الفصل 17
ليلة ثلجية.
غرفة يلفّها السكون.
لكن ما كان أكثر هدوءًا من ذلك هو الجوّ الذي ساد بين الاثنين.
شعرت دانا أن قلبها يدغدغ حتى بات يؤلمها. غصّ حلقها، واندفعت مشاعر لا تُحتمل نحوها.
رأى إدوين ملامحها، فبدت على وجهه الجديّة.
فقد كانت عادةً هادئة، لكن هذه المرة لم يكن الأمر عاديًا.
نظر إلى عينيها اللتين أوشكتا على البكاء وسألها.
“……هل حدث شيء؟”
هزّت دانا رأسها نافية.
“ليس ذلك…….”
ثم رفعت رأسها ونظرت إليه.
“لقد كان الأمر باردًا جدًّا طوال هذا الوقت.”
أمعن إدوين النظر في عينيها صامتًا. كان يحاول جاهدًا أن يقرأ مشاعرها، ولو كانت رقيقة كزغب الريش.
وفي لحظات قصيرة، عبر على وجه دانا طيف من المشاعر الكثيرة.
عيونها التي بدت حزينة، بل شديدة الوحدة، استعادت هدوءها شيئًا فشيئًا. ثم نحو إدوين–
“…….”
ابتسمت ابتسامة مشرقة كفيلة بأن تقطع أنفاسه.
كانت مشاعرها متقلبة، تتناثر في كل لحظة. ولم تكن تعلم كم كانت تلك المشاهد تأسر قلب إدوين بقوة.
حدّقت عيناها الزرقاوان فيه مباشرة.
“لكن الآن لا بأس.”
وصل إليه صوتها المرتعش قليلًا.
“لأنكَ جئت.”
شعرت دانا بحدس أكيد. أن المشاهد التي طالما انبثقت فجأة منذ طفولتها–
لن تعذّبها بعد الآن.
“هل أنتِ حقًا بخير؟”
كان وجه إدوين غير مطمئن. فمنذ قليل، كانت دانا تبدو وكأنها ستبكي لو لامسها أحد.
ابتسمت دانا مجددًا.
“إدوين، أنا بردانة، هل ستتركني هكذا؟”
“آه، آسف.”
ثم أخبرها بما قاله المسؤول.
“يبدو أن التصليح لن يتمّ قبل صباح الغد. حتى الأطباء جميعًا يتشاركون الغرف.”
“حقًّا؟ هذا أمر سيئ.”
“يمكنكِ أن تبادلي غرفتكِ معي، سينباي..”
قطّبت دانا جبينها من اقتراحه وكأنه أمر عادي.
“لكن عندها ستشعر أنت بالبرد.”
لم يعرف إدوين في حياته معنى البرودة.
فقدرته النارية دائمًا ما أبقت حرارته مرتفعة.
“أنا لا أشعر بالبرد أصلًا…….”
“إذن، هل تودّ أن نتشارك الغرفة معًا؟”
اتسعت عينا إدوين دهشة من قولها.
غرفة واحدة مع دانا…… لم يكن يتوقع ذلك أبدًا. احمرّ وجهه بسرعة كبيرة.
ابتسمت دانا بخفة وهي ترى تعابيره المربكة بوضوح.
“لنقضِ الليل نتحدّث فحسب.”
الحديث معها طَوال الليل……!
لكن حتى هذا لم يخفف اضطرابه. كان رأسه خفيفًا وكأنه يطفو.
وفجأة لاحظ أن كتفي دانا ترتجفان.
“هيا بنا إلى غرفتي بسرعة، ستصابين بالبرد.”
“هممم، لكن دعني أرتدي شيئًا أولًا.”
شيئًا؟ عندها فقط تنبّه إدوين لهيئتها. حين دخل، أسرع بتغطيتها بالبطانية ولم يلتفت لما كانت ترتديه.
ومن بين ثنايا البطانية بان رداؤها المخصص للاستحمام.
تجمّد جسده فجأة. وسرعان ما حوّل بصره إلى وجهها.
