكنها فعله، كانت الدوقة تسير مترددة على ضفاف البحيرة، تبحث عن شيء ما بلا توقّف، تنحني لتفحص الأرض، وتقلب الأغصان والنباتات.
ما كانت تبحث عنه واضح تمامًا ، راقبتها ريتا بشعور مختلط من الشفقة والذنب.
وسرعان ما دوّى صوتٌ نحيل مرتجف…
“لِيلي… لِيلي…”
وانفجرت الدوقة في البكاء.
بوجهٍ شاحب وشَعرٍ مبعثر، كانت تنادي اسم ابنتها بحرقة، تتساقط دموعها على سطح البحيرة كالضوء المنسكب.
“أين أنتِ؟ لِيلي… ابنتي… أين تبكين؟ سأجدك، أعدك… لا تبكي…”
عضّت ريتا على شفتيها بصمت، ذلك الشعور بالذنب غمرها مجددًا، لأنها لم تكن الابنة الحقيقية.
لماذا دخلتُ الى هذا الجسد تحديدًا؟ لو كنت يتيمة لا أحد يبحث عنها، ما كنت لأشعر بهذا الشكل…
فجأة، استدارت الدوقة بعنف.
“لِيلي؟ هل أنتِ هنا؟ وحدك في هذا البرد؟ انتظري، سأُنقذك، أمّك قادمة…”
ومشت بخطى غير مستقرة نحو البحيرة.
في لحظة، انزلقت قدماها إلى الأعماق، قميصها الشفاف والطويل بدأ كقنديل البحر يتماوج تحت السطح.
صرخت ريتا من تحت ظل الأشجار، و اندفعت نحوها.
في تلك اللحظة، لم يكن مهمًا كيف ستبدو في أعينها، أن تظهر كـ ليليتا أو لا ، كل هذا لم يعد يعني شيئًا.
“سيّدتي!”
قفزت مباشرة إلى البحيرة دون تردد، كان الجو في أوائل الربيع، والليل باردًا إلى حد التجمد، فشعرت بالماء البارد يضرب جسدها حتى راحت أسنانها تصطك من شدة البرد.
لكنها شقت الماء بذراعيها وتقدّمت.
“دوقة! توقفي! توقفي، هذا خطر!”
سبحت داخل الماء الذي ازداد عمقًا، حتى أمكنها بالكاد الإمساك بكتف الدوقة.
“قلتُ توقفي!”
“لِيلي… لِيلي…”
لكن الدوقة لم تلتفت إليها، بل حاولت التقدّم أكثر نحو الأعماق وهي تتخبط بعنف.
فصرخت ريتا، وهي تمسكها من الخلف وتحاول سحبها:
“ما الذي تقولينه؟ ابنتك ليست هنا!”
“بل هي هنا!”
صرخت الدوقة وكأنها تطلق صرخة تمزق صدرها.
“إنها هنا! ليلي تناديني، تبكيني… دعيـني!”
بدأت تتلوى وتقاوم بجنون، ارتفعت الأمواج وكسرت هدوء البحيرة.
“لا! ليست هنا! ابنتك، ليلّيتا…”
كان من شبه المستحيل أن تسيطر ريتا على جسد الدوقة في هذه الظروف، وهي نفسها محاصرة في جسد هش.
تابعت السحب، لكن قدمها انزلقت فجأة…
فقدت الأرض من تحت قدميها، كان هذا هو المنحدر الذي يتغير فيه عمق البحيرة فجأة.
سقطتا معًا تحت الماء، وارتفعت المياه برشاش عنيف.
“أفف!”
فاضت فقاعات الهواء من فمها، ولم تعد ترى شيئًا.
ثم، ومن وسط العتمة، لاحت خصلة شعر قرمزي تتماوج وتهوي للأسفل.
مدّت ريتا يدها على الفور، وهي تحبس أنفاسها. وحرّكت أودها بسرعة.
أنا من فئة المُعالج، لا أجيد تقوية الجسد… لكن الآن لا بد من فعل شيء!
استجمعت طاقتها وأطلقتها لتغمر جسدها بالكامل، تلألأ الضوء الذهبي كسراب وسط ظلمة الماء.
رغم افتقارها لقدرات المحاربين المعزّزين، إلا أن استخدامها الخشن للأود جعل ذراعيها تنبضان بقوة، ولمعتا بينما قبضت بقوة على ذراع الدوقة.
وأخيرًا، التفتت الدوقة نحوها، وسط التيارات المتلاطمة، تطاير شعرها الأحمر ليكشف عن وجهٍ شاحب، ونظراتها التقت بوجه ريتا المتوهج.
في الظلام… وسط ذلك الضوء الذهبي، رأت وجه ابنتها.
فتحت ريتا شفتيها ببطء، وهمست بلا صوت:
“أرأيتي؟ ابنتك… هنا.”
اتسعت عينا الدوقة الزرقاوين بذهول، فتحت فمها، وانفجرت فقاعات الهواء منه كدموع مائية.
أمسكت ريتا وجهها بكفّيها، ثم أحاطت بها وبدأت تسبح نحو السطح.
لكنها توقفت فجأة.
