الفصل 29
بعد أن هدأت العاصفة، عاد موظفو قسم إدارة الجرعات إلى أعمالهم المعتادة.
كان بين الحين والآخر يُسمع صوت تنهدات توني، لكن لم يُعرها أحد اهتمامًا.
في تلك اللحظة، وُضع ملف على مكتب دانا.
كان تقرير كيرا، وقد أشارت بابتسامة مكبوتة إلى المذكرة اللاصقة المثبتة عليه.
<أخبِريني بكل شيء فورًا!>
نظرت دانا إلى الخط المتحمس، ثم نهضت من مكانها.
قالت وهي تتظاهر بالهدوء.
“هل تذهبين معي لتنظيم المخزون؟”
أومأت كيرا بسرعة، وكأنها كانت تنتظر تلك الفرصة.
طوال الطريق إلى غرفة المخزون، لم تتوقف كيرا عن طرح الأسئلة.
“ما الذي حدث بالضبط؟ ماذا حصل بينك وبين الموظف الجديد؟ كيف انتهى الأمر بزواج مفاجئ؟”
“حتى تسجيل الزواج الرسمي؟ أنا أموت فضولًا!”
كانت دانا تجيب على أسئلتها واحدة تلو الأخرى وهي تكتب أعداد الجرعات.
“أدركت الأمر خلال رحلة العمل معه… أنني أحب إدوين.”
فرحت كيرا كأن الخبر يخصها هي.
“أنتم رائعان معًا! كنتُ مصدومة من نظرات توني لكِ!”
ضحكت دانا بخفة.
“لم أتخيل أبدًا أنه ينظر إليّ بتلك الطريقة. بل وصل به الأمر إلى وضع خطة لإنجاب الأطفال.”
“مجنون بحق.”
شهقت كيرا، ثم تابعت قائلة.
“على أي حال، المهم أنكِ سعيدة.”
“شكرًا، كيرا.”
وبينما كانت كيرا ترتب الزجاجات، قالت.
“على فكرة، يبدو أن أخبار الزواج كثيرة مؤخرًا.”
“من أيضًا تزوج؟”
“صديقتي ماري… ثم هناك حديث عن أن سمو الأمير الثالث قد سجّل زواجه رسميًا.”
اتسعت عينا دانا دهشة.
“الأمير الثالث؟ لكن لماذا لم يُعلن الخبر؟”
“لست متأكدة. قيل إن بعض الكهنة فقط حضروا، وتمّ إلزامهم بالصمت. لذلك لا يعرف إلا القليل من المسؤولين بالأمر.”
“وكيف عرفتِ أنتِ؟”
“توني كان يتحدث عنه.”
ضحكت كيرا بخفة. “على الأرجح إشاعة أخرى منه.”
“أعتقد ذلك أيضًا.”
أنهت تدوين الأرقام، ثم التفتت نحو كيرا بابتسامة هادئة.
“في الحقيقة… أظن أن الوقت قد حان لأترك المنزل نهائيًا.”
شهقت كيرا وغطّت فمها بيديها.
“حقًا؟ بعد كل إقناعي لكِ، لم أتوقع هذا!”
“لا أعلم… قررت ذلك مؤخرًا فحسب.”
“لكن هل ستسمح لكِ عائلتكِ بالرحيل بسهولة؟”
قالت دانا بنبرة جادة.
“الفيكونت هامبرن الذي أقرضهم المال هذه المرة، متورط في أمور غير قانونية، من القمار إلى الربا.”
“وكيف عرفتِ؟”
“لأن البنك رفض طلبي الجديد للقرض باسمي. هذا يعني أنهم تعاملوا بطرق غير رسمية.”
نظرت كيرا إليها بشفقة.
“أليس عرض أخذِكِ كضمان بدلاً من المال غير قانوني أيضًا؟”
“بالضبط. لقد جعلوا منّي رهينة.”
قالت دانا بعزمٍ بارد.
“سأستخدم ذلك لإسقاطهم معًا.”
لم تكن لتغفر لا لعائلتها التي باعتها مقابل المال، ولا للفيكونت الذي قبل تلك الصفقة.
كلاهما رمى بها إلى الهاوية من أجل مصلحة.
فجأة صفقت كيرا بيديها وكأنها تذكرت شيئًا.
“آه! أتعلمين؟ قالت أختي إن في مكتبها محامية مرت بظروف مشابهة لكِ!”
“نعم، أذكر أنكِ ذكرتِ ذلك.”
“تعرّضت للابتزاز من مقرضين أيضًا، لكنها وجدت دليلًا على عدم قانونية العقد وقدّمته للحرس الإمبراطوري.”
“ما الدليل؟”
“العقد نفسه! كان معدل الفائدة أعلى من الحد المسموح به في الإمبراطورية.”
تمتمت دانا.
“العقد…”
بالتأكيد يوجد عند جيمي.
الفقرة التي تنص على استبدالي بالمال، وهويات الطرفين الموقعين… ستكونان الدليل القاطع.
تلألأت عينا دانا بنظرة حاسمة باردة.
لم يبقَ في قلب دانا أيّ تعلق تجاه العائلة التي قررت تركها خلفها.
بعد أن أنهت حديثها مع كيرا، عادت الاثنتان إلى التركيز على تسجيل مخزون الجرعات.
كتبت دانا الجداول بإتقان، وما إن همّت بمغادرة غرفة المخزون حتى سمعت صوتًا يناديها.
“ياااه، مضى وقت طويل!”
“…الوزير؟”
كان ديريك تشايلد، وزير السحر.
لم تلتقِ به منذ رحلتها الخارجية، حين تصادفا عند بوابة الانتقال.
