الفصل 18
منذ أن قررت دانا مغادرة منزلها، عقدت العزم على أن تعتني بنفسها.
وكان من ذلك أن تتعلم كيف تتقبل اللطف من الآخرين بسلاسة.
وبعد بضع ثوانٍ من التفكير، ابتسمت ابتسامة مشرقة.
“ماذا تنتظر؟ هيا، ابدأ.”
عندها أشرق وجه إدوين بالفرح. لقد كان قبول دانا لمدّ يده خطوة عظيمة بالنسبة له، فهي لم تعتد لمس الآخرين.
نهض من مكانه وأخذ منشفة ناعمة وجافة. ثم وقف خلف دانا الجالسة على الكرسي.
انصبّ انتباهها كله على ظهرها حيث كان يقف. وجوده خلفها بدا واضحًا وقويًا.
‘لماذا أشعر بتوتر شديد هكذا…؟’
مع أنّها هي من طلبت ذلك، إلا أن جسدها تجمّد من القلق.
بدأ إدوين بهدوء يضغط بالمنشفة على شعرها المبلل.
تساءلت، كيف يبدو وجهه الآن؟ هل يشعر بالتوتر مثلها؟
أرادت أن تراه، أن تتأكد إن كان يتقاسم معها هذا الإحساس الغريب.
كانت أصابعه تمرّ بخفة بين خصلات شعرها، تبتلّ من أثر الرطوبة. ولما مرّ على جانب رأسها، لامست خنصره أذنها دون قصد.
ارتجفت دانا فجأة، وتقلّص جسدها. ملامسته الصغيرة كانت كصاعقة على جسدها المشدود.
ولم يكن إدوين أفضل حالًا. كانت مجرد لحظة عابرة، لكن الموضع الذي تلامسا فيه ظلّ يحترق بحرارة.
حين رفع شعرها الطويل، انكشفت رقبتها الناعمة. كان بياضها يبدو كأنه يحتضن ضوء القمر، متناقضًا مع سواد شعرها.
قطع الصمت صوت إدوين المنخفض.
“شعرك يا سينباي يشبه سماء الليل.”
كان كسماء دافئة تضمّ قلبه.
“حقًا؟ ولكني لم أحب لونه يومًا.”
“ولماذا؟”
إنه بهذا القدر من الجمال، تسائل إدوين وكأنه لا يفهم
“عائلتي كلها شعرها بني. وكنت صغيرة أفكر… ربما السبب في أنني مختلفة عنهم هو لون شعري.”
قالتها دانا كأنها تحكي نكتة خفيفة.
“مجرد فكرة سخيفة.”
“لا بد أنكِ كنتِ يائسة لدرجة أنكِ احتجتِ لسبب تتذرعين به.”
“…..”
“أردتِ أن تكوني قريبة، لكنهم كانوا يدفعونك بعيدًا باستمرار.”
لقد نفذ إدوين إلى قلب الطفلة الوحيدة في داخلها.
ضحكت دانا وأجابت.
“ربما. لقد قالت أمي وأبي أكثر من مرة إن لون شعري يثير اشمئزازهم.”
اشتعل قلب أدوين غضبًا مرة أخرى من أهلها الذين لم يَرَهم قط. كيف يمكن أن يرفضوا فتاة ذكية وجميلة مثلها؟
‘أهكذا هو جوهر العائلة…؟’
ولحسن الحظ أنها لم ترَ وجهه البارد لحظتها. لكن سرعان ما تلاشت حدته مع كلماتها التالية.
“لكن… أنت قلت إنه يشبه سماء الليل، صحيح؟”
استدارت بجسدها نحو إدوين، ترفع عينيها الصافيتين إليه.
“حين أكون معك، أشعر وكأنني أصبحتُ إنسانة أفضل.”
كان شعرها كالليل، وعيناها الزرقاوان كنجوم تتلألأ.
ابتسامتها المشرقة انسكبت عليه كالضوء.
ابتسم إدوين عندها ابتسامة صافية كفتى صغير.
“أنا لا أقول إلا الحقيقة.”
فكل ما قاله وفعلَه نحوها كان صادقًا، مِلؤه المودّة.
وبينما كانت قد وعدته أن يسهرَا يتحدثان طوال الليل، غلبها النعاس مع بزوغ الفجر. بدت منهكة من أعمال النهار وإرهاقه.
اقترب إدوين منها برفق، ورفعها بين ذراعيه. ثم وضعها بعناية على السرير، وهيأ لها فراشها.
مسح خصلة سقطت على خدها هامسًا.
“تصبحين على خير يا دانا.”
وبعد قليل…
بينما كان ينظر إليها بحنان وهي نائمة، انعقد حاجباه فجأة.
فقد سمع في الردهة خطوات متعثرة وغبية تقترب.
كان إدوين شديد الحساسية لوجود الآخرين.
فقد وُهب سمعًا حادًّا بالفطرة، وزاده تدريب الفرسان صقلًا وحدّة.
ربما حاول الطرف الآخر أن يخفي أثره، لكن ذلك لم ينطلِ على إدوين. خطوات الأقدام أخذت تتباطأ شيئًا فشيئًا.
كلما اقتربت من غرفته، دلّ ذلك على تردّد صاحبها.
لم يحتمل إدوين سماعها أكثر، فنهض من مكانه.
كان يؤسفه أن لا يتأمّل دانا بعد الآن.
فارتدى ملابسه بحذر شديد حتى لا يوقظها.
