1
الذئب الأسود (1)
“يَزدادُ بَريقُ مَلامِحِكُم يَومًا بَعدَ يَوم.”
التفتَ البارون فيرو، الّذي كان يُلقي نظراتٍ جانبيّةً نحو الخادمات المارّات، إلى كاونت نُوفُك فابتسمَ وهو يفتحُ فاهُ.
في الخلفيّة، كانت موسيقى فرقةٍ صغيرةٍ تنسابُ بهدوء، تُخالِطُها أصواتُ ارتطامِ الكؤوس وضحكاتٌ مُتفرّقة لا تنقطع.
“أيُّ بريق؟ يجبُ أن ينتهيَ الحَربُ في أسرعِ وقت. إنّهُ أمرٌ عَظيم.”
كان التّابعون الّذين يَحمُون إقليم دوق سايد مجتمعين معًا.
أمّا السّيّد نفسه فقد خرجَ إلى ساحة المعركة، بينما كان أتباعه في حفلة!
خفضت أنجي نظرها وهي تضعُ طبقًا من لحمِ البطّ البارد على الطّاولة بحذر، ثُمّ أسرعت بالتّراجع إلى الوراء. واتّخذت لنفسها مكانًا في زاويةٍ لا يلتفتُ إليها أحد، تُفتّشُ بعيونٍ حذرةٍ أرجاءَ قاعة الحفل.
لكن الغريب أنّ حروفًا عجيبةً كانت تطفو فوق رؤوس النّاس.
فأنجي وحدها مَن يُمكنها أن تراها. وكلّما لامست نظرتُها رأسَ أحد، أضاءت تلك الحروفُ كأنّها تُشعِل نارًا خفيّة.
كانت الحروفُ تُسجّل سنة وشهر ويوم وساعة ميلاد الإنسان على هيئة رموزِ اليِن واليَانغ والعناصر الخمسة.
بمعنًى آخر: إنّها “مانسيريك” – دفترُ الأقدار، يَكشفُ عن طبع الإنسان ومسار مصيره.
وبينما كانت أنجي تُعيد هذه المعلومات في ذهنها وتتأمّل الحاضرين، توقّفت فجأة.
الرّجل الّذي التقت عيناه بعينيها، البارون فيرو، أومأ نحوها بابتسامةٍ فاتنة.
لو كانت خادمةً عاديّةً في عُمرها، لَخَفَق قلبها لمثل هذا السّحر.
لكنّها لم تكُن خادمةً عاديّة.
وما إن قرأت “مانسيريك” البارون حتّى تجمّدت ملامحها قليلًا.
‘أيُّ مجنونٍ هذا…! هذه أوّلُ مرّةٍ أشعرُ أنّني أُريدُ أن أبصُق في وجهِ مبتسم.’
إنّها حياتُها الثّانية.
ففي حياتها الأولى، بلغت ذُروة علم “الأقدار” وهي بعدُ صغيرة، وكان النّاس يتهافتون عليها يَرجُون لقاءها ولو مرّة.
لكن ماذا جَنَت؟ لقد ماتت ميتةً باطلة وهي تُحاوِل إنقاذَ حيوانٍ صغيرٍ ركضَ إلى الطّريق.
فلعلّ هذه الحياةَ الجديدة كانت تعويضًا عن تلك النّهاية الظّالمة.
إذْ وُهِبَت لها قدرةٌ خاصّة: أن ترى “مانسيريك” النّاس، وما يرتبط به من مصائر.
وبينما تتأمّل “مانسيريك” البارون المُعلّق فوق رأسه، أسرعت أنجي تُشيحُ ببصرها لتُخفي وجومها.
‘فوضى في نِعَمِ المال والنّساء.’
أي إنّه سيُلازِمُه شَغفٌ بالنساء، زوجاتٍ وعشيقات، فيعيشُ صاخبًا لا يهدأ. وهؤلاء الرّجال يَسرفون في اللّطف حتّى مع مَن لا يَهوَونَهُنّ، وكأنّه داءٌ مُستعصٍ.
‘ما أسوأه من شُؤم أن تلتقي عيني بمثلِ هذا.’
ولمّا أعرضت عنه، قامَ البارون من مكانه وجعل يذرعُ القاعة جيئةً وذهابًا ليَجذُبَ نظرها. فحَجَبَ عنها رؤيةَ بقيّة “مانسيريك” الحاضرين.
“لا أرى شيئًا… ابتعد قليلًا!”
تذمّرت أنجي في نفسها.
