الفصل 24
كلّما اقترب الشيطان، ازداد وجه لوهاس تصلّبًا.
ومن شدّة توتره، ضمّ لحيته الطويلة التي تصل إلى صدره بكل عناية، وكأنها كنز ثمين يحاول حمايته.
تقدّم الكهنة المحيطون به ليعترضوا طريق إدوين.
“لا يمكن مقابلة كبير الكهنة إلا بموعد مسبق.”
كانت نظراتهم واضحة، ‘تراجع قبل أن تتورّط.’
لكن إدوين اكتفى بابتسامة خفيفة.
“حقًا؟”
ثم حوّل نظره نحو كبير الكهنة.
“لديّ أمر مهم أودّ مناقشته معه…”
توقّف لحظة، ثم أضاف بهدوء.
“على انفراد.”
ابتلع لوهاس خوفه الذي بلغ حلقه.
لم يستطع أن يُظهر ضعفًا أمام الكهنة الآخرين، حتى لو كان يرتجف من الداخل.
فصرخ أحد الكهنة غاضبًا.
“تريد لقاءً منفردًا مع كبير الكهنة؟ من تظن نفسك؟ هل أنت من العائلة الإمبراطورية؟!”
‘لا، أرجوك، توقف… لا تستفزه…’
كان لوهاس يصرخ في داخله وهو يحاول السيطرة على الموقف.
سعلَ بخفةٍ واقترب ليهدّئ الموقف.
“لا بأس، دعه، هذا الرجل هو—”
لكن الكاهن لم يصمت، بل قاطعه وهو يزداد غضبًا.
“يا له من متغطرس بشكل لا يُحتمل!”
كانت نظرات إدوين الهادئة تستفزه أكثر من أي شيء آخر.
حاول لوهاس مجددًا أن يتدخّل.
“قلت لا بأس، توقف عن—”
“كيف تجرؤ على محاولة لقاء كبير الكهنة بنفسك؟!”
“قلت كفااااا!”
صرخة مدوّية خرجت من فم كبير الكهنة الذي عُرف دائمًا برزانته.
تجمّد الجميع من الدهشة، حتى الكاهن الغاضب اتسعت عيناه وهو يهمس.
“ك… كبير الكهنة؟”
كان وجه لوهاس يقطر توترًا وخوفًا، حتى إن أحد الكهنة قال بقلقٍ صادق.
“ما الأمر يا سيدي؟ تبدو وكأن نمرًا يطاردك!”
“كفى حديثًا!”
ثم أضاف بصوتٍ مرتجف.
“هذا الرجل هو صاحب السمو… الأمير الثالث.”
“…هـا؟!”
تجمّد الكاهن في مكانه وهو ينظر بذهولٍ بين وجه إدوين ولحية لوهاس،
وكأن ذكرياته عن ‘الأمير الذي أحرق لحية كبير الكهنة’ بدأت تطفو على السطح.
وبينما ارتبك الكهنة من حولهم، انحنوا سريعًا لإدوين احترامًا.
تأكّد إدوين أن دانا لا تراه من خلف العمود الكبير، فاكتفى بتحية سطحية، غيرَ مبالٍ.
“نُحيّي سمو الأمير الثالث!”
“ما الذي جلب سموّكم إلى هذا المكان المتواضع…؟”
كان صوت الكاهن يقطر خضوعًا وتزلّفًا،
مما جعل إدوين يكتم ضحكة ساخرة وهو يسير بثباتٍ نحو لوهاس.
فتح الكهنة ممرًّا له بسرعة، وجوههم شاحبة خوفًا من أن يتعرّض أحدهم لغضب الأمير.
اقترب إدوين بابتسامة وادعة.
“مرّ وقت طويل يا كاهن لوهاس.”
“نـ… نـعم، لقد مضى وقت… طويل.”
تمتم لوهاس وهو يرتجف قليلًا، ممسكًا بلحيته بكلتا يديه كما لو كان يحميها بحياته.
‘هذه المرة… سأحافظ عليها… لن أسمح له بإحراقها مجددًا…’
لكن إدوين تابع وكأن شيئًا لم يكن.
“أتيت اليوم لطلب مساعدة بسيطة.”
“م… مساعدة؟ ما نوعها؟”
“أحتاج إلى كاهنٍ يشهد على زواجي.”
“…زواج؟”
تجمّد لوهاس مكانه، غير قادر على استيعاب المفاجأة.
زواج؟ فجأة هكذا؟ مِن مَن؟
ازدادت حيرته حين واصل إدوين بنبرةٍ حازمة.
