بالنسبة لموظفي قسم إدارة الجرعات، كانت فترة الغداء التي يغيب فيها لايتن هي وقت الحرية الحقيقي.
رغم أن معظم الموظفين كانوا يأخذون قيلولة على مكاتبهم أو يرتاحون، فإن توني كان يستغل ذلك الوقت في الثرثرة.
لا يُعلم من أين سمع تلك الشائعة اليوم أيضاً، لكنه كان يتحدث بحماس بالغ عن الأمير الثالث، وريقه يتناثر في كل مكان.
“مجنون؟! هذه كلمة قاسية.”
كيرا، التي لا تنطق إلا بالكلام المهذب واللطيف، عقدت حاجبيها.
لكن توني لم يكترث واستمر في الحديث.
“ليس أنا فقط، الجميع يناديه بالمجنون!”
وعندما لم يُظهر أحد أي اهتمام، بدت على توني ملامح الانزعاج.
فهو دائماً ما كان يعاني من تعطش لجذب انتباه الآخرين.
“ما الذي يميزه إلى هذا الحد؟”
وها قد جاءه ما كان يتمناه. شخص ما ألقى بسؤال.
تهلل وجه توني بابتسامة ، فجرّ كرسيه إلى وسط المكتب وجلس.
“حسناً، تعرفون أن أفراد العائلة الإمبراطورية يحملون دماء التنانين، أليس كذلك؟ لذلك يُولدون بقدرات خاصة.”
“…..”
“الأمير الثالث لديه القدرة على التحكم بالنار، ويُقال إنه فجّر الباب وهو في السادسة لأن غرفة اللعب لم تكن مفتوحة!”
يا له من طفل مشاغب.
كانت دانا تلهو بقلمها بينما تسمع كلامه على نحو عابر.
واستمر توني في الحديث.
“ويُقال إنه في العاشرة، حين طالت موعظة الكاهن الأعلى، أشعل النار في لحيته!”
كان إيدوين يستمع بصمت لتلك الأكاذيب التي تُقال عنه.
في الحقيقة، لم يكن الباب الذي حطّمه باب غرفة اللعب، بل باب قاعة مقابلة الإمبراطور.
أحد الوزراء المرتشين كان يتوسل طلباً للعفو لمدة ثلاثة أيام، وهذا ما أثار ضيقه.
أما والده الإمبراطور، فكان ضعيفاً جداً لطرده، فقام هو بإشعال النار بدلاً منه.
أما موعظة الكاهن الأعلى…. أليست ست ساعات من الوعظ مبالغة كبيرة؟
لقد تدخل نيابة عن الآخرين الذين شعروا بالملل فقط.
‘كنتُ ذكياً حتى في صغري.’
حتى حين يتذكر الآن، لم يشعر بأي ندم على ما فعله.
واصل توني الحديث عن الأمير الثالث وهو يتحسر على نهاية وقت الغداء.
“ثم هناك فرقة فرسان الرون، التي قيل إنها تجمع أعظم المجانين في الإمبراطورية! والأمير الثالث هو قائدها!”
“فرقة فرسان الرون… أليست هي التي تحمي الحدود الشمالية من الوحوش؟”
فرح توني باهتمام كيرا ورد قائلاً.
“نعم! يُقال إن الدولة ترسل إليها كل من لا يمكن السيطرة عليه!”
هل كان الأمر كذلك؟ راح إيدوين يتذكر مرؤوسيه.
‘لم يكونوا بهذا السوء، على ما أظن.’
كانوا حمقى وعدوانيين، لكنهم كانوا مطيعين أيضاً.
“على أي حال، يُقال إنه مرعب وقاسٍ، لذا توخوا الحذر جميعاً!”
قال توني ذلك وعاد إلى مكانه.
لكن دانا لم تفهم المغزى.
‘لن أصادفه على أي حال، فلمَ كل هذه الضجة؟’
عندها التفت إليها إيدوين وسألها.
“ما رأيكِ أنتِ، سينباي؟ أقصد عن الأمير الثالث.”
“لا أدري.”
كان وجه إيدوين جاداً للغاية وهو يسأل.
راقبت دانا ملامحه الجادة، ثم انفجرت ضاحكة.
“أأنتَ خائف منه؟”
“…..”
ظنّت دانا خطأً أن ضخامته الجسدية تخفي شخصية جبانة.
