ذلك الباب، كان يفتح ذات يوم على غابة أشجار البتولا.
غابة كانت جزءًا من ممتلكات آل لاسكايل، حافظوا عليها جيلاً بعد جيل، وكانت تُعرف بجمالها وأمانها.
لكن، منذ أن عُثر هناك على الثوب الملطخ بدماء ليليتا ، أمر الدوق شخصيًا بإغلاق البوابة، ووضع السلاسل عليها، كأنما ليحكم الإغلاق على الماضي.
ومع ذلك، كان ليونهارت يتذكر تلك الغابة جيدًا.
يتذكرها كما لو كان يراها الآن… لم يكن فيها أي وحوش مفترسة.
بل كانت موطنًا للغزلان التي كانت تتراقص بين الأشجار، والأرانب التي كانت تقفز في مرح، وصوت الطيور كان يملأ الأرجاء بألحانها العذبة…
كان صوت الطيور لا يزال يُسمع هناك، مختلطًا بحفيف الأوراق، وإذا ما مشى المرء قليلاً على الدرب المتعرج وسط الغابة، يصل إلى بحيرة صغيرة.
كان ليونهارت قد اعتاد أن يمسك بيد أخته الصغيرة، ويأخذها إلى ضفاف تلك البحيرة في نزهات هادئة.
وحتى الآن، لا يزال يشعر بوضوح بملمس تلك اليد الطرية الصغيرة… كأن دفئها لم يغادر كفه بعد.
كانت تلك الغابة ضمن أسوار أملاك لاسكايل.
ولهذا، كان القصر يُلقب بـ«قلعة أشجار البتولا»
مكان آمن، بلا خوف، بلا خطر.
فكيف، بحق خالق الجحيم ، يقال إن ليليتا قد قُتلت هناك، على يد وحش لا وجود له أصلًا؟
وفوق ذلك، يقولون إنها خرجت ليلاً، وحيدة، من القصر الكبير، دون أن يراها أحد…
طفلة صغيرة، في العاشرة من عمرها؟
ليليتا، التي كانت بالكاد تستطيع التنفس إذا ركضت قليلًا، التي كان جسدها يخذلها كلما حاولت أن تتجاوز حدود قوتها الضعيفة؟
ليونهارت شدّ على أسنانه.
لا… هذا مستحيل… مستحيل!
كأن صوته يهدر في صدره.
ثم جاءته الفكرة القديمة، التي لطالما ترددت في عقله:
“أحدهم أخذها، أحدهم جرّها خارجًا في تلك الليلة.”
قبض بيده لا إراديًا، وأحس بأن عظام كفه تكاد تتحطم من شدة قبضته.
كان الغضب يتصاعد بداخله مثل بركان، لدرجة أنه شعر برغبة عارمة، مظلمة، في أن يمزق بيديه صدر ذلك الشيء الذي أخذها… كائن مجهول، وجهه غامض، لكنه كان يراه في كوابيسه، ويشعر بحاجة وحشية لقتله.
تنفس بعمق، محاولًا تهدئة ذلك الغليان. وعندما رفع نظره، لمح ظل جسد واقف خلف الباب المغلق بالسلاسل.
كان الدوق، والده، واقفًا هناك، في منتصف الدرب بين أشجار البتولا، يداه خلف ظهره، رأسه مائل قليلًا، كما لو كان ينتظر خطوات خفيفة…
خطوات طفلة، تعود إليه، راكضة، من عمق الغابة.
ليونهارت مد يده إلى القضبان الحديدية للباب، ووضع قدمه فوق السلاسل السميكة، وقفز فوق الباب، متجهًا نحو والده.
الشعور بالثقل في قلبه لم يتزحزح.
التفت الدوق عندما سمع وقع خطواته
. “ليون…“
نطق اسمه، كان صوته مبحوح، متعب.
“أبي…“
أجابه ليونهارت دون أن يجرؤ على طرح السؤال الذي ظل عالقًا في صدره:
“ما الذي تفعله هنا، أبي، واقفًا عند هذا الدرب، في هذا الصباح؟”
وكما لم يسأله الابن، لم يسأله الأب أيضًا:
ولماذا جئت أنت إلى هنا، يا بُني؟
وقفا جنبًا إلى جنب، صامتين، عيونهما معلقة عند نهاية الممر، حيث لم يظهر أحد.
لا فتاة خفيفة الخطى، ولا روح شبحية. لا أحد يعود من الغياب.
ثم، ببطء، التفت الدوق نحو ابنه، وربت على كتفه، ربتتين خفيفتين، كأنما يشكره بصمت.
قال: “ثلاثة أيام وأنا ومُترك كل شيء بين يديك، ومع ذلك، كل شيء سار على ما يرام، لقد تعبت يا بُني.”
فأجاب ليونهارت، فورًا، وبصوت فيه شيء من الحزم:
“كلا ، لا بأس يا أبي.”
قال الدوق، وعيناه تتفحصان ملامح ابنه المُنهكة:
“ارجع إلى الداخل، ونَم جيدًا هذه الليلة، لا بد أنك لم تذق طعم النوم منذ أيام.”
فقال ليونهارت وهو يخفض رأسه احترامًا:
“حسنًا، سألحق بك قريبًا.”
ثم استدار الدوق، وغادر عائدًا إلى القصر، يخطو ببطء، كأن كل خطوة تسحب معه جزءًا من روحه المُثقلة.
أما ليونهارت فلم يتحرك. بقي واقفًا، جامدًا، كأنما جذوره قد غرست في الأرض.
ثم، بعد لحظة، بدأ يمشي وحده، ببطء، على نفس الدرب الذي كان يجره شوقه إليه.
