الفصل 19
“هل هو خطير جدًا؟ لعلّه ليس وحشًا من الدرجة العليا، أليس كذلك؟”
أجاب هاريوت، من دون أن يقرأ الجو، بالحقيقة مباشرة.
“إنه وحش من الدرجة الأعلى!”
“…ماذا قلت؟”
“حتى لو هجم عليه فرسان الرون دفعة واحدة فلن يتمكنوا من القضاء عليه، إلا القائد وحده.”
“إذًا لماذا أخذوا إدوين معهم أصلًا!؟ هل الفرسان يحمونه؟”
“سيكون واقفًا في المقدمة، فكيف سيحمونه إذن.”
عند تلك الكلمات، طار عقل دانا. شعرت كأن شيئًا ما في رأسها انقطع فجأة.
كانت قد سمعت أن فيلق الفرسان مليء بالمجانين، لكن كيف لهم أن يأخذوا شخصًا عاديًا معهم! بل ويجعلونه في المقدمة كدرع بشري!
فقدت دانا قوتها في ساقيها وسقطت جالسة. فجلس هاريوت بجانبها على الأرض.
“هل أنتِ بخير؟ هل تشعرين بالبرد؟”
لكن دانا لم تسمع كلماته إطلاقًا. كل ما تبادلته مع إدوين عاد ليمرّ أمام عينيها.
اللقاء الأول، صندوق الطعام الدافئ، الأحاديث التي تبادلاها.
تلك النظرات المليئة بالمودة. وفوق ذلك، الليلة الماضية حقًا…
حتى ذكريات طفولتها المؤلمة التي لم تكن تعيها، ساعدها إدوين على مداواتها.
كانت تظن أنها معتادة على الوحدة. لكن الحقيقة أنها لم تكن سوى جروح متصلبة مغطاة بالقشور.
وكان إدوين الوحيد الذي لمس تلك الجروح برفق.
‘إنه شخص عزيز علي.’
وفي اللحظة التي استوعبت فيها ذلك، اتخذت دانا قرارًا حاسمًا.
‘الآن حان دوري لأحميه.’
بذلت جهدًا لتستجمع قوتها وتنهض، ثم سألت هاريوت.
“أين إدوين الآن!”
“لابد أنه في موطن الفراكن… لكن ذهابك وحدك سيكون خطرًا!”
أيعرف من أرسله إلى هناك خطورة الأمر؟ ماذا سأفعل إن أصيب إدوين بسوء؟
زفرت دانا نفسًا عميقًا، وشعرت أن رأسها الساخن بدأ يبرد قليلًا.
“انتظر قليلًا فقط. سأذهب إلى إدوين حالًا.”
وبهذه الكلمات، توجهت نحو ساحة التدريب. وكما توقعت، ما زالت الجرعات التي حضرتها البارحة موجودة.
بهذا القدر ستتمكن من الصمود حتى إن استنزفت قوتها. فجرعات القدرة على التحمل تمنح عمرًا إضافيًا في المواقف الحرجة.
حمّلت دانا ذراعها بالجرعات وخرجت بلا تردد. العيون الفضولية تابعتها هي وهاريوت.
حتى الفرسان أوقفوا تدريبهم، وأخذوا يتبعون دانا بخطوات متلاحقة.
ولم يتمالك أحدهم نفسه فسأل.
“هل أنتما… أقصد، هل أنتما في علاقة؟”
كيف يجرؤ على السؤال في هذا الوضع…!
نظرت دانا إليه بنظرة اشمئزاز وقالت.
“نعم، صحيح! لذا دلّوني بسرعة. إلى حيث يوجد إدوين!”
شهق الفرسان بدهشة.
“واو…”
“حقًا؟”
عندها اقترب نائب القائد الأكثر عقلانية، دانتي.
“ألا يجدر بكِ الانتظار قليلًا؟ إنه بخير.”
“سأوصل له هذه فقط!”
فكر دانتي بتمعن.
‘إن كانت حبيبة القائد… فلا بد أنها عنيدة حقًا.’
ثم أمر بوجه جاد.
“افتحوا مخزن الأسلحة.”
***
في تلك الأثناء، كان إدوين قد غادر منذ الفجر وصعد الجبل بخطوات واثقة من دون أن يرتدي حتى درعه.
أما المخلوقات الدنيا التي ظهرت أحيانًا، فقد كان الفرسان يتكفلون بالقضاء عليها.
“هل استيقظ الفراكن؟”
أجاب أحد الفرسان على سؤال إدوين.
“يبدو أنه استيقظ لتوّه من سبات الشتاء. شعرنا بالاهتزازات من أسفل الجبل.”
“أفهم.”
شيئًا فشيئًا، أخذ عدد الوحوش يزداد بسرعة. وقبل أن يُعرف السبب، كانت قد بدأت بالنزول من الجبل لمهاجمة الناس.
وكان الفراكن أشدها خطرًا، إذ بقوته وحدها يستطيع تدمير قرية بأكملها.
وعلى خلاف الوحوش الأخرى التي تضمحل بطعنة في نواتها، كان يعاود الظهور بفضل الطاقة السحرية الباقية في الجبل.
وفوق ذلك، كان جسده الهائل وقوته العاتية يجعلان حتى الفرسان المدربين جيدًا عاجزين عن القضاء عليه بسهولة.
وكلما صعدوا أعلى، ازدادت حدة الاهتزازات. وكان إدوين، بفضل قواه، قادرًا على استشعار المانا.
والأمر نفسه انطبق على هالة الوحش.
قادته تلك القوة إلى مدخل كهف مسدود بصخرة عملاقة.
فتوقف وأشهر سيفه.