لكن قطرة ماء انزلقت من شعرها المبلل.
سقطت على وجنتها ثم انحدرت على عنقها الناعم. حدق بها إدوين وهو مفتون بالكامل.
وامتد الاحمرار من وجهه إلى عنقه وأذنيه. كأن جسده كله اشتعل.
أدار رأسه بسرعة، وقال بصوت جاف متصلب.
“……إذن ارتدي ثيابكِ وتعالي إلى غرفتي.”
ثم دوّى في الممر وقع خطواته المتعجلة وهو يبتعد.
نظرت دانا إلى مكانه الفارغ لحظة، ثم ابتسمت لنفسها.
‘أهو يتصرف هكذا فقط لأنه رآني برداء الاستحمام؟’
رغم أنه يقترب منها عادةً بلا تردد، إلا أنه بدا خجولًا حين لم يكن مستعدًا.
أما إدوين فكان……
واقفًا أمام باب غرفته مذهولًا.
يده كانت تنزلق مرارًا وهو يحاول إدخال المفتاح.
وبعد محاولات كثيرة، دخل أخيرًا. أخذ يتجول متوترًا بلا هدف، ثم أمسك بزجاجة ماء.
صبّ لنفسه في كوب وشربه بسرعة، لكن الحرارة لم تهدأ.
جلس على سريره مثقلًا. ثم مسح وجهه بيديه.
تنفّس بعمق. كان رأسه مضطربًا.
لم يعرف كيف مشى أو حتى كيف وصل إلى غرفته.
حينها– دوّى صوت طرق على الباب.
“إدوين، إنّها أنا.”
عند سماع صوت دانا، انتفض إدوين واقفًا. ثم تنحنح، محاولًا تهذيب صوته.
أراد أن يتجنب أي شعور بالحرج قدر الإمكان.
ما إن أدار مقبض الباب حتى ظهرت دانا مرتدية ملابس منزلية خفيفة.
“تفضّلي بالدخول، سينباي.”
تظاهر إدوين بالهدوء وهو يبتسم. لكن دانا كتمت ضحكتها حين رأت حمرة أذنيه البادية بوضوح.
“هممم، شكرًا لك. بفضلك، أظن أن هذه الليلة ستكون دافئة.”
كلماتها الصادقة جعلت ملامح وجه إدوين تسترخي بلطف.
أجلسها برفق على السرير الناعم. وفي تلك اللحظة، تفحّصته دانا بعينيها.
“هل خرجت؟ لماذا لا تزال بزيّك؟”
كان يرتدي الزيّ الرسمي ذاته الذي يخرج به للعمل. أخذ إدوين لحظة ليختار كلماته.
“ذهبتُ إلى الفرسان. كان لديهم أمر يطلبونه.”
“وماذا عساه يكون الشيء الذي يطلبونه من مسؤول جاء من العاصمة؟”
“لم يكن بالأمر المهم.”
كل ما في الأمر أنهم طلبوا منه أن يصطاد وحشًا.
“إذن عليك أن تسرع بالاغتسال. يبدو أنني أبقيتك مشغولًا لوقت طويل.”
“بل أنا من أبقاكِ مشغولة.”
قال ذلك وهو يلتقط بعض الملابس ليذهب للاستحمام.
“إذن أسرع بالاغتسال. سأنتظرك هنا.”
“……حسناً.”
دخل إدوين إلى الحمام على عجل.
أمالت دانا رأسها وهي تراقبه يختفي بسرعة. ثم خطر في بالها أمر فجأة.
‘أسرع بالاغتسال. سأنتظرك هنا.’
كانت كلمات أشبه بما يقوله الأزواج حديثو العهد.
‘يا إلهي، ماذا قلتُ للتو؟’
وفوق ذلك، قالته وهي جالسة على السرير…!
غطّت دانا فمها بكلتا يديها.
ارتجفت عيناها الزرقاوان بارتباك.
وبينما تلوّح بيديها كمن يهوّي عن نفسه، انتصبت واقفة فجأة.
