الحلقة العاشرة.
“مجرد وجودكِ يا آنسة، هو أمر نشعر نحوه بامتنان بالغ!”
تداخلت صورة هانا، وهي تبكي عند رؤيتها لأول مرة.
كلماته هزّ بأعماقها شي ما.
وتذكّرت علبة الكبريت التي ناولها إياها ليونهارت.
“اختفاء ليليتا… كان أمرًا أكثر يأسًا وخطورة مما تخيلت، بالنسبة لهؤلاء الناس على الأقل.”
عضّت ريتا على شفتيها وهي تغرق في أفكارها المتضاربة.
ياليتني كنت ليليتا الحقيقية.
لو كانت هي تلك الفتاة التي يفتقدها هؤلاء لدرجة الامتنان لمجرد وجودها، لكانت مشاعرها أقل اضطرابًا من هذا.
لكانت فرحتها خالصة، وراحتها صادقة.
“لكنني لا أتذكر شيئًا، ماذا لو صدّقت الأمر، وظهرت الحقيقية فجأة؟ أنا عندها…”
وما يزيد ارتباكها أن القسم قد تم باسم ليليتا.
كل شيء يبدو غريبًا عنها، بلا أي ذكرى، فقط مشاعر مختلطة وعدم الأمان.
كانت تشعر بالضيق والخوف، كانت بحاجة ليقين،
أي يقين.
وبينما كانت تقضم شفتيها بتوتر، قال لها ألفريد:
“لا أعلم، ولكن يوجد بعض الخدم الذين يذكرونكِ حين كنتِ طفلة، هل ترغبين في أن أستدعيهم؟”
“… نعم، أرجوك.”
غسلت وجهها بيديها الجافتين وأضافت:
“وأيضًا… هل يمكنني التجوّل في القصر معهم؟ إلى الأماكن التي قد تتذكّرها ليليتا… التي قد أتذكّرها إن كنتُ أنا.”
“بالطبع، يا آنسة.”
أجاب ألفريد بوجه منير، وكأنه يأمل أن تستعيد ذاكرتها.
بعدها، جالت ريتا القصر حتى وقت متأخر من الليل بصحبة البستاني والخادمة الذين خدموا ليليتا منذ طفولتها.
لم تتمكن من ارتداء فستان ليليتا بسبب رائحة الباتشولي التي علقت به، فارتدت فستانًا بسيطًا أحضره الخادم على عجل.
كان القصر، الذي ارتفع بمحاذاة غابة البتولا، أكبر بكثير مما تخيلت، لم يكن قصرًا فحسب، بل بدا كما لو كان قلعة بتولا.
حتى الأماكن التي كانت ليليتا تفضلها أو تمكث فيها كثيرًا، استغرقت وقتًا طويلًا لتفقدها.
وربما لأنها أطالت البقاء في كل مكان، على أمل أن تستشعر فيه شيئًا مألوفًا.
سمع ليونهارت أن ريتا تتجوّل في القصر بعد انتهائه من أعماله، لكنه لم يذهب إليها.
هو الآخر كان يتمنى أن تسترجع شيئًا.
ولأنها لم تنتهِ من التجوّل في يوم واحد، واصلت ريتا جولتها في الأيام التالية، برفقة الأشخاص أنفسهم.
قضت وقتًا طويلًا، تحديدًا في غرفة ليليتا، أكثر من نصف يوم، رغم أنها لم تستطع الدخول.
فقد قيل إن الغرفة تُركت كما هي منذ اختفاء ليليتا قبل عشر سنوات، فلم تستطع إلا النظر إليها من الخارج.
هانا ، التي كانت وصيفتها الخاصة، لم تظهر منذ ثلاثة أيام، وكان ذلك متوقعًا.
لو ظهرت بعد ما فعلته، لكان ذلك أغرب.
ليس غريبًا أن تتفاداني إلى الأبد.
لم تسعَ ريتا خلفها، واكتفت بإرسال اعتذار عبر ليونهارت.
