2
# ✨ **الفصل الثاني: ما يخبّئه الصباح**
كان الصباح في قرية **ميروال** يحمل دومًا رائحة الخشب الرطب والخبز الطازج، ورنين الدلاء التي تُملأ من البئر القريب.
تستيقظ الأكواخ تباعًا، فيبدأ اليوم ببطء شديد، وكأن القرية لا تريد أن تزعج الهدوء الذي فرضه الليل.
في بيت صغير عند أطراف القرية، كانت **ليليا** تجلس قرب النافذة الخشبية، تسرّح شعرها الطويل الذي يتلألأ بأشعة الشمس الأولى، بينما تراقب الدخان المتصاعد من منازل الجيران.
كانت تحب الصباح.
كان يمنحها شعورًا بأن العالم يمكن أن يبدأ من جديد كل يوم.
دخلت والدتها الغرفة، تحمل قطعة قماش نظيفة وثوبًا داكن اللون.
قالت بصوت هادئ حفظته ليليا عن ظهر قلب:
**”هيا، دعي النور ينام قليلًا تحت الثوب.”**
رفعت ليليا كتفها، فوضعت الأم الثوب عليها بحرص، كما لو كانت تهتم بجرح لا يجب لمسه.
غطّت العلامة الذهبية الصغيرة، تلك التي تلمع في الضوء دون أن تطلب ذلك.
لم تفهم ليليا يومًا لماذا تخاف أمها من تلك العلامة.
لكنها لم تسأل… فهي تؤمن بأن كل شيء تفعله أمها هو لحمايتها.
**
بعد الإفطار، خرجت ليليا إلى الساحة الصغيرة أمام البيت.
كانت تحمل سلة من أعشاب علاجية جمعتها في الأمس، تنوي إيصالها للعجوز “ميرا” التي تعاني من تعب مزمن في يديها.
كان النسيم باردًا، لكنه منعش، يلامس وجهها بلطف.
كانت خطواتها خفيفة، وكأن الأرض تعرفها جيدًا وتفسح لها الطريق.
في الطريق، سمعت صوتًا مألوفًا ينادي من بعيد:
**”ليليا! انتظري!”**
التفتت، فإذا بـ **أرين** يركض نحوها.
كبر كثيرًا خلال السنوات الخمس الماضية؛ صار أطول، وأقوى، لكن ملامحه لم تفقد ذلك اللمعان الخفيف الذي ظهر يوم أنقذته.
كان يحمل معها شيئًا لم تفهمه يومًا:
نظرة امتنان… امتنان لم يمحُه الزمن.
وقف أمامها وهو يلهث قليلًا، ثم ابتسم ابتسامة باهتة:
**”أردت أن أرافقك… الطريق للغابة اليوم ليس آمِنًا.”**
لم تكن ذاهبة للغابة، لكنها لم تصحح له.
أرادت فقط مرافقة هادئة، وكلامًا خفيفًا.
أرادت صوتًا آخر يمشي بجانبها.
قالت بهدوء:
**”أنا ذاهبة إلى منزل ميرا فقط.”**
هز كتفيه مبتسمًا:
**”لا بأس، أرافقك ثم نتمشى قليلًا.”**
وافقت، لأنها لم تكن تملك سببًا للرفض.
ولأن قلبها كان يلين قليلًا كلما رأت ذلك اللمعان في عينيه…
حتى لو لم تفهم معناه.
**
في الطريق نحو منزل ميرا، مرّا قرب السوق الصغير حيث كانت النساء يضعن سلال الخضار، والرجال يتجادلون حول أسعار القمح.
لكن عيون البعض كانت تتجه نحو ليليا… تلك النظرة الممزوجة بالفضول والخوف.
شيء في مظهرها… أو ابتسامتها… أو نورها الداخلي… كان يجعلهم غير مرتاحين.
همس أحد الرجال لصديقه بصوت لم يُخفِه كفاية:
**”هذه الفتاة… لست مرتاحًا لها. هل رأيت عينيها؟ فيهما شيء غريب.”**
سمعت ليليا الكلمات، لكنها لم توقف خطواتها.
كانت قد اعتادت على كلام كهذا.
الاختلاف، حتى لو كان جميلًا… يُخيف الناس.
