الفصل 23
“حسنًا.”
عند إجابته الفورية دون تردد، انفجرت دانا ضاحكة بخفة.
“ألن تسأل الى أين بالضبط؟.”
“سأتبعكِ إلى أي مكان تختارينه، سينباي.”
اعتبرت دانا تصرفه المخلص إلى درجة العمى مزحة فحسب.
لكن إدوين كان جادًا بصدقٍ لا حدود له.
لم يكن الأمر مجرد ‘اتباع’ بالنسبة له، بل أينما ذهبت دانا، سيسير وراءها بلا تردد.
دانا، التي لم تكن تعرف ما يدور في رأسه المظلم المليء بالهوس،
فابتسمت له ابتسامة مشرقة.
“لنذهب إلى المعبد.”
“إلى المعبد؟ لماذا…؟”
قبل أن يُكمل سؤاله، أدرك الأمر.
وفي اللحظة نفسها، اشتعلت أضواء الفرح في رأسه كأنها نجوم.
“…لنحصل على شهادة الزواج؟”
“نعم، قلت لك من قبل، أريد الزواج منكَ في أقرب وقت ممكن.”
في الإمبراطورية، كان تقديم شهادة الزواج يتطلب ثلاث توقيعات:
العروس، والعريس، والكاهن الذي يشهد على اتحادهما.
تابعت دانا قائلة.
“ما زال الوقت نهارًا، إن غادرنا الآن فسنصل في وقتٍ كافٍ.”
“…إذن، اليوم سنصبح زوجين.”
قالها إدوين بصوتٍ مذهول لا يصدق ما يسمعه.
هل يُعقل أن يتوالى عليه هذا القدر من السعادة؟
كان الشعور بالبهجة لدرجةٍ تكاد تفقده التوازن.
مدّت دانا يدها وأمسكت بيده الشاردة.
“هيا بنا إلى الساحة لركوب عربة. أقرب معبد من هنا في ضواحي العاصمة.”
كانت تسير بخطى سريعة حين توقفت فجأة وكأنها تذكّرت شيئًا.
“الآن تذكرت، أليس مهرجان تأسيس الإمبراطورية قريبًا؟”
“هل في ذلك مشكلة؟”
“سمعت أن الكهنة يقيمون في القصر الإمبراطوري وقت المهرجان ليمنحوا البركات هناك.”
إن لم يكن حظهم جيدًا، فقد لا يجدون كاهنًا اليوم.
لكن إدوين لم يكن ليتقبل ذلك.
سواء من الناحية القانونية أو السماوية، عليه أن يجعل دانا زوجته اليوم.
وبعد لحظة تفكير، ابتسم ابتسامة واسعة وقال.
“سينباي.”
“هم؟”
“أقرب معبد… أليس هو معبد القصر الإمبراطوري؟”
كان هناك معبد داخل القصر نفسه،
بُني لتقوية العلاقة بين الإمبراطورية والدولة المقدسة.
وكان بعض الكهنة الرفيعي الرتبة من الدولة المقدسة يقيمون هناك للدعاء من أجل سلام الإمبراطورية.
“صحيح، لكن الكهنة هناك موجودون فقط من أجل العائلة الإمبراطورية.”
“ولماذا ذلك؟”
“لأنهم مغرورون.”
أي أنهم لا يهتمون بعامة الناس أو النبلاء الصغار، فمجرد كونهم في القصر يجعلهم يتعالون على الآخرين.
ومع ذلك، كانوا يحصلون على ميزانية ضخمة لإقامة طقوس البركة في عيد ميلاد الإمبراطور.
لكن إلى أين تذهب كل تلك الأموال يا تُرى؟
ارتسمت ابتسامة جانبية ساخرة على شفتي إدوين.
“لنذهب إلى معبد القصر الإمبراطوري.”
“ماذا؟”
“أيعقل أن يميّز من يمثل الإله بين الناس؟”
اقترب منها ومدّ ذراعه قائلًا.
“ما هذا؟”
“الزوجان يمشيان متشابكي الأذرع، أليس كذلك؟”
“هيا بسرعة.”
وبينما كانت دانا تمسك بذراعه بخفة، ارتسمت على شفتي إدوين ابتسامة راضية.
كانا يبدوان كعاشقين حقيقيين، مشهدٌ أرضى غروره تمامًا.
***
المعبد مكانٌ مقدس متساوٍ أمام الإله في كل أنحاء القارة.
