الفصل 21
بعد لحظات، خرج إدوين من الغرفة بعدما اغتسل وتهيأ بعناية.
في ردهة النُزُل كانت دانا في انتظاره بوجه متوتر.
مظهرها القَلِق لأجله بدا له حقًا محببًا.
عندما رأت دانا إدوين، نهضت من مقعدها.
“ألستَ جائعًا؟ لقد صعدنا الجبل منذ الفجر.”
“أنتِ أيضًا يا سينباي، لنذهب سريعًا إلى المطعم.”
بسبب الفحص الطبي والاغتسال كان قد أضاع وقتًا طويلًا.
أما الآخرون فقد أنهوا طعامهم بالفعل.
وعندما وصلا إلى المطعم لتناول الإفطار كان شبه فارغ إلا من بعض الفرسان.
هؤلاء تأخروا عن الأكل لأنهم خرجوا للصيد مع إدوين.
بمجرد أن لمحوا دانا وإدوين، راحوا يلتهمون الخبز بسرعة.
“كخ! كخ!”
أحد الفرسان كاد يختنق فخرج من المطعم والخبز في فمه.
أما البقية فحملوا أوعية الحساء وأفرغوها في أفواههم على عَجَل،
ثم هرعوا إلى الخارج خشية أن يلتقوا عينًا بعين مع إدوين.
“ما بالهم؟”
تساءلت دانا بوجه مذهول.
رفع إدوين الملعقة بخفة وقال.
“لقد وبّختِهم قبل قليل.”
“……يخشونني إلى هذا الحد؟”
كان حجم الفرسان ضعف أو ثلاثة أضعاف حجمها.
“يُقال إن القائد هنا طيب جدًا ويُسامح رجاله بسهولة.”
قال إدوين هذا بجدية ثم تابع.
“فهل لأنهم تلقوا أول توبيخٍ منكِ صاروا هكذا؟”
ما هذا، كأنهم أطفال…
‘هل أنا مخيفة عندما أغضب؟’
مالت دانا برأسها متعجبة. ربما كانت تُصدر هالة أكثر حِدة مما ظنت.
شعرت برضا داخلي كأنها اكتشفت جانبًا قويًا في نفسها.
امتلأ وجهها النقي بالثقة.
إدوين، وهو يحبس ضحكته، صبّ لها الماء.
ولم ينسَ أن ينفض فتات الخبز العالق على فمها.
في المقابل، الفرسان الذين ظنت دانا أنهم خائفون منها، كانوا في الحقيقة متجهّمين في طريقهم إلى ساحة التدريب.
“حمدًا لله أننا أكلنا باكرًا.”
“كدت أرمي الطعام كله!”
فكل ما أرادوه هو الهرب من مشاهدة مشاهد الغرام بين دانا وإدوين والتي قتلت شهيتهم.
“أنتما متأكدان أنهما سيرحلان هذا الصباح، أليس كذلك؟”
“نعم. لن يبقيا طويلًا سوى لسماع الملاحظات عن الجرعات.”
“أرجو أن يرحلا بسرعة…”
أومأ الجميع برؤوسهم وكأن الأمر بديهي.
***
إتجه الأطباء إلى العيادة للاستشارة الطبية، بينما توجهت دانا وإدوين إلى قاعة الاجتماعات.
في الداخل كان هناك طاولة كبيرة محاطة بأرائك. ورغم رحابة المكان، لم يكن فيه سواهما.
ترك إدوين المقاعد الفارغة وجلس ملاصقًا لدانا. وهي اعتادت قربه، فلم تجد الأمر غريبًا بعد الآن.
منذ انضمامه ظل يتبعها من الصباح حتى الليل، وصارت تعتبر وجوده طبيعيًا.
منذ صغرها، شعرت دانا أن قلبها فارغ. لذلك اعتادت برودة الرياح داخله وصمت الوحدة.
‘لكن عندما أكون مع إدوين لا أشعر بهذا مطلقًا.’
شعرت بجانبه وكأن قلبها ممتلئ بقطنٍ دافئ.
صدرها يدغدغه إحساس غريب، وابتسامة هادئة تنفلت منها.
‘لو إنتهى بي المطاف مع إدوين …’
ما إن وصلت بفكرها إلى هنا حتى تجمد وجهها. كأن أحدهم سكب ماءً باردًا فوق رأسها.
“إدوين.”
نادته بصوت واضح.
“نعم، سينباي.”
كالعادة نظر إليها بحرارة.
“فترة مواعدتنا كانت أسبوعًا، أليس كذلك؟”
“……صحيح. منحتِني فرصة لأسبوع.”
“فرصة؟ لم أكن أختبرك قط.”
لم يكن اختبارًا، بل مجرد رغبة قصيرة في تذوق بعض الدفء.
“أعلم. لكنني أردت أن أثبت نفسي أمامكِ.”
“……في ماذا بالضبط؟”
ابتسم إدوين بصمت.
أما دانا فارتسم على وجهها تعبير معقد لم يعتد عليها أحد به.
إدوين بدا هادئًا، لكنه كان متوترًا. لماذا ذكرت فجأة موضوع الأسبوع؟
الوقت الذي اتفقا عليه يقترب من نهايته.
جف حلقه وهو يستحضر تلك الحقيقة. وكأن سماءً صافية انهارت فجأة على الأرض.