حتى ريهارت لم يُرَ منذ ذلك الحين، وكل ما سمعته من الخادم أنه على الأرجح خرج مجددًا إلى الحانة.
في الليلة الثالثة بعد جولاتها في القصر، عادت ريتا إلى غرفتها منهكة.
“هذا الجسد… حالته مزرية.”
رغبت في النوم من شدة التعب، لكن عقلها لم يهدأ. اقتربت متمايلة من النافذة.
رأت من خلف الزجاج النظيف سماء الليل وقد ازدانت بالنجوم منظر لم تره قط في عالمها الأصلي.
راحت تعيد في ذهنها ما سمعته في الأيام الثلاثة الأخيرة.
“رغم أن جسدها ضعيف وكانت تمرض كثيرًا، إلا أن الآنسة ليليتا كانت تبتسم دائمًا، وكانت كلماتها عذبة للغاية، حتى مع بستاني عجوز مثلي.”
“كانت تمسك بيدي المتسختين وتقول إن ندوب البستنة هي أوسمة الزهور، بل أطلقت عليّ لقب ‘فارس الزهور’…”
“حين يتشاجر الأخوان، كان الأصغر يختبئ في ركن من الحديقة، والآنسة ليليتا كانت تجدهم دومًا بشكل عجيب، وكانت تصلح بينهما سريعًا، فيتصالحان مباشرة.”
“نعم، كانت كالملاك، كشمس دافئة، بفضلها، أضاءت أرجاء القصر.”
“قبل أن تولد، كان القصر مكانًا صامتًا وجادًا، حتى أن السيد ريهارت الصغير كان يشتكي من الكآبة.”
“لكن بعد ولادتها، كثرت الضحكات، وخصوصًا من الدوق.”
“حتى السيدة الدوقة كانت توبخه قائلة: منذ أن وُلدت ليليتا، وأنت تتصرف كالأحمق، ضاحكًا طول الوقت، لكنها بدورها كانت تضحك بسعادة كلما رأت ابنتها تقترب…”
لم تسمع فقط عن ليليتا، بل عن جميع أفراد أسرة لاسكايل.
“الدوق ليس في القصر، فقد غادر إلى العاصمة صباحًا، لا أظنه يتجنبك، بالطبع لا… ربما حدث أمر طارئ.”
“في الحقيقة، نادرًا ما يمكث في القصر، يعيش في بيت لاسكايل في كريمدوم، العاصمة… ربما للأسباب نفسها التي تجعل السيدة لا تغادر جناحها.”
“وهكذا، فإن القصر عمليًا يُدار من قِبل الابن الأكبر.”
“تأخر زواج السيد الكبير كثيرًا، وكان عليه أن يتزوج منذ زمن، ربما الآن سيتزوج أخيرًا، بما أن آنسة القصر قد عادت!”
“أما السيد الصغير، فكان دائمًا يحافظ على الحدود صارم، وكأنه زاهد… رغم أنه يشرب كثيرًا، إلا أن قواه المقدسة لم تتراجع، أظنه لا يزال مؤمنًا في داخله.”
“كان نجمًا في فرقة الفرسان المقدسين، ومن المعجزة أنه لم يُفصل بعد، السيد الأكبر عانى كثيرًا لترميم الوضع.”
“أما السيدة، فلا تكاد تظهر، فقدت الكثير من قواها… إحدى الخادمات الشابات أغمي عليها ظنًا منها أنها رأت شبحًا، لكنها مع ذلك بقيت لطيفة كما كانت، ولذا هو أمر يؤلم أكثر… أنها لم تعد قادرة على الابتسام.”
على خلاف القصر الفخم والمهيب الذي فاق توقّعاتها، كانت عائلة ليليتا أكثر هشاشة وكآبة مما ظنت.
“ليونهارت بدا بخير، هل هذا سبب كونه الوحيد الذي يلقاني؟”
ومع كل ما سمعته ورأته، لم تستعد أي ذكرى.
تفقدت كل الأماكن ما عدا البحيرة التي ظهرت فيها لأول مرة في هذا العالم.