وضاحكةً، مازحته قائلة.
“لا تقلق، إذا صادفناه يومًا، اختبئ خلفي.”
“إذن، هل ستبقين بجانبي؟”
“نعم، لمَ لا.”
عندما أصبح الجو أقرب من قبل، لمعت عينا إيدوين.
لم يكن ليفوّت فرصة كهذه.
“أنا خجول بطبعي، سينباي.”
“يبدو عليكَ ذلك.”
ربّتت دانا على ظهره وهي تبتسم.
فتقبّل إيدوين لمستها بسعادة.
ثم أدرك شيئاً.
أن دانا ضعيفة أمام ضعف الآخرين.
***
“دانا، ستعملين لوقت متأخر اليوم أيضاً، أليس كذلك؟”
“نعم، أراكِ غداً!”
هكذا ودّعت كيرا، وبدأت دانا دوامها الليلي.
مرة أخرى، في المكتب المظلم، كانت تعتمد على مصباح سحري خافت لتؤدي عملها في عزلة…
“سينباي.”
….هكذا كانت تظن، لكن لمن هذا الصوت؟!
نظرت دانا نحو مصدر الصوت بفزع.
وكان الداخل هو إيدوين، وهو يحمل سلّة نزهة بيده.
فتحت دانا فمها في حيرة من هذا الموقف غير المتوقع.
“سأعمل لساعات إضافية أيضاً.”
قال ذلك وهو يبتسم وينظر حوله.
“تبقى نحن الإثنان فقط، أليس كذلك؟”
كان يشدد على كلمة “نحن”… لسبب ما.
فلما أومأت دانا برأسها، جلس إلى جوارها.
ووضع فوق مكتبها بعض الكعك وعصير التفاح.
“ما هذا؟”
“حين نعمل، نحتاج لما يُشغل فمنا.”
“أأنت أيضاً تعمل لوقت متأخر؟”
“نعم، وأود أن أتعلم من سينباي أيضاً.”
دفع بقطعة كعك إلى فمها مشجعاً إياها على التذوق.
فتناولت دانا القطعة منه دون وعي، واتسعت عيناها.
لذيذ جداً…!
هل لأنني لم أتناول شيئاً لذيذاً منذ مدة طويلة؟
لا، حتى وإن كان كذلك، فإنه يتفوق على الكعك الذي أكلته في طفولتي بكثير.
الملمس المقرمش والمطاطي والنكهة الفاخرة جعلوا عينيها تدمعان فرحاً.
وبينما كانت قد التهمت ثلاث قطع، اقتربت زجاجة العصير من فمها.
“رويدكِ. اشربي العصير أيضاً.”
أومأت دانا برأسها باستسلام أمام لمسة إدوين اللطيفة.
‘هذا… أشعر وكأنني أتلقى الرعاية.’
لكنها لم تستطع رفض لطفه.
فذلك الطعم الحلو النادر جلب لها الحياة من جديد.
“شكراً لك، إيدوين. هذا لذيذ حقاً. من أين أحضرته؟”
“أحضرت ما كان في المنزل.”
ابتسم إيدوين برضى وهو ينظر إلى وجنتيها المنتفختين من المضغ.
ولما شبعت قليلاً، فتحت دانا ملف الأوراق وسألته.
“أليس العمل لساعات إضافية في أول يوم صعباً؟”
“…طالما هناك أجر إضافي، لا بأس.”
عندما سمعت ذلك، أصبحت ملامح دانا جادة فجأة.
‘هل يُعقل أن يكون وضعه المالي صعباً مثلي…؟’
كان من غير اللائق أن تسأله مباشرة.
لذا ابتسمت وحاولت تغيير الموضوع.
“لكن عائلتكَ، لا بد أنها بانتظارك.”
“لا أظن… لا أحد يرحب بي كثيراً.”
“…..”
أيمكن أن يكون في موقف مشابه لي؟
ازدادت ملامح دانا جدية.
‘لا، لا يجب أن أظن هذا… هذا تفكير وقح أيضاً.’
حاولت بشدة أن تتخلص من تلك الأفكار، لكنها لم تستطع.
وإن كان في نفس موقفها، فهي تود أن تقدّم له عزاءً دافئاً.
لكن بدلاً من البوح بذلك، قررت أن تُظهر له لطفها.