لكن أرين توقف للحظة، نظر إلى الرجل بحدة لم تتوقعها منه.
قال بصوت منخفض لكنه حازم:
**”هي أكثر طيبةً من القرية كلها.”**
ثم أكمل سيره قبل أن يسمع الرد.
نظرت إليه ليليا، وقد تورد خدّاها قليلًا، ليس خجلًا… بل امتنانًا.
قالت بخجل:
**”لم يكن عليك…”**
قاطعها:
**”كنت سأقول ذلك حتى لو لم تكوني هنا.”**
تلك الجملة بقيت في قلبها طوال الطريق.
**
عندما وصلا إلى منزل العجوز ميرا، رحبت بهما بابتسامة بلا أسنان، ممتنة لأن شخصًا يزور بابها في هذا العمر.
جلست ليليا قربها، وبدأت تمسح بلطف على يديها المتورمتين، مستخدمة خليط الأعشاب.
سألت ميرا:
**”يا صغيرتي… لماذا يلمع جلد يديك بهذا الشكل كلما لمستِ أحدًا؟”**
توقفت ليليا عن الحركة لثانية.
لم تعرف ماذا تقول.
لكن قبل أن تفكر في جواب، قال أرين سريعًا:
**”إنه مجرد انعكاس من الشمس، يبدُو هكذا دائمًا.”**
لم تصدق ميرا، ولكنها لم تُلح.
عندما خرجا من المنزل، وقفت ليليا دون أن تقول شيئًا.
كانت تنظر للأرض، كأنها تبحث عن كلمات مناسبة.
قالت أخيرًا، بصوت منخفض جدًا:
**”لماذا تفعل هذا؟”**
التفت نحوها:
**”ماذا؟”**
رفعت عينيها إليه، وبدا فيهما الضوء الشفاف الذي اعتاد رؤيته، لكنه هذه المرة كان مختلفًا… كان فيه شيء يشبه الألم.
**”تحمي سري… دون أن أسألك.”**
عمّ الصمت للحظة، ثم قال أرين بنبرة هادئة لم يسمعها أحد منه سوى ليليا:
**”لأنك الوحيدة التي ترى العالم بنور… بينما نحن نراه بظلاله فقط.”**
تلك الجملة دخلت قلبها كنسمة دافئة.
ربما لم تفهم معنى العاطفة تمامًا…
لكنها شعرت بشيء يتحرك في صدرها، شيء ناعم ومربك ومبهج.
كانت كأن الضياء داخلها يبتسم.
**
عادا يسيران بجانب بعضهما ببطء، لا أحد منهما مستعجل، وكأن الزمن اختار أن يمشي بنفس سرعتهما.
قال أرين وهو ينظر إلى الغابة من بعيد:
**”هل تعلمين… أحيانًا أشعر أنك لستِ من هنا، لستِ من ميروال.”**
توقفت للحظة، مستغربة:
**”ومن أين؟”**
ابتسم ابتسامة غامضة:
**”من مكان أنقى… مكان لم يعد موجودًا.”**
لم تفهم، لكنها شعرت بشيء غريب…
شيء يشبه صوتًا خافتًا داخل قلبها يقول لها إن كلمات أرين تحمل جزءًا من الحقيقة.
**
عندما افترقا قرب بيتها، وقفت ليليا ترآه يبتعد…
وكان بداخلها إحساس غريب، كأن شيئًا صغيرًا تغير اليوم، شيئًا لا تستطيع وصفه ولا فهمه.
شيء… جميل.
لكن أجمل الأشياء، أحيانًا… تكون مقدمة لشيء مؤلم.
وفي تلك اللحظة، قبل أن تدخل بيتها، شعرت ريحًا باردة تعبر بين البيوت، وتحمل معها رائحة لا تنتمي للصباح…
رائحة تشبه الخطر البعيد.
لكن ليليا، بطبعها البريء، لم تفكر سوى أنه تغيّر طقسٌ عابر…
ولم تعلم أن تلك النسمة ستكون أول إشارة…
لمصير ينتظرها خلف الظل.
Chapters
Comments
- 2 - الفصل الثاني منذ ساعتين
- 1 - الفصل الأول 2025-11-15
التعليقات لهذا الفصل " 2"