مد يده وسكب لها شاي البابونج. امتلأ الجو برائحته الهادئة.
***
كما توقعت دانا، لم يجرؤ أي فارس على القدوم طوال فترة الصباح.
وبمجرد انتهاء العمل، دخلت هي وإدوين البوابة برفقة الاطباء.
مع ومضة الضوء الأبيض المتماوج عادوا في لحظة إلى الطابق السفلي لإدارة السحر.
وبسبب لايتن، الذي لم يكن يحتمل أن يضيع رجاله وقتًا، كان عليهما التوجه مباشرة إلى قسم إدارة الجرعات.
“لننهِ التقرير سريعًا ثم نغادر.”
“نعم، لا بد أنكِ متعبة يا سينباي.”
ابتسمت دانا لذلك.
ابتسامة هادئة وطبيعية.
بالفعل، بعد هذه المهمة أصبحا أكثر قربًا من ذي قبل.
شعر إدوين بالرضا لذلك، لكنه لم يستطع نسيان التعابير المعقدة التي ارتسمت على وجهها قبل قليل.
وأخفى توتره وهو يفتح باب المكتب.
“لقد عدنا.”
“……”
“……”
لم يرد عليهما أحد. كان المكتب صامتًا على نحو غريب.
كيرا رمقت دانا بوجه قَلِق.
استشعرت دانا الجو المتوتر، وحين رفعت عينيها تلاقت نظراتها مع توني. عيناه كانتا ثابتتين ومليئتين بالعزم، يحدق بها مباشرة.
قطع الصمت صوت لايتن، بصوت هجومي موجّه إلى إدوين.
“هيه، أيها المستجد!”
“تفضل.”
“سمعتُ أنك تحب دانا؟”
قالها بنبرة ساخرة. وهنا فقط أدركت دانا ما يحدث.
توني، الذي رفضته من قبل، هرع على الفور إلى لايتن، وبدأ يشوه صورة إدوين بكلام لاذع.
ومع لسانه الخفيف لا بد أنه أشاع الأمر في المكتب كله.
تصرف صبياني ورخيص للغاية.
أما الموظفون الآخرون فقد تظاهروا بالانشغال بالعمل، لكن آذانهم كلها كانت منصتة.
أجاب إدوين بوجه هادئ
“صحيح.”
ظن لايتن أنه سيصطاده على حين غرة، لكن ردة فعله كانت باردة.
فقرر أن يستفزه أكثر.
“ضع هذه المشاعر التافهة جانبًا! إنها تعطل عملك!”
“هذا أمر أتعامل معه بنفسي.”
رده الفاتر زاد من غيظ لايتن. فصرخ هذه المرة نحو دانا
“أليس مجرد حب من طرف واحد؟ وأنتِ ما الذي تفعلينه تاركة رجلًا جيدًا كهذا؟”
’رجل جيد؟ لا يقصد…’
تجهمت ملامح دانا.
لايتن واصل وهو ينفث رذاذ لعابه.
“انظري إلى توني! مجتهد ومستقيم، كم هو رائع!”
ها، إذن كانا قد رتبا الأمر مسبقًا. لم يكن غريبًا أن نظرات كيرا كانت قلقة.
ثم التفت لايتن نحو الموظفين محاولًا جرهم للتصفيق.
“ألستم توافقون؟ أليس الاثنان مناسبين معًا؟”
“…ن-نعم، صحيح…”
“ب، بالطبع…”
كان يحاول فرض أجواء مصطنعة بعدما لم يتلقَّ اعترافًا منها.
أما توني فكان يبذل جهده في كتم ابتسامة الرضا، وزاوية فمه ترتجف مثل ضفدع.
حينها، ارتسمت ابتسامة مشرقة على وجه إدوين.
لكن رغم انحناءة عينيه الرقيقة، كان الجو من حوله بارداً ومخيفاً. حتى لايتن، الذي لم يتوقف عن الصراخ، أطبق فمه.
صوته العميق المليء بالبرودة اخترق السكون…
“توني سينباي، اليس لديك اية ذرة من الكرامة؟”
ثم انصب عينيه الحمراوين المتقدتين نحو توني.
“رُفضتَ، ومع ذلك تتشبث، ثم تذهب وتثرثر عند رئيسك؟”
بمجرد سماع كلمة “رُفض” تبادل الموظفون نظرات الدهشة.
واحمر وجه توني خجلًا.
خطا إدوين نحوه ببطء.
“ما هذا السلوك؟ إنه حقًا مثير للشفقة.”
مجرد خطواته جعلت الجو خانقًا.
فقد توني السيطرة على ساقيه، ولم يجرؤ حتى على النهوض من الكرسي، يحدق فقط في إدوين.
جسده يرتعش من الخوف.
لم يكن ممكنًا لرجل مثل توني أن يتحمل هالة قاتلٍ متمرس قضى عمره في ساحة المعركة.
وكل تلك الهالة كانت موجهة له وحده.
أما المسؤولون الذين لم يعرفوا ماضي إدوين، فقد نظsروا بدهشة إلى توني المرتجف.
لم يحتمل لايتن المشهد فصرخ مجددًا..
“أيها المستجد! بأي حق تتدخل؟”
كأنك حبيبها أو شيء كهذا! سخر لايتن منه قاصدا هذا المعنى.
في تلك اللحظة، فتحت دانا شفتيها لتخاطب الجميع….
التعليقات