يدخله الجميع من عامة الشعب إلى أرفع النبلاء.
لكن معبد القصر الإمبراطوري كان استثناءً. فالكهنة هناك كانوا يحفظون وجوه أفراد العائلة الإمبراطورية والنبلاء العظام عن ظهر قلب.
كانوا يرون أن عملهم هو منح البركة ‘لمن يستحقها فقط’.
ولهذا السبب، نظر أحد الكهنة بازدراءٍ إلى الزائرَين اللذين بديا كمجرد موظفين بسيطين لا يعرف رتبتهما.
أين يظنان أنهما جاءا؟
اقترب منهما أحد الكهنة بابتسامة ساخرة.
“ما الأمر؟ ماذا تريدان؟”
“جئنا لنحصل على شهادة زواج.”
ابتسم إدوين بهدوء، لكن الكاهن شعر بارتباكٍ غامض، كأنه رأى وجهًا يعرفه.
‘كأنه يشبه أحدهم…’
لكن هذا الشعور لم يهمه. فقال باستخفافٍ واضح.
“هذا ليس مكانًا لمثل هذه الطلبات.”
“مثل هذه الطلبات؟ ماذا تعني بذلك؟”
“هممم، كيف أشرح هذا…”
نظر الكاهن إلى دانا وإدوين من أعلى إلى أسفل بتفحّص،
وقال متردّدًا.
“نحن لا نخدم إلا أصحاب المقام الرفيع فقط…”
“إذن، باختصار، تعني أنني شخص تافه.”
ردّ إدوين بهدوء، فابتسم الكاهن ابتسامة خفيفة دون كلمة،
ابتسامة تقول بوضوح: “أحسنت الفهم، والآن تفضّل بالانصراف.”
كان من الطبيعي ألّا يتعرّف الكهنة على الأمير الثالث إدوين.
فأولًا، لقد أمضى فترةً طويلة في الشمال.
وثانيًا، كان يكره تمامًا حضور طقوس البركة.
كان يتحجّج في كل مرة ليتخلّف عنها، ولذلك لم يجرؤ أي كاهن على زيارته شخصيًا.
فقد كانت القصة الشهيرة عن ‘الأمير الثالث الذي أحرق لحية كبير الكهنة’ معروفة لدى الجميع.
ومنذ ذلك الحين، صار الكهنة يرتجفون كلما علموا أن الأمير سيزور القصر.
وفي تلك اللحظة، ظهر كبير الكهنة لوهاس من بعيد،
يبدو أنه جاء إلى هنا استعدادًا لمهرجان تأسيس الإمبراطورية القريب.
ألقى إدوين نظرة خاطفة عليه، ثم تمتم للكاهن الواقف أمامه.
“أتُرى كبير الكهنة يشاركك هذا الرأي أيضًا؟”
“أ… أ.. كيف تجرؤ على ذِكر اسم كبير الكهنة بلسانك؟!”
قالها الكاهن بانفعالٍ شديد، لكن إدوين لم يرد سوى بابتسامة هادئة، بينما احمرّت عيناه بلونٍ أحمر لامع كالنار.
ارتجف الكاهن من شدة الهيبة التي انبعثت منه، فلم يكن في حياته قد شعر بتهديدٍ كهذا من قبل.
أمسك إدوين يد دانا بلطفٍ وأجلسها على المقعد القريب.
“سينباي، سأذهب لأتأكد من شيء صغير وأعود حالًا.”
“إلى أين بالضبط؟”
“أريد فقط أن أتأكد إن كان يمكننا الحصول على شهادة الزواج هنا.”
عندها رمقت دانا الكاهن الواقف أمامها بنظرة حادة وقالت.
“أشكّ في ذلك، يكفي أن أنظر إلى هذا المتغطرس أمامي لأفهم.”
“صحيح، لكنه يستحق التأكد على الأقل.”
احمرّ وجه الكاهن من الغضب بعد أن أهانته علنًا،
بينما تابع إدوين بابتسامة هادئة.
“سأعود سريعًا. إلى أن أعود، استمتعي بمشاهدة الأزهار، سينباي.”
ثم غادر بخطى ثابتة وسريعة نحو كبير الكهنة.
“كيف يجرؤ هذا الفتى على الاقتراب من كبير الكهنة؟!”
حاول الكاهن منعه، لكن قوة إدوين دفعته أرضًا بسهولة.