ابتلع الفرسان المرافقون أنفاسهم بتوتر.
ثم تناول إدوين زجاجة صغيرة من أحد أتباعه. كان السائل البنفسجي بداخلها عقارًا لإثارة الوحش وإيقاظه.
وما إن فتح الغطاء ورش الدواء أمام الكهف، حتى أخذت الأصوات تتعاظم.
دُووم… دُووم!
شعر باقتراب فراكن وقد استيقظ تمامًا من نومه.
الاهتزاز الكبير الذي دوّى في الأرض جعل من الصعب حتى أن يقف ثابتًا.
بعد قليل بدأت الصخرة الكبيرة التي كانت تسدّ مدخل الكهف تتشقق.
تشقق– تشقق–
بدأ الشق من الوسط، ثم ما لبثت أن تحطمت الصخرة مع صوت حاد.
تساقطت قطع كبيرة فوق الرؤوس.
قفز إدوين بخفة متجنبًا إياها، ثم دوّى صوت ضخم.
لقد حطّم فراكن المدخل بأكمله.
تناثرت الصخور إلى أشلاء، وتطاير غبار كثيف. ومن بين الشقوق أطلّ وجه الفراكن.
كما هو متوقع، كان جسده هائلًا.
على جبهته قرن كبير، وأذناه المتهيّجتان على جانبي وجهه كانتا ترفرفان.
حين ضرب فراكن بقدمه الأمامية بقوة، بدأ الكهف بالانهيار.
“مر وقت طويل.”
لوّح إدوين بيده بخمول.
بعد سبات الشتاء الطويل كان فراكن في غاية الجوع. تمدد الوحش وأطلق زئيرًا.
سدّ الفرسان أنوفهم مع هدير صوته الصاخب.
“أوه، لا يمكن تجاهل رائحة الفم بعد النوم العميق.”
“يبدو أنها أسوأ من العام الماضي؟”
وكأن الوحش فهم كلامهم، اندفع بإنفعال أكثر إلى الأمام. ثم فتح فاه باتجاه الفرسان.
تحرك الوحش باندفاع كما لو كان سيبتلعهم دفعة واحدة. اندفعت أسنان حادة ولسان أرجواني نحو إدوين.
“ما زلتَ كما أنت.”
نقر إدوين بلسانه بضجر وهو يرى فراكن يكرر ما يفعله كل عام.
قفز عاليًا، وطأ على فك الوحش البارز. ثم في لحظة قفز فوق قرنه.
هز الوحش رأسه منزعجًا من إدوين.
لكن الأخير حافظ على توازنه كأنه يقف على أرض مستوية، وارتقى إلى الأعلى.
وأخيرًا–
تشقق–!!
انغرس سيف إدوين في النواة. كانت نواة الجبهة كبيرة وصلبة.
من دون دقة وقوة حقيقية، كان من المستحيل ضربها. ارتبك فراكن وقد ضُربت نواته، فأطرف بعينيه ثم ترنّح.
لم يخطُ سوى بضع خطوات قبل أن ينهار فجأة ويسقط أرضًا.
غرقت الأرض تحت جسده الضخم، وتطاير الغبار مرة أخرى.
تلاشى جسد الوحش شيئًا فشيئًا حتى صار غبارًا. ثم تشتّت في الهواء واختفى.
“ماذا تفعلون، ألم تسدّوا المدخل مجددًا؟”
“ن- نعم!!”
أسرع الفرسان الذين كانوا يحدقون به مذهولين لإحضار صخور كبيرة وسدّوا مدخل الكهف كما كان.
“لننطلق الآن.”
“من دون راحة؟”
سأل الفرسان الذين أرهقهم صعود الجبل.
“إذن ارتاحوا أنتم فقط.”
نزل إدوين من الجبل من دون أن يبدو عليه أي أثر للتعب. هزّ رأسه، فتطاير الغبار.
‘لا يمكنني أن ألتقي دانا بهذه الهيئة. عليّ أن أستحمّ قبل أن تستيقظ على الأقل.’
كان يفكر بذلك وهو ينزل، حينها–
“إدوين!!”
“…….”
توقف إدوين عن الحركة أمام المشهد غير المتوقع.
امرأة نحيلة كانت تناديه بلهفة.
لقد كان صوت دانا بلا شك.
لا يمكن أن ينسى صوتها.
لكن……
‘خوذة……؟’
لم تكن الخوذة وحدها.
من دون درع، كانت دانا ترتدي خوذة وقفازين معدنيين وهي تركض مترنحة نحوه.
حركاتها الغريبة بدت مثل ضفدع.
“إنها أنا.”
نزعت خوذتها. كان شعرها المرتب دائمًا أشعثًا.
صرخ التابعون خلفها مسرعين بالاعتذار.
“أصرت أن تذهب إلى القائد… لا، إلى السيد إدوين مباشرة……!”
“نعم نعم، لكننا ألبسناها ما أمكن حفاظًا على سلامتها! لم يكن ممكنًا أن تسير بدرع كامل…….”
كانت جرعات استعادة الطاقة بيد الفرسان المتحدثين.
نظرة سريعة من إدوين كانت كافية ليدرك الموقف. لقد جاءت دانا لتبحث عنه.
لأنها قلقت عليه بشدة. عند هذا الإدراك، اتسعت عينا إدوين.
امتلأ صدره بفرح غامر حتى بلغ حلقه.
وبينما كان يهمّ بمناداة دانا– ارتمت عليه وهي تركض.
ذراعان نحيلتان عانقتاه بقوة…
“…….”
فلم يستطع إدوين–
أن يقول شيئًا…
التعليقات