“إذاً، سأعلّمك اليوم أثناء العمل الليلي. ترى هذه التعليقات من فرسان الفرق المختلفة؟”
“نعم، سينباي.”
“رتبها حسب الفئة. وإذا وجدت أي آثار جانبية أو حالات خاصة، ضعها هنا في الوسط.”
“حاضر.”
كان إيدوين ذكياً.
ورغم أن هناك أموراً مبهمة، لم يحتج كثيراً للسؤال بل صنّفها بدقة.
كان من حسن الحظ أن موظفاً كفؤاً قد انضم، مما سمح لدانا بالتركيز على عملها براحة.
وبعد ساعات من مراجعة التقارير، بدأ النعاس يتسلل إليها بسبب الشبع.
“…..”
أصبحت عيناها تنغلقان باستمرار.
وكان رأسها يهبط بثقل مرة بعد مرة.
‘لا يجوز أن أنام الآن!’ هزّت دانا رأسها بقوة.
لكن إيدوين، الذي كان يراقبها، أحضر بطانية من مكان ما.
“ما رأيكِ أن تستريحي لعشر دقائق؟ سأوقظكِ بنفسي.”
“حقاً؟ شكراً لك.”
كانت كلمات جميلة بالنسبة لها.
شكرته دانا من أعماق قلبها واستلقت على المكتب.
وغطّاها إيدوين بالبطانية بلطف.
وسرعان ما ساد المكان صوت تنفسها المنتظم.
‘يبدو أنكِ متعبة جداً.’
مرّر إيدوين خصلات شعرها السوداء برقة خلف أذنها.
بعد أن افترق عن دانا في ساحة المعركة، اضطر مراراً إلى تخيّل ملامحها التي لم تفارق ذهنه.
ما لون عينيها يا ترى، وكيف يكون شكل شعرها؟
في يوم مقابلة دانا في قسم السحر، حين رآها إيدوين أخيرًا من خلف الستار، أدرك أنه لن ينساها ما دام حيًا.
كانت دانا أجمل من كل الصور التي رسمها لها في مخيلته طوال تلك السنوات.
شعرها الأسود كالليل وعيناها الزرقاوان المستقيمتان انغرستا في قلبه.
حتى صوتها، لم يكن لِيُنسى أبدًا.
‘لو كنت أعلم أنني سألتقيكِ، لكنتُ فكرتُ بكِ كلما نظرت إلى السماء.’
ابتسم إدوين بصمت.
لكن على كل حال…
“دانا، هل تعملين لساعات إضافية اليوم أيضًا؟”
هل كان اسمها كيرا؟ بناءً على ما قالته تلك الموظفة، يبدو أن دانا تعمل لوقت متأخر دائمًا.
‘ذلك ليس جيدًا لصحتها.’
لماذا تتمسك بالعمل الإضافي هكذا؟
هل هناك أمر لا أعرفه؟
كان يظن أن دانا بخير طوال الوقت الذي كان فيه يقاتل الوحوش.
‘يجب أن أتحقق من الأمر بدقة.’
وبينما كان يفكر بذلك، سحب إدوين البطانية على جسد دانا بلطف.
وبفضل ذلك، غرقت دانا في نوم عميق وحلو.
***
وفي تلك اللحظة في القصر الإمبراطوري…
“أين ذهبت الكعكات الخاصة بي؟! الكل يعلم أنني أتناول كعكات البرتقال بالمربى كلما بدأت في مراجعة شؤون الدولة!”
كان الإمبراطور يشكو بوجه حزين.
انحنى الخادم المذعور برأسه.
“ا- الأمر أن… صاحب السمو الأمير الثالث هو من أخذها، على ما يبدو.”
“إيدوين؟!”
“ن- نعم…”
“آه…”
قُدمت للإمبراطور حلويات أخرى في محاولة لتخفيف حزنه، لكن مزاجه لم يتحسن.
فلم يحتمل الخادم الصمت أكثر وفتح فمه بحذر.
“هل ترغبُ أن أُبلغ صاحب السمو الأمير الثالث بذلك؟”
“إلى إبني الأصغر؟! لا، لا أبداً!”
ذلك الفتى مخيف للغاية. هز الإمبراطور رأسه بعنف.
“آه…”
التعليقات لهذا الفصل " 5"
بنتظر لما يحظر البطلة للقصر ويقولهم هذي زوجتي