ما هذا؟
في الأعماق، كان هناك شيء ما يتوهج بلونٍ ذهبي.
شعّ من قاع البحيرة، كأنه يستجيب لتسرب الأود الذي انبعث من جسدها قبل قليل.
ما الذي… لا، أولًا يجب أن أنقذ الدوقة.
اندفعت نحو السطح، وما إن أخرجت رأسها من الماء حتى راحت الدوقة تسعل بعنف.
“كخ… كخاه… كحو، كحو…”
سحبتها ريتا نحو الشاطئ، ثم زحفت بجسدها المبلّل إلى الخارج، وانطرحت على الأرض تلهث.
“هاه… هاه… غغ…”
كانت الدنيا تدور بها، وهاج جسدها بالغثيان، لقد ضغطت على نفسها أكثر من اللازم، مستخدمة أسلوبًا لا يتناسب مع نوعها السحري.
صديقتي الحمقاء، كم مرة قلت لكِ أن هذه الفئات موجودة لسبب؟! تظنين أننا قسمناكم عبثًا ليبدوا الأمر أنيقًا؟!
حين تستمرين بتجاوز الحدود، سيُدمّرك ذلك! ألم أُعلمك تعاويذ الطوارئ كي لا تفعلي هذه التفاهات؟!
تردّدت في أذنيها صرخة صديقتها الساحرة، وكأنها تقف بجانبها.
قهقهت وسط دوارها، وهي تمسح الماء والعرق عن وجهها.
لكن، هذا جيد، ربما لأن قابليتي مرتفعة جدًا…
وما إن عاد تنفسها لطبيعته، حتى سمعت صوتًا يرتجف بجانبها.
“لِيلي…؟”
التفتت، فرأت الدوقة ترتجف بشدة، وقد أغرقتها المياه حتى العظم، وهي تمد يديها نحوها.
“لِيلي؟ أأنتِ… ليلّيتا؟”
تردّدت ريتا للحظة، ثم أمسكت يدها وابتسمت ابتسامة باهتة.
“نعم…”
“آه… ابنتي! لقد عدتِ أخيرًا! لِيلي… لِيلي!”
اندفعت الدوقة نحوها وضمتها بشدة، تبكي من أعماقها.
سمحت لها ريتا بذلك لبعض الوقت، ثم فصلت نفسها عنها برفق.
“سيّدتي… من فضلك، فقط لحظة…”
لم تكن مرتاحة لخداع هذه المرأة البائسة، ولم تكن ترغب في التظاهر بأنها ليلّيتا، والأهم… ذلك الضوء الذهبي في قاع البحيرة لم يغب عن بالها.
حين فتحت عيناي في هذا الجسد لأول مرة… كنتُ في قاع هذه البحيرة، لا بد أن هناك شيئًا هناك.
رغم أن ليونهارت أخبرها أن الغواصين فتشوا المكان مرارًا ولم يجدوا شيئًا…
لكن إن كان ذلك الشيء يتفاعل مع الأود النقي، فربما لم يتمكنوا من رؤيته أصلًا، يبدو أن الناس هنا يستخدمون السحر، لكنهم لا يعرفون ما هو الأود فعلًا.
لم تقتصر جولتها خلال الأيام الثلاثة الماضية في قصر البتولا على جمع معلومات عن ليلّيتا فقط.
بل بدأت تتعرف على هذا العالم، وما يشبهه أو يختلف عن عالمها.
هؤلاء الناس لا يعرفون كيف يستخدمون الأود النقي… لا زالوا في طور مبكّر من الفهم ، إن كان ذلك الشيء في البحيرة مرتبطًا بالأود…
نهضت ريتا من مكانها، فتمسكت بها الدوقة بخوف.
“أ-إلى أين؟ لِيلي؟ لا تذهبي… لا تتركيني!”
“أنا آسفة… فقط دقيقة…”
وضعت ريتا يدها على عنقها مجددًا، وتمتمت:
“أُريد… جدارًا يحمي من الخطر.”
استجابت الأرض تحتها، وارتفع طين مشكّل جدارًا يحيط بالدوقة ، كانت هذه إحدى التعاويذ التي علمتها لها صديقتها.
“لِيلي؟! لِيلي!”
“من فضلك انتظري في الداخل، سأعود سريعًا.”
ومضت تاركة الدوقة التي بدأت تطرق الجدار بهلع.
اقتربت من البحيرة، وضغطت على عنقها من جديد.
“أُريد… نَفَسًا حرًا في أي مكان.”
“بمعنى القدرة على التنفس وين ما تكون”
انطلقت الرياح وتجمعت حول وجهها، شكّلت فقاعة هوائية حول رأسها، مكنتها من التنفس بسهولة تحت الماء.
غطست مرة أخرى، هذه المرة بهدف واضح. ونشرت طاقتها الأود من حولها، تاركة وميضًا ذهبيًا يتماوج في الظلام.
لم يمض وقت طويل… حتى استجاب شيء في القاع.
تلألأ هناك، كأنه يرد على نداءها.
اقتربت منه أكثر فأكثر، وبدأ الشكل المضيء يظهر من أعماق السواد…
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"