الفصل 22
“نعم، إنه حبيبي.”
“ماذا… ماذا؟”
تجمّد كل من في المكتب عند ذروة دهشة لايتن.
“قلتُ إنه حبيبي.”
كرّرت دانا كلامها وهي تنظر إلى لايتن بثبات.
“يا إلهي!”
وضعت كيرا يديها على فمها، لكن ضحكتها تسربت رغمًا عنها.
بدأت عيون الزملاء، ومن بينهم كيرا، تتلألأ بالفضول. كان هذا أكثر ما أضفى الحماس على المكتب منذ انضمامهم إلى العمل.
حتى إدوين نفسه ظلّ يحدّق في دانا بدهشة، وقد تبخّر الغضب الذي كان يوجهه نحو توني في لحظة واحدة.
اقتربت دانا منه خطوةً بعد أخرى. ومع تقلّص المسافة بينهما، أخذ قلب إدوين يخفق بعشوائية كالمطرقة.
لامست أصابع دانا الرفيعة يده.
كانت حركتها المترددة تثير في جلده قشعريرة خفيفة.
صعد إصبعها الصغير ببطء على مفاصل يده، يترك أثرًا حارًّا حيًّا في كل موضع.
ثم قبضت على يده بإحكام.
ارتجف إدوين بشدة. شعور حارق لا يُوصف اجتاح جسده كله.
لقد أمسكت دانا بيده من تلقاء نفسها.
كان على وشك أن يغيب عن وعيه من شدّة الذهول والانتشاء، لكن صوتًا مزعجًا قطع تلك اللحظة.
“ه-هذا كذب!”
كان الصوت المرتجف لتوني.
“تقولين إنكما تتواعدان؟! هذا مستحيل!”
“وما الذي لا يُصدَّق في هذا؟ أنا لا أطيقك، كفّ عن التعلق بي.”
“هل تفعلين هذا فقط لأن وجهه جميل؟! هل أغراك مظهره؟!”
بدأ لايتن، الذي كان يراقب الموقف، ينحاز إلى توني.
“الرجال لا يُقاسون بالوجه بل بالقلب! حتى لو كان توني قبيحًا وتفوح منه رائحة، فأخلاقه لا يُضاهى!”
تجمّد وجه توني وقد غمرته الصدمة، فأدرك لايتن خطأه بسرعة وحاول تحويل مجرى الحديث.
“ثم إن العلاقات في مكان العمل؟! ماذا لو إنفصلتما؟ سيعمّ التوتر أجواء المكتب!”
يبدو أنه قرر مهاجمتها من زاوية أخرى.
“لا تقلق.”
رنّ صوت دانا قويًا وواثقًا.
“فنحن سنتزوج قريبًا.”
بعد إعلان العلاقة، جاء إعلان الزواج. ساد الصمت في المكتب كأن الهواء تجمّد.
كان وجها لايتن وتوني مشهدًا يستحق الرسم.
ارتجفت شفتا توني وهو يتمتم.
“دانا… زواج… من الموظف الجديد…!”
تقطعت كلماته ولم يقدر على إتمامها.
أما كيرا فاضطرت إلى كبح رغبتها في التصفيق فرحًا.
أخذت دانا الأوراق من يد إدوين.
“أعطني هذه.”
ثم وضعتها على مكتب لايتن.
“تقرير رحلة العمل. سأنصرف الآن.”
أشار لايتن إليها بيده المرتجفة.
“أنتِ… أنتِ…!”
“أراك غدًا.”
غادرت دانا المكتب دون أن تلتفت وراءها، بينما ظلت تمسك بيد إدوين بإحكام.
سارا معًا في الممر، ثم غادرا قسم السحر، حتى وصلا إلى النافورة، دون أن يتفوه أحدهما بكلمة.
واصلت دانا السير إلى الأمام، يدها لا تزال تشدّ على يده، فيما كان إدوين يشعر وكأنه يعيش حلمًا طال انتظاره.
منذ اللحظة التي التقاها فيها، لم يتمنَّ سوى أن يقضي حياته إلى جوارها.
أن يستيقظا صباحًا ليتبادلا النظرات، يحتسيا الشاي تحت أشعة الشمس، ويتشاركا الضحك وأحاديث الحياة الصغيرة.
كل تلك الأمنيات البسيطة أراد أن يعيشها معها، وها هي أخيرًا تمنحه الإذن بذلك.
توقفت دانا عند وسط النافورة.
“…..”
“…..”
لم تلتفت نحوه، بقيت تنظر إلى الأمام كما كانت، لا تُريه سوى ظهرها.
نظر إليها إدوين بدهشة. وفي لحظةٍ تسلّل إلى ذهنه خاطر ثقيل.
‘أيمكن أنها قالت كل هذا بدافع الغضب؟ فقط لتُبعد توني عنها؟’
تذكّر ملامحها الأخيرة في الشمال، كانت جادة على نحوٍ غريب، كأنها كانت تودّع أحدهم.
خفت بريق عيني إدوين تدريجيًا، وعاد عطشه إليها يتصاعد في صدره.
ربما ستنطق الآن بكلمات الرفض.
لا، لا يمكن أن يحدث ذلك.