ومع كل خطوة، بدأ اللون الأبيض لأشجار البتولا يتراجع، وظهر أمامه بريق أزرق…
إنها البحيرة، سطحها يعكس ضوء الشمس الآفلة، التي ألقت على الماء خيوطًا طويلة من النور، تشبه شالًا حريريًا مذهبًا ينساب برقة فوق الأمواج.
وفي تلك اللحظة، ارتجف قلبه، إذ سمع في أعماق ذاكرته صوتها…
ليليتا، بصوتها العذب، الطفولي، تهمس بالقرب من أذنه:
“ليو، انظر… الشمس تُغادر السماء، وتُنزل شُعيراتها الذهبية على الماء… كأنها ترمي فرشاة من حرير… أليس هذا جميلًا جدًا؟“
ارتعش جسده من الذكرى.
نظر إلى البحيرة، وفي عينيه، لم يعد يرى إلا ملامحها… خدّاها المتوردان كزهر الربيع، عيناها البنفسجيتان، اللامعتان كجوهرتين، تتسعان دهشة كلما لمعت الشمس، وشعرها، خفيف كنسمة، يطير مع الريح، كأنما كان يحاول أن يلمس السماء…وخصلات رقيقة من الشعر الذهبي…
وفي تلك اللحظة بالذات، فجأة، انبثق من سطح البحيرة شعر ذهبي مبتل، كأنما شقَّ الماء شقًّا وصعد إلى الأعلى.
تناثرت قطرات الماء كالجواهر حوله، تناثرت في الهواء وبَرَقت تحت ضوء الشمس المتراجع، كأنها ماسات صغيرة تتراقص.
كان الشعر، رغم ابتلاله، يلمع بوميض أخّاذ، تمامًا كما كانت ليليتا، يومًا، تلمع.
ثم ارتفع من الماء جلد أبيض، ناعم، كالعاج المصقول.
وشعر طويل، طويل، كأنه لم يُقص يومًا.
ومن بين تلك الخصلات اللاصقة بالوجه، لمعت عيون… بنفسجية، عميقة، تبرق تحت شعاع الغروب.
كانت هناك فتاة… لا، كانت هناك امرأة تنهض من أعماق البحيرة، تشبه ليليتا تمامًا.
كأنما لو أن أخته الصغيرة لم تختف، وكبرت بسلام حتى صارت شابة في العشرين، لكانت الآن تشبه هذه المرأة الواقفة أمامه بالضبط.
ليونهارت ظل متسمِّرًا في مكانه، لا يعرف أهو حيٌّ أم في حلم.
ما الذي أراه؟ هل هذا… ممكن؟
لقد فتشوا قاع هذه البحيرة مئات المرات، جالوا تحت الماء صيفًا وشتاءً، ولم يجدوا شيئًا…
فكيف؟
وفيما هو مدهوش، عاجز عن الحركة، رأى تلك المرأة الغامضة تترنح للحظة، ثم تستعيد توازنها وتبدأ بشق طريقها خلال الماء، متقدمة نحو الضفة.
وسمعها تشتم، بصوت منخفض، وكأنها تتحدث إلى نفسها:
“اللعنة… ما الذي حدث بالضبط؟ أفتح عيني فأجد نفسي وسط الماء؟!”
وعندما وصلت إلى الضفة، رفعت يدها بعصبية، ورتبت شعرها الذهبي المبتل، كمن يحاول أن يسترد كرامته أمام موقف محرج.
وحين التقت عيناها بعيني ليونهارت تبدل وجهها على الفور؛ انخفض جسدها قليلًا، واستقامت ركبتها الخلفية، كمن يستعد للهجوم، وبسرعة، امتدت يدها نحو خاصرتها، كأنها تبحث عن خنجر أو سلاح تخفيه هناك بحكم العادة.
لكن يدها عادت خالية.
لا شيء. لا خنجر، لا سلاح.
ظهر الارتباك واضحًا على ملامحها الجميلة.
ثم نظرت إلى نفسها، وكأنها تكتشف الآن فقط ما ترتديه.
“ما هذا بحق الجحيم؟!”
تمتمت، وعيناها تتفحصان ثوبها.
كانت ترتدي قميص نوم أبيض، مزين بدانتيل رقيق، وهو نفس الثوب الذي كانت ليليتا ترتديه ليلة اختفائها.
لكن الفارق كان في الجسد؛ ذلك الثوب، الذي كان ينسدل حتى كاحلي الطفلة،
صار الآن لا يكاد يغطي فخذي هذه المرأة، وكأن الزمن قد جرف الجسد وكبره، لكن الثوب بقي بحجمه القديم، شاهدًا على الفارق الغريب.
كان أحد أطراف الثوب ممزقًا، نفس الجزء الذي وُجد منه في الغابة ملطخًا بالدماء قبل عشر سنوات…
الجزء ذاته تمامًا.
رفعت المرأة بأصابعها الدقيقه ذلك الطرف المبتل الممزق، وتجعد وجهها الجميل بانزعاج واضح، كأنها اشمأزت من ملابسها ومن وضعها برمته.
“ما هذا الثوب الثقيل؟ أي معتوه مريض الذوق ألبسني هذا؟!”
قالتها بنبرة ساخرة حانقة،
لكن ليونهارت لم يكن يسمع. أذناه كانتا تصفران، صدره ضاق كأنه لا يجد الهواء.
حتى كلماتها التي تمتمت بها، لم تصل إلى أذنه بوضوح.
كان كل كيانه يرتجف، وكان صوته بالكاد خرج، خافتًا، متحشرجًا،
بين الشك والرجاء، بين الحلم والكابوس:
“…ليلي؟”
ترجمة هاذي الرواية مقدمة هدية لصديقتي سلمى💗
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 1"