“أريد أن أتزوج حالًا. لهذا أحتاج كاهنًا فورًا.”
كانت كلماته مختصرة جدًا، لكنها تعني ضمنًا: ‘احضر كاهنًا الآن، ولا تُجادل.’
ابتسم لوهاس ابتسامة متوترة وأجاب متلعثمًا.
“الوقت… غير مناسب الآن يا سموّكم، فالقاعة تحتاج إلى تجهيز، وكأس الذهب للقداس، و—”
أطلق إدوين تنهيدة قصيرة، ضاق صدره بوضوح. كان أكثر ما يكرهه في الحياة هو إعادة ما قاله مرتين.
“قلتُ إنني أحتاج شهادة زواج. هذا كل ما في الأمر.”
“لكن يا سموّكم، مهما يكن، أنتم فرد من العائلة الإمبراطورية…”
“الحفل، والخواتم، والضيوف، وكل تلك الزينة — سنفعلها لاحقًا،
وسنجعلها فخمة إلى حدّ السأم إن أردت. أما الآن… فأريد فقط تسجيل الزواج رسميًا.”
“أي… أي أنك تريد مباشرة تسجيل الزواج دون مراسم…”
بدأ لوهاس يشعر بوخز في ضميره.
من تلك المسكينة التي وقع اختيار الأمير الثالث عليها؟
لكنه رغم كل شيء، تظاهر بالهدوء وقال.
“لكن… لا توجد قاعة صلاة شاغرة في الوقت الحالي.”
“أليس هناك معبد رئيسي؟”
كان المعبد مختلفًا عن غرف الصلاة الصغيرة التي يستعملها الاشخاص.
إنه مكان ضخم يسع أكثر من ألف شخص، ولا يُفتح إلا في المناسبات الرسمية الكبرى وبموافقة الإمبراطور نفسه.
لم يكن من الممكن أن يكون الأمير الثالث جاهلًا بما يحدث.
فهو لا يخشى حتى والده الإمبراطور.
قال لوهاس بوجهٍ متجهم.
“……سأُعِدّ مراسمًا بسيطة. سأقدم لكم شهادة الزواج مع بركة قصيرة.”
ومهما يكن، فالطرف الآخر كان من العائلة الإمبراطورية.
لم يكن من اللائق الاكتفاء بإرسال ورقة واحدة فحسب. فما إن قال إنه سيجهز المراسم فورًا، حتى ارتسمت على وجه إدوين ابتسامة راضية.
“إن كانت بركة من أجل العروس، فسأقبلها بسرور.”
“نعم، مفهوم.”
“آه، وأيضًا…….”
ازدادت ابتسامة إدوين عمقًا.
ولأول مرة، أدرك لوهاس كيف يمكن لابتسامة مشرقة أن تبدو بهذا القدر من البرودة.
“العروس لا تعرف أنني من العائلة الإمبراطورية، فاحذر.”
بهذه الكلمات غادر إدوين المعبد.
ثم توجه نحو السيدة الرقيقة الجالسة في الحديقة.
وبعد أن تبادلا بضع كلمات، اصطحبها الأمير الثالث برفق.
كان يمسك بها كما لو كانت دمية زجاجية ثمينة.
حدّق الكهنة فيه بذهول.
‘ما الذي يجري الآن؟’
وكان أول من استعاد وعيه هو لوهاس.
“أسرعوا، حضّروا المنصة.”
***
‘ما الذي يحدث بالضبط……؟’
لم تكن دانا تتمنى أبدًا أن تصل الأمور إلى هذا الحد.
فُتِحَت أبواب المعبد الذي لا يُسمح بدخوله إلا للعائلة الإمبراطورية والنبلاء المخوّلين منهم.
“إدوين، لماذا جئنا إلى هنا……؟”
“لأنه لا توجد قاعة صلاة جاهزة الآن.”
“كنت سأرضى بإقامة المراسم في الحديقة مثل قبل قليل…….”
“لا يمكن.”
ابتسم إدوين ابتسامة مشرقة.
“قلت إنني سأمنحك الأفضل دائمًا، أليس كذلك؟”
كان الموقف خانقًا لدرجة أنها شعرت بالاختناق من شدّة الرفاهية.
وفوق ذلك، ما قصة تلك المنصة اللامعة بالذهب؟
كان الكهنة يزيّنونها بعناية استعدادًا للمراسم.
وعلى جانبيها، وُضِعَت كأسَان مرصّعتان بأحجار كريمة باهظة.