ثم شربت ماءً كما فعل إدوين من قبل.
وما إن همّت بالعودة إلى السرير حتى ترددت، وجلست أخيرًا إلى الطاولة.
لم تمضِ لحظات حتى فُتح باب الحمام، وتقدّم إدوين نحوها.
كان شعره المبلل مبعثرًا، وقامته مكسوّة بقميص رقيق بدا مريحًا.
لقد كان مشهدًا جديدًا مغايرًا لصورة وقاره المعتادة. وبينما هدأ حَرّ جسدها بصعوبة، فتحت دانا فمها.
“مظهر جديد، أليس كذلك؟ تبدو مرتاحًا أخيرا.”
“هل أبدو هكذا حقا؟”
كان إدوين دائمًا يريد أن يُريها أجمل صورة عنه.
وعندما سألها بخجل، انفجرت دانا ضاحكة.
“تبدو لطيفًا. هل كنتَ تنوي ارتداء بزتك الرسمية حتى في النُزُل؟”
“إن رغبتِ بذلك يا سينباي.”
كان واضحًا عزمه على أن يبدو جميلًا في نظرها كيفما كان. طرقت دانا الطاولة بأصابعها، فجلس قبالتها.
ثم تابعت قائلة.
“سمعتُ أن العلاقة تزداد عمقًا كلما كان الطرفان أكثر صراحة.”
“مثل ماذا؟”
“أقصد أنك لست مضطرًا أن تتصنّع كي تُعجبني. فهذا المظهر أيضًا أنت.”
‘آه…’ هزّ رأسه متفهمًا.
“إذن… هذا يعني أنّ حتى هذه الهيئة تعجبك.”
“لماذا تُحرّف كلامي هكذا؟”
“فهل تكرهينها إذن؟”
“لا.”
رفع كتفيه كأنه يقول: أرأيتِ؟
وبتلك الحجّة الماكرة لم تتمالك دانا نفسها من الضحك.
وبعد مزحة وضحكة عادت الأجواء بينهما إلى راحتها السابقة.
وانبعث من الاثنين عطر الصابون بعد أن أنهيا استحمامهما.
وبعد يوم طويل، مع دفء الغرفة بعد الحمّام، أخذ جسد دانا يذوب في استرخاء.
ألقى إدوين نظرة مطوّلة عليها وهي تسترخي على الكرسي.
“ما الأمر؟”
“أخشى أن تصابي بالبرد.”
اتجهت عيناه إلى شعرها المبلل.
“لقد خرجتِ على عَجل فلم تجففيه جيدًا على ما يبدو.”
لم تبالِ دانا، وأخذت تعبث بخصلاتها.
“لا بأس… يمكنني تجفيفه الآن.”
“سينباي.”
ناداها إدوين وهي تبحث عن منشفة.
ثم مال بجسده نحوها في تراخٍ، حتى ضاق البعد بينهما بسبب الطاولة الصغيرة.
وتحرّكت شفتاه ببطء.
“هل تسمحين لي أن أفعل ذلك لكِ؟”
“أ-أنت؟”
“نعم.”
“… ولماذا؟”
“فقط… لأني أود أن أفعل أي شيء من أجلك يا سينباي.”
كان إدوين دومًا يُريها لطفًا لا يطلب ثمنًا.
حتى أمها كانت تطلب المال في مقابل تقديم كوب شاي دافئ.
أما دانا فكانت — من الناحية العملية — نبيلةً سقط شأنها.
وبما أنها كانت تتولى شؤون المنزل كلها بنفسها، فكيف يمكن أن يكون لها خادمة خاصة؟
ولهذا كانت معتادة على أن تجفف شعرها بنفسها.
فلم تعرف قط معنى يدٍ أخرى تعتني بها، حتى لو كانت لمجرد الواجب.
ولذلك كان هذا العرض… غريبًا على قلبها.
وبينما ترددت قليلًا، ظلّ إدوين صابرًا ينتظر جوابها.
وفي النهاية… اتخذت قرارها.
التعليقات