قال إدوين بصوتٍ عالٍ، متعمّدًا أن تسمعه دانا.
“أوه، يبدو أنك تعثّرت بنفسك، احترس.”
كانت نبرته مليئة بالبرود والوقاحة المتعمدة.
ضحك الكاهن بخفةٍ مدهوشة من وقاحته، لكن دانا انحنت وسألت الرجل الذي سقط.
“يُمنع إدخال الأسلحة هنا، صحيح؟”
“صحيح، هل تخافين أن يصاب ذلك الرجل بشيء؟”
“لا، ليس هذا ما قصدت…”
نظرت إليه دانا نظرة باردة وقالت.
“كنت أقصد أن تقلق على نفسك، لأنني لا أضمن ما قد أفعله بك.”
ارتجف الكاهن وتظاهر بالسعال ليخفي خوفه، لكن دانا لم تحاول التراجع عن كلامها.
فإدوين، ذلك الفتى الرقيق الذي أقسمت على حمايته، كان السبب الوحيد الذي يجعلها تتحمل هذه الوقاحة.
***
كانت حياة كبير الكهنة لوهاس هادئة ومترفة.
فمنذ ولادته، امتلك قوة مقدسة خارقة وذكاءً فطريًا، الأمران اللذان جعلاه يرتقي بسرعةٍ إلى رتبة كاهن،
ثم إلى منصب كبير الكهنة وهو ما يزال شابًا.
كانت كلماته تُعتبر مقدسة، وحركاته كلها مفعمة بالهيبة والوقار.
لذلك، اعتقد لوهاس أن الجميع ينظرون إليه بإجلال، بل كان مقتنعًا أنهم يجب أن يفعلوا ذلك.
لكن امتحانه الأول — والأخير — جاء فجأة. امتحان لن ينساه حتى يوم موته.
كان ذلك اليوم هو يوم مهرجان التأسيس، اليوم الذي منح فيه البركة للعائلة الإمبراطورية وكبار الشخصيات.
لم يرَ لوهاس أن بركته طويلة على الإطلاق، بل كان يظن أن الاستماع إليها نعمة لمن يحضرها.
“…الإله يحب البشر جميعًا، لهذا منَّ على هذه الأرض بالنعم والخيرات…”
“مملّ.”
‘…هاه؟ ما هذا؟ من تجرّأ وقال ذلك؟’
لم يكن في حياته قد سمع شيئًا كهذا. ظنّ أنه توهّم، فهزّ رأسه سريعًا وتابع.
“…عندما كنت في السابعة عشرة، امتلكتُ قوةً روحيةً فاقت كل أقراني…”
“هذه ليست بركة، بل استعراض نرجسي.”
صوت آخر! نفس النبرة الباردة!
هل هو شيطان؟ هل هذه تجربة أرسلها الإله ليختبره؟
ابتلع لوهاس ريقه وهو يواصل بصعوبة.
“…لقد وصلتُ إلى منتصف البركة تقريبًا، والآن سأتحدث عن…”
وفي اللحظة نفسها التي قال فيها ذلك، اشتعلت النار في لحيته!
“كيااااااه!!”
يا إلهي! إنه الشيطان حقًا!
صرخ لوهاس بأعلى صوته، والشعلة الصغيرة كانت تتراقص عند أطراف لحيته كما لو كانت تستهزئ به عمدًا.
هرع الكهنة النائمون من حوله وأمسكوا بماءٍ مقدسٍ لرشه،
لكن قبل أن يلمسوه، انطفأت النار من تلقاء نفسها.
كما لو أن من أشعلها أراد فقط إخافته.
انهار لوهاس على ركبتيه مرتجفًا.
وفي وسط ارتباكه، سمع صوت الإمبراطور الغاضب.
“إدوين! إذا لم تتوقف فورًا، لن أرحمك هذه المرة!”
إدوين؟ الأمير الثالث؟
الطفل الذي منحه هو نفسه البركة يوم مولده، والذي قيل إنه وُلد بقدرة على التحكم بالنار…
حينها، التقت عينا لوهاس بعيني الصبي، عينان هادئتلن على نحوٍ شيطاني، كأنهما تنظران داخل روحه.
والآن، بعد سنواتٍ طويلة،
كان ذلك الطفل — الشيطان ذاته — يقترب منه من جديد.
تجمّد لوهاس في مكانه، عاجزًا عن النطق.
التعليقات