ما بال كهنة القصر المتعجرفين يتصرفون بهذه الطريقة؟
أمالت دانا رأسها بحيرة، ثم همست لإدوين.
“هل وافق الكاهن الأكبر على تزويجنا بهذه السهولة؟”
“بالطبع.”
“كيف ذلك؟”
“لأننا جميعًا متساوون أمام الإله.”
أجاب إدوين بثقة تامة.
وما إن انتهوا من تجهيز المنصة، حتى اقترب أحد الكهنة منهما وقال.
“كل شيء جاهز، وسنقدّم شهادة الزواج بعد المراسم.”
كان صوته متواضعًا أكثر من اللازم، ولم يجرؤ حتى على النظر في عيني دانا.
“هيا بنا، سينباي.”
أمسك إدوين بيدها وقادها إلى المنصة.
ومع كل خطوة يخطوانها، كانت الابتسامة تزداد على شفتيه دون وعي.
كم كانت دانا جميلة في تلك اللحظة، وهي تمسك بيده لتتمم المراسم.
حين وصلا إلى المنصة، ظهر كبير الكهنة لوهاس بنفسه.
اتسعت عينا دانا بدهشة.
فكبير الكهنة لا يترأس حفلات الزواج إلا إذا كان العروسان من العائلة الإمبراطورية.
‘هذا مبالغ فيه حقًا……!’
لم تستطع دانا الاحتمال وسألته.
“نشكركم على مباركتكم لزواجنا، ولكن هل لي أن أسأل لماذا أنتم من يقيم المراسم بنفسه؟”
“…….”
لحسن الحظ، غلبت خبرة لوهاس شعوره بالارتباك.
فنظر إلى إدوين قبل أن يجيب.
لكن عيني إدوين بقيتا هادئتين، وكأنهما تقولان: “لماذا لا تجيب؟”
في النهاية، لم يجد لوهاس مفرًا من الكذب.
“هاها، جميع البشر متساوون أمام الإله. ومن واجبي أن أبارك كل من يقف أمامي.”
هاها…… هاهاهاها……
واصل لوهاس الضحك متظاهرًا بالهدوء.
لكن دانا سألت مجددًا.
“إذن، هل أقيمت حفلات زواج أخرى تباركها بنفسك؟ غير تلك الخاصة بالعائلة الإمبراطورية.”
“……أنوي القيام بذلك من الآن فصاعدًا.”
“ومنذ متى تغيرت قناعتك؟”
“……منذ اليوم.”
غريب جدًا.
همست دانا لإدوين.
“يبدو أننا محظوظان اليوم، أليس كذلك؟”
“بالفعل، من كان يظن أنه سيغيّر رأيه فجأة هكذا.”
تبادلا النظرات والابتسامات برضا، في حين شعر لوهاس برغبة عارمة في البكاء.
فهو الذي عاش حياة صادقة ومستقيمة، لم يكن يحتمل فكرة الكذب.
لكن بما أنه قال ما قاله، صار عليه أن يبارك الكثير من حفلات الزواج مستقبلًا.
ابتلع لوهاس شعور المرارة، ورسم ابتسامة متكلفة على وجهه.
ثم بدأ بإلقاء البركة.
“باسم الإله، نعلن اتحاد هذين الشخصين في رباط الزواج…….”
كانت البركة قصيرة جدًا.
فهو لا يعرف ما الذي قد يحدث لاحقًا.
اقترب أحد الكهنة بحذر، وفتح وثيقة الزواج.
ووقّعت دانا أولًا، بخط واضح كتب اسمها: ‘دانا هارتوين’.
ثم وقّع لوهاس بصفته كبير الكهنة.
وأخيرًا جاء دور إدوين.
كتب أولًا اسمه ‘إدوين’، ثم قال مبتسمًا نحو دانا.
“كبير الكهنة قال إنه سيمنحك بركة خاصة بعد المراسم.”
“لي أنا؟”
نظرت دانا إلى لوهاس بدهشة،
الذي تنهد بعد أن أدرك نية إدوين وقال بعطف.
“……أتمنى لكِ دوام الصحة، ولتحفّكِ بركة الإله دائمًا.”
وفي تلك اللحظة، أكمل إدوين توقيعه بخفة يد.
لكن الاسم الذي كتبه لم يكن ‘إدوين لانبرت’ الذي تعرفه دانا،
بل ‘إدوين هيدرون’ — الاسم الإمبراطوري الذي يدل على حاكم إمبراطورية هيدرون العظيمة و سلالة التنانين المتدفقة في دمائهم.
التعليقات