“مع أني فقدت الذاكرة، أليس من الطبيعي أن أشعر بشيء؟ على الأقل إحساس بالألفة؟”
لكن كل شيء كان غريبًا، الأماكن، القصص، الأشخاص.
والفتاة التي يذكرها الجميع ليليتا كانت كالجنيّة، مشرقة، محبوبة ، لا تشبهها إطلاقًا.
هل أنا حقًا ليليتا؟
“ربما كان ليونهارت مخطئًا، ربما كان القسم مبنيًّا على الجسد، لا الاسم.”
لو كانت أوليغا هنا، لعرفت تمامًا السبب ، لكن ريتا، التي لم تكن ساحرة، لم تعرف إلا كيفية إتمام القسم، لا هيكليته ولا قوانينه.
حدقت في علبة الكبريت التي لم يأخذها ليونهارت بعد، ثم رفعت شعرها بحدة وقد غمرها الإحباط.
“لقد بذلت قصارى جهدي، درست كل الاحتمالات، والنتيجة كانت لا.”
ربما عليها الآن أن تتوقف عن التعلق بفكرة أنها ليليتا، وتفكر كيف تعيد هذا الجسد إلى صاحبته، وتعود إلى موطنها.
“إن كانوا يفتقدونها هكذا… فليتهم يجدون الحقيقية.”
ريتا، التي نشأت في عالم لا يرحم المترددين، حسمت أمرها ببرود.
أغمضت عينيها بهدوء لتعيد ترتيب أفكارها.
“أنا لا أنتمي لهذا المكان، أن أكون ابنة دوق؟ ريتا باسكال؟ لو سمع زملائي ذلك، لاختنقوا من الضحك.”
ضحكت في سرّها، ثم فتحت عينيها.
“ابتداءً من الغد، سأبحث في السحر الأسود سأناقش الأمر مع ليونهارت، وربما نجد حالات مشابهة من التقمّص.”
وبينما كانت تستدير لتأخذ قسطًا من الراحة استعدادًا ليوم الغد، علقت عيناها بشيء ما.
خارج النافذة، في حديقة الليل، ظهر شيء أبيض.
“هممم؟”
ضيّقت عينيها، وسرعان ما أدركت ما رأت.
قميص نوم أبيض ناعم.
شعر أحمر منسدل، قدمان حافيتان تتمايلان فوق العشب.
لقد تعرفت عليها، فقد رأت صورًا وبورتريهات خلال الأيام الماضية.
المرأة التي تجوب الحديقة كالشبح… كانت دوقة لاسكايل.
“لمَ تمشي الدوقة حافية القدمين في هذا الليل؟”
أرادت أن تفتح النافذة، لكنها ترددت.
“والدك وشقيقك يعلمان بأنك ريتا باسكال، لكن لم نخبر والدتك بشيء، تفهمين قصدي، أليس كذلك؟”
“حين تتمكنين من أداء دور ليليتا كما يجب، سنبلغها بعودتك، حتى ذلك الحين، تجنبي مقابلتها.”
تمسكت بحافة النافذة وهي تفكر.
لا يجب أن تُقابل الدوقة بهذا الشكل… كأنها ليليتا.
وحين همّت بالاستدارة، رأت ذلك المشهد.
“يجب أن أوقظ الخادم أو ليونهارت.”
الدوقة كانت تمسك ببوابة الحديد المؤدية إلى غابة البتولا وتهزها.
السلاسل التي وضعها الدوق بعد اختفاء ليليتا قد فكها ليونهارت حين عاد بها، ولم تُغلق جيدًا.
فهمت الآن لمَ قُفلت البوابة آنذاك.
سقطت السلاسل، وانفتح الباب الحديدي صادحًا. ومشت الدوقة ببطء نحو درب الغابة.
على الطريق ذاته الذي اختفت فيه ليليتا الصغيرة.
إنه أمر خطر.
وإن غادرت لإحضار أحدهم، قد تفقد أثرها.
كانت واثقة من ذلك.
فتحت النافذة بسرعة…
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"