وما إن فتح الباب، وجد كما توقّع، اثنين من مرؤوسيه واقفين.
“القائد…!”
غير أن نداءهما الملهوف انقطع عند نظرة إدوين الباردة كالثلج.
أغلق الباب خلفه بإحكام قبل أن يسأل بفتور.
“ما الأمر؟”
تردد أحدهما قبل أن يهمس.
“إنه… فراكن.”
“أعرف. ما أقصده، لماذا أتيتم باكرًا هكذا؟”
“لكننا دائمًا نخرج في مثل هذا الوقت…”
تركهما يتذمّران وراءه، وتقدّم هو بخطوات ثابتة.
***
كانت أشعة الصباح تتسلل عبر النافذة حتى السرير. داعبت خيوط الضوء وصوت العصافير ملامح دانا.
“ممم…”
فركت عينيها بتململ، لكنها سرعان ما شعرت بغرابة المكان.
هذا لم يكن غرفتها المألوفة.
‘آه… صحيح! لقد جئت في مهمة عمل.’
وبينما كانت تسترجع ما حدث البارحة، قفزت فجأة واقفة.
لقد نامت بسلام في غرفة رجل آخر!
أسرعت بترتيب ثيابها المبعثرة.
“آسفة، لقد غلبني النوم أولًا.”
وما زاد ارتباكها أنها رأت نفسها على السرير… ما يعني أنّ إدوين هو من رتّب لها الفراش.
همّت أن تعتذر أكثر بوجه أشدّ خجلًا، لكنها اكتشفت أن الغرفة ساكنة على نحو مريب.
“…إدوين؟”
لم يكن في الغرفة كما يفترض.
غسلت وجهها على عجل وارتدت ملابسها، ثم نزلت إلى ردهة النزل.
هناك، استقبلها المدير باعتذارات متلعثمة.
“المعذرة… لقد تعطّل جهاز ضبط الحرارة فجأة…”
“لا بأس، لم يكن الأمر بيدكم.”
“شكرًا لتفهّمكِ.”
“لكن… ألم ترَ الموظف الذي كان برفقتي؟”
“آه، تعنين ذلك السيد الوسيم، صاحب الابتسامة الساحرة والهيبة اللافتة؟”
“…نعم.”
لقد ترك إدوين أثرًا عميقًا حتى في المدير من دون قصد.
“ذلك الرجل خرج فجرًا.”
“فجرًا…؟”
“نعم، غادر مع فرسان الفيلق.”
رمقتها الدهشة، فهي لم تجد سببًا يجعل أحد موظفي قسم السحر يغادر مع الفرسان في هذا الوقت المبكر.
حينها، عادت إلى ذهنها كلماته بالأمس.
‘لقد ذهبت إلى الفرسان. قالوا إن لديهم ما يطلبونه مني.’
مستحيل… أيمكن أن يكونوا قد جرّوه إلى عمل انتقامي؟
اجتاحها القلق فجأة.
فإدوين، ذاك الشاب البشوش البريء، قد لا يعرف كيف يرفضهم.
“…شكرًا لك.”
غادرت مسرعة متجهة إلى مقرّ فرسان الرون.
خطواتها ازدادت استعجالًا كلما اقتربت. رأت الفرسان منشغلين؛ بعضهم يكنس الثلج المتراكم، والبقية يقفون حُرّاسًا.
أسرعت نحو أحد الحرس، فارس قصير ممتلئ الملامح.
سألها باستغراب.
“هاه؟ أليست نوبتكِ في المساء عادةً؟”
“صحيح، لكن… ألم ترَ الموظف الذي كان برفقتي بالأمس؟”
“آه، تعنين ذلك الرجل الفظّ الطبع…؟”
فظّ الطبع؟ لم تَرَ دانا شخصًا أكثر ودًّا من إدوين!
انعقد حاجباها استنكارًا.
بينما كان الفارس هاريوت يحاول تذكّر ما أوصاهم به القائد.
لقد أمرهم ألّا يكشفوا هويته. بل طرح عليهم ‘لعبة’ مخيفة… ذكّرته بخبز أسود محروق لطالما اضطر إلى سدّ فمه به في الماضي.
شحب وجه هاريوت فجأة، فاستغربت دانا نظرته.
ثم قال متلعثمًا.
“آه، هو… خرج معنا في مطاردة وحش سحري!”
“وحش…؟”
“نعم، لقد طلبنا مساعدته.”
اعتبر هاريوت أن هذا التوضيح البسيط كافٍ.
لكن ما لم يتوقّعه أن يتبدّل وجه دانا سريعًا إلى قناع بارد.
ويا لسوء حظه، كان هو الأبعد عن الفطنة بين الفرسان.
“أيّ وحش؟”
“المخلوق المريع… فراكن! لقد خفنا جدًا، فطلبنا منه أن يرافقنا.”
كان يتحدّث ببساطة لا تحتمل. فانفجرت دانا غاضبة، وانهارت قشرتها الاجتماعية التي بنَتها طويلًا.
“هل فقدتَ عقلك؟ كيف تجرّ أحد الموظفين العاديين إلى مثل هذا؟!”
“أ-أرجوكِ لا تغضبي… لقد كنا مرعوبين فحسب!”
عرفت دانا أن إدوين رقيق القلب، يستحيل أن يرفض. حتّى في المأزق، لا بد أنه وافق مجبرًا.
فغصّت بعاطفة القلق، تعضّ على شفتيها بقوة.
التعليقات