كان منصبه أعلى منها بما لا يُقاس، لذا بدا واضحًا الارتباك على وجه دانا.
‘كيف يعرفني؟’
حيّته بتحفّظ.
“مرحبًا، معالي الوزير.”
“مرحبًا بكِ! كيف تسير أمورك هذه الأيام؟”
كان يبدو متحمسًا بشكل غير مريح، وكأنه يبحث عن فرصة لقول شيء ما.
“أموري؟ مثل العادة، أركز على عملي وكلٌّ في شأنه…”
“لا، لا! لا أقصد القِسم، أقصدك أنتِ!”
أشار إليها بعينيه المتلألئتين.
“أنا؟”
“نعم! ألم يحدث أي تطور؟ مثل علاقة… أو زواج مثلاً؟”
‘ما شأنه بحياتي الشخصية؟’
نظرت إليه بريبة.
طريقة حديثه الملتوية كانت كأنها محاولة لجسّ النوايا، مما أثار في نفسها نفورًا خفيفًا.
عندها فقط أدرك ديريك فجاجته، فسعل مصطنعًا.
“هممم، تصرفتُ بلا لباقة.”
‘نعم، بالضبط.’
كتمت دانا تعليقها، واكتفت بابتسامة مهنية باهتة. ابتسم هو أوسع وقال.
“سنلتقي كثيرًا من الآن فصاعدًا، فلا تتوتري.”
“سنلتقي؟ نحن؟”
“إذن، إلى اللقاء.”
قال ما عنده ثم مضى، ولم يرَ أحد ابتسامته الغامضة وهو يدير ظهره.
ارتسم القلق على وجه دانا.
أن يتذكرها مسؤول رفيع لم يكن له بها أي تواصل، وأن يلمّح بلقاءات قادمة…
ذلك لم يكن أمرًا مطمئنًا.
“هل فعلتُ شيئًا خاطئًا؟”
كان شعورها مؤكدًا أنها أوقعت نفسها في مشكلة كبيرة.
نظرت كيرا إليها بقلق.
“حقًا… كيف يعرفك الوزير أصلًا؟”
ارتجفت عينا دانا باضطراب.
‘لا يمكن… هل سيفصلونني؟’
***
خلال وقت الغداء، كالعادة، كان صندوق طعام إدوين رائعًا.
امتلأ الساندويتش بمكونات طازجة جعلت دانا تبتلع ريقها.
قال بابتسامة.
“كلي ببطء.”
ولم ينسَ عصير التفاح المنعش أيضًا.
“لذيذ كالعادة.”
راقبها إدوين برضا وهي تمضغ بخدّين منتفخين.
وبينما كانت تتناول الطعام، سألت.
“تُرى، كنت تمزح في ذلك، صحيح؟”
“في ماذا؟”
“عن حفل الزفاف ورحلة شهر العسل.”
أخرج منديلًا ومسح طرف شفتيها برفق.
“أنا أُحضّر كل شيء بالتدريج. لن يستغرق الأمر طويلًا.”
“وبأيّ مال؟”
ابتسم بثقة.
“رغم المظاهر، لقد عملتُ بجد في حياتي.”
“قبل انضمامك للإدارة؟”
أومأ. فهو قاد لسنوات طويلة أفضل فرقة فرسان في المملكة، وكانت رواتبه تتكدس بلا إنفاق.
“أحيانًا كانت هناك مكافآت ضخمة أيضًا.”
والمقصود بها مكافآت القضاء على مجرمين شماليين.
لم تكن مهام فرسان الرون محصورة في القضاء على الوحوش فقط، بل أيضًا في إسقاط النبلاء الفاسدين والمستغلين.
وكان جزء من الممتلكات المصادَرة في القصر يُمنح له كمكافأة.
بل امتلك مناجم عدة بتلك الطريقة.
“لا تقلقي من أي شيء، سينباي.”
قالها بابتسامة مطمئنة.
“فكّري فقط بالأشياء الجميلة.”
“حسنًا.”
ابتسمت له دانا بدفء.
‘يبدو أنه يريد إقامة حفل ولو بسيط.’
بينما كان يفكر ادوين أنه قد يقيم الحفل في حديقة القصر الإمبراطوري.
“بالمناسبة، ما نوع البيت الذي تريدين العيش فيه، سينباي؟”
“نوع؟ ألن نذهب إلى منزلك؟”
“مجرد فضول.”
أجابت ببساطة.
“يكفيني مطبخ ومكان للنوم.”
“فكرة جيدة.”
فغرفة واحدة تعني قُربًا دائمًا.
كانت بساطتها بالنسبة إليه شيئًا مختلفًا تمامًا. قالت دون أن تدري ما يفكر فيه.
“لكن يجب أن ننتقل قبل مهرجان التأسيس.”
“مهرجان التأسيس؟ أليس هذا بعيدًا بعض الشيء؟”
سأل بنبرة متحسّرة.
“كنت أريد أن أعيش معكِ قريبًا.”
ضحكت دانا.
“صحيح، من الأفضل أن أرحل قبل أن يبيعني أحد.”
“…يبيعك؟”
“صحيح أننا سجّلنا زواجنا، لكن…”
تنهدت وقالت.
“أخي اقترض مالًا سابقًا، والمقرض طلبني كعروس بدلًا من المال. وسيحصل ذلك في يوم حفل القصر خلال مهرجان التأسيس.”
تجمّد إدوين صامتًا.
“إن لم أهرب قبلها، لا أدري ما الذي قد يفعلونه. قبل ذلك… سأفجر قنبلة فيهم.”
كان يعرف القصة مسبقًا، لكن الغضب الذي اجتاحه هذه المرة لم يستطع كبحه.
التعليقات لهذا الفصل " 29"