ابتسم إدوين بخفة، ثم ناداها بصوتٍ هادئ ولطيف.
لا، بل كاد يناديها…
“…إدوين!”
استدارت دانا فجأة، حتى إن إدوين، برشاقته المعهودة، تفاجأ من حركتها.
رفعت رأسها عاليًا والتقت عيناهما. حدقتاها الزرقاوان اخترقتاه بوضوح، وبشرتها المتوردة بدت أكثر إشراقًا.
“أنتِ محمرة، سينباي.”
كان بياض بشرتها قد احمرّ حتى أطراف أذنيها.
هزّت دانا رأسها قبل أن يلمسها إدوين.
“لا، لا… فقط تجاهل الأمر.”
أغمضت عينيها بإحكام وزفرت نفسًا عميقًا.
“هذا من الخجل فحسب. لذلك أرجوك تجاهله.”
آه… حينها فهم إدوين كل شيء.
مشيتها وهي تنظر إلى الأمام، امتناعها عن النظر إليه للحظات، كل ذلك لم يكن إلا حياءً منها.
تلاشت الحدة من داخله.
“وما الذي يخجلكِ؟”
“…كل شيء. صرختُ أمام الجميع، وتحدثت عن الزواج دون أن أستشيرك…”
أن يكون هذا هو ما يخجلها… وهي لا تدري كم تتحكم كلمتها فيه.
فتحت عينيها من جديد، وجهها يحمل عزيمة.
“رغبتك في الزواج بي… هل لا تزال قائمة؟”
“…نعم، لا تزال.”
ولم تكن فقط قائمة، بل كان مستعدًا للانتظار عمرًا كاملًا في سبيل موافقتها.
ارتخت ملامح دانا على جوابه، ثم فتحت شفتيها الصغيرتين.
“أريد الزواج بك. بأسرع ما يمكن.”
كان صوتها المرتجف يزداد صلابةً.
“هذا ليس هروبًا من عائلتي.”
أرادت أن تكون هذه النقطة واضحة لإدوين. “لستَ وسيلة فرار.”
“منذ صباح اليوم وأنا أرتب كلامي لأخبركَ به.”
إذن هذا هو سبب جديتها السابقة؟
كانت ملامحها المتصلبة استعدادًا لقبوله في حياتها.
أدرك ذلك إدوين، فاضطرب قلبه من جديد.
أخرجت دانا اعترافًا أعدته طويلًا.
“…كنتُ دافئة بقربك.”
“…..”
“هذه أول مرة… لم أشعر فيها بالفراغ المألوف.”
كان ذلك صحيحًا. لم يعد هناك ذلك الخواء البارد.
أرادت أن تذوب في دفئه الذي يغمرها بلا قيد او شرط.
كيف يمكن نسيان دفء بلا مقابل كهذا؟
تابعت دانا كلامها.
“حين خرجتَ لصيد الوحوش أدركتُ الأمر.”
قبضت على يديها المرتجفتين.
“لم أستطع التفكير بشيء حينها.، سوى فكرة أنني قد لا أراك ثانية…”
“…..”
“أحبكْ.”
رفعت رأسها لتنظر إليه من جديد. عيناها الزرقاوان تلمعان باليقين.
“أحبك، إدوين.”
للحظة لم يستطع إدوين أن ينطق بكلمة.
في تلك اللحظة ارتفع ماء النافورة عاليًا.
كان تمثال وسط النافورة ينفخ بوقه، والتماثيل الأخرى تبتسم وهي تقذف الماء البارد.
تناثرت القطرات المبللة على جسديهما. وأشرقت شمس الربيع فخلقت قوس قزح باهتًا.
لفحهما عبير الربيع مع نسيم عليل.
ولأول مرة في حياته فهم إدوين معنى كلمة ‘يغمرني الرضا’.
كان سيل السعادة جارفًا حتى كاد يفقد أنفاسه.
كأنه يرى ليلًا سماءً مملوءة بالنجوم المتساقطة. أو كأنه بعد موسم طويل من المطر يشاهد قوس قزح يتشكل.
سعادة تذهل العقل.
“…سينباي.”
“نعم.”
تنفّس إدوين بعمق، كأنه يحاول تهدئة انفعاله.
“هل يمكنني أن أعانقكِ؟”
“ماذا…؟”
“أريد أن أضمكِ الآن. لا أستطيع الاحتمال أكثر.”
رفّت عينا دانا على صراحته، ثم فتحت ذراعيها بارتباك.
وعلى موافقتها، ضمها إدوين بقوة.
شهقت دانا من المفاجأة، فقد كان صدره أوسع وأصلب مما توقعت.
ضمّها بين ذراعيه وابتسم. ابتسامة صادقة كما لم يفعل من قبل.
“شكرًا لكِ، سينباي.”
‘دانا خاصتي…’
الآن صارت دانا له.
ولم يُفلتها من حضنه طويلاً. كانت خطط المستقبل تتدفق في ذهنه بلا توقف.
أن تبقى إلى جانبه عمرًا كاملًا.
عندها رفعت دانا رأسها قليلًا من صدره.
“إدوين، هناك مكان أريد أن نذهب إليه الآن.”
التعليقات