ما إن دخلت “لين” إلى المطبخ، حتى شعرت بأن عشرات العيون الفضولية تحدق بها من كل صوب. آه… من قال إن هذه ليست أوروبا قبل أكثر من ألف عام؟! لو كنا في الحاضر، لوجدت في شوارع أوروبا الكثير من أصحاب العيون السوداء والبشرة الصفراء، مثلها تمامًا، ولما كانت الآن محط الأنظار وكأنها قردة معروضة في قفص.
ومع ذلك، وعلى الرغم من فضول الجميع، فقد كانوا لطفاء معها، وأخرجوا لها الطعام ليكرموها. كانت قد بلغت من الجوع مبلغًا شديدًا، فالتقطت قطعة خبز وبدأت تأكل بشراهة. بصراحة، لطالما اعتبرت خبزهم سيئ المذاق، إذ أنه خشن ولا يحتوي على حليب، وله نكهة حامضة غريبة. ولكن الآن، في لحظة الجوع القاتل، بدا لها كأنه ألذ طعام في العالم…
لم تتوقف عن الأكل حتى شعرت بالشبع الكامل، ثم وضعت يدها على بطنها المنتفخة بارتياح، وقررت أن تذهب للبحث عن “آرثر”، فلا بد أنه قد أنهى طعامه الآن.
فجأة، دخلت إحدى الخادمات المطبخ بحماسة، وقالت وهي تكاد تقفز من فرط الحماس:
“أيتها الفتيات، لن تصدقن! لقد رأيت الآنسة إدانا تسير برفقة الأمير آرثر في اتجاه الحديقة!”
“حقًا؟!” صاحت بقية الخادمات بفضول كبير.
“أجل، ويبدو أن الآنسة إدانا هي من بادرت بدعوته!”
“لم أكن أظن أن سيدتنا قد تقع في الحب…”
“الأمير آرثر هو أجمل وألطف رجل رأيته في حياتي، من الطبيعي أن تقع أي فتاة في حبه…”
“نعم، ابتسامته… يا إلهي، وكأنه ملاك نزل من السماء!”
هنا لم تتمالك “لين” نفسها، فبصقت رشفة الحساء التي كانت في فمها. “لطيف؟ ملاك؟” كادت تنفجر من الضحك، هل يتحدثن عن ذلك الشخص بالذات؟! هؤلاء النسوة مسكينات، خدعهن مظهره المزيف!
وبينما استمر الخادمات في أحاديثهن المشوّقة، تسللت “لين” من المطبخ خلسة. وحين انعطفت