كان قلبها يَشتعلُ شوقًا لأن تُنهي عملها وتعود إلى منزلها. فمُجرّدُ هذه القدرة ينهكُ روحها بسرعة، كأنّ قوّتَها تتسرّب منها وهي ساكنة.
لقد استدعاهَا بيتُ دوق سايد لِتَكشفَ لهم جواسيسَ مُتخفّين.
وبجمع ما أتى به أعوانها من معلومات، تيقّنت أن أحد أتباع هذا البيتِ الحاضر اليوم جاسوس.
لكن بينما تَعملُ جاهدةً، جاء البارون يُعكّرُ صفو الماء.
وفي اللحظة الّتي كادت ملامحها تَتوترُ فيها، علا صوتٌ يوبّخ البارون:
“بارون فيرو، اجلس مكانك. تُشوّشُ على النّاس.”
كان القائل كاونت نُوفُك. ويُقال إنّ بيتَهُ يَسطعُ نجمُه في غيابِ دوق سايد عن أراضيه مُحاربًا. رجلٌ ذو كفاءةٍ وحُسن سياسة.
“آه، المعذرة. إنّما نهضتُ لأنّي رأيتُ وجهًا لطالما اشتقتُ إليه.”
قال البارون مُعتذرًا والتفت نحو أنجي بلَوعةٍ مُصطنعة.
فانجذبت بعضُ النّظرات الفضوليّة نحوها، لكنّها سُرعان ما انصرفت.
“ألا ترى أنّه آن أوان أن ترعوي؟ على الأقل في بيتي هذا، كفَّ عن نزواتك.”
نزوات؟ لو حَكمنا بلسان الأقدار، فلن يكفّ عن طبعه ذاك حتّى يَهلكَ شيخًا.
نقرت أنجي بلسانها في سرّها، ثُمّ عادت تُطيلُ النّظر في الكاونت.
حاجبان كثّان، عينان نافذتان، وجبهةٌ متصلّبة تُوحي بالعناد. لكن “مانسيريك” الّذي قرأته فوق رأسه أدهشها.
‘غريب…!’
ظاهره نقيّ كالمرآة، لكن باطنه طمّاع جَشِع.
غير أنّ كلّ تقارير أعوانها مدحت نُوفُك. قالوا إنّه صادقٌ عادلٌ في أعماله، شديدُ الاستقامة. وإن لم يُعِب عليه النّاس سوى كثرة إصابات زوجته وبناته، فبيتُه مُطمئنّ مُستقرّ.
‘هُمم…’
فما الّذي يُسقِط نساءَ البيت جميعًا مرارًا؟ وفي بيتٍ أرستقراطيٍّ مملوءٍ بالخدم!
ضاقت عينا أنجي. هذا الحفلُ جمع خيرة نبلاء الإقليم.
‘فيهم المُتردّد والمُرتاب، فيهم المُتأثّر بكلام غيره، فيهم الخائف الضّعيف…’
كثيرون يستوجبون الشّك. لكن عينَيها عادت تستقرّ على نُوفُك.
أن يَضرِبَ زوجته وبناته لا يعني بالضّرورة أنّه يخون سيّده. بل ولم تملك بعدُ أيّ دليلٍ على سوءِ خُلقه.
مع ذلك، لم تستطع أن تُزيح نظرها المُرتاب عنه.
وانتقلت الموسيقى إلى إيقاعِ رقص.
ازدحمَت القاعة بدخول النّاس إلى ساحة الرّقص، وفي خضمّ الاضطراب أبصرت أنجي البارون فيرو يتّجه نحوها. فتراجعت إلى الوراء مسرعة.
وبعد أن ألقَت نظرةً أخيرة على “مانسيريك” الكاونت، اختفت بين الحشود.
“اذهبي إلى المطبخ، وأحضري مزيدًا من السندويش والجمبري.”
“نعم، حاضر.”
انحنت أنجي مُطيعةً لأوامر رئيسة الخادمات، وانسَلّت خارج القاعة.
لم يَعنها أمرُ الجمبري، فقد أشارت بعينيها لأعوانها المُتخفّين في زوايا القاعة، فانطلقوا كالأشباح.
صَعِدت إلى الطّابق الرّابع، حيث مكتب الكاونت. فتقدّم أحد أعوانها وألهى الحارس بمهارة.
وفيما الحارس مُنشغل، دخلت أنجي خفيةً.
كان المكتبُ معتمًا بستائر ثقيلة، لا ينوّره سوى مصباحٍ صغيرٍ على الجدار.
وبعد أن اعتادت عيناها الظّلمة، تفحّصت المكتب: قارورة حبر، ثِقالة أوراق، أقلام. لا أثر لوثائقٍ مهمّة.
‘من المستحيل أن يترك مستندًا سرّيًّا على مرأى العين.’
تمتمت تُخفي خيبتها، وشرعت تفتح الأدراج. لم تجد سوى سيجار فاخر. ولا خزنة في الغرفة.
“آه… لا يُعقل. هل عليّ العودة أدراجي؟”
لكن ملامحه لم تُبشّر بخير.
تنفّست بعمق، وأخذت المصباحَ تُضيء به الأركان. ولدى اقترابها من رفّ الكتب، ارتعش ضوء المصباح فجأة، كأنّ نسمةً مرّت.
“ها؟”
اقتربت تُثبّت المصباح، فإذا باللهب يرقص في بقعةٍ بعينها.
‘هُنا شيء مخفي!’
دفعت الكتب، لكن الرّفّ الضّخم لم يتحرّك.
‘آه… لم تكُن حياتي سهلة يومًا.’
مسحت عرقها وهي تُتمتم، فإذا بالرّف يَميل فجأة وهي متّكئة عليه.
كادت تسقط، لكن توازنت في اللّحظة الأخيرة. وتكشّف أمامها ممرّ سرّي يؤدّي إلى غرفةٍ أُخرى.
وهناك… كنوزٌ تتلألأ: جواهر، سبائك ذهب، وسِجلٌّ سميك.
فتحت السّجلّ، وإذا بورقةٍ غريبة تنزلق منه.
‘ما هذا؟’
حروفٌ أجنبية، عباراتٌ مبهمة بلا معنى. حاولت تقليبها، لكن عبثًا.
‘طبعًا، لا بدّ أن تكون مُشفّرة.’
قرّرت أن تحتفظ بها، علّها تنفعُ يومًا. ومعها أيضًا أدلّة خيانة الكاونت. لقد باع أسرار الدوقيّة للمملكة.
‘حان وقت الانسحاب.’
—
بعد أن أتمّت مهمّتها بنجاح، تسلّمت أنجي أجرةً وافرة.
“صفقةٌ جميلة!”
ضحكت وهي تهزّ كيس النّقود.
لقد مضى عام منذ أن أسّست مكتب “الذئب الأسود”. لم يعد مجرّد اسم، بل صارت سُمعته تملأ الآفاق: لا عَقدٌ يُخفق، لا مهمّةٌ تَفشل.
من نزاعات الأزواج إلى فقدان الأبناء في الحرب، كلّ شيءٍ يُحلّ. والناس لا يعرفون مَن هو قائد “الذئب الأسود”، فيزداد السّحرُ غموضًا.
وإن كان أجرهم باهظًا، فخدماتهم لا تُضاهى. حتّى دوق سايد استعان بهم.
“أوّلًا… لِنسدّد بعض الدّيون.”
مزّق خروجُ النّقود قلبها، لكن بقيَ ما يكفي. والآن آنَ أوانُ الانتقال من هذا الحيّ القذر إلى مكتبٍ أرقى.
غير أنّ المكاتب المتاحة بائسة. زبونٌ غير راضٍ، ووسيطٌ عقاريّ يَمدح المكان بلسانٍ كذّاب.
لكنّها لم تَقبل خِداعه. فاوضته حتّى أنزلت الإيجار إلى الفضّة.
وحين أراد التهرّب، كشفَت “مانسيريك” فوق رأسه: نورٌ مُلوّث، رمزُ خيانة.
ثمّ لمّا استشعر أنّها طفلةٌ ضعيفة، حاول الاعتداء عليها بسكّين.
تفادته، لكن ثوبها أعاقها. ورشّ في وجهها مسحوقًا مُخدّرًا.
“لَعنَت الله عليك…!”
تساقط وعيها شيئًا فشيئًا، بينما قبضته تشدّ على عنقها.
دوّيَ صوتٌ مُفاجئ!
وتحرّرت رقبتها. فتحت عينيها نصف فتحة، فرأت رجلًا ذو شعرٍ فضّيّ يسطع، يَصرعُ المعتدي بيدٍ واحدة.
“غ… راي؟”
لم ترَ سوى بريق شعره وعبوس حاجبيه، قبل أن يَنغلق وعيها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 1 - الذئب الأسود منذ 13 ساعة
التعليقات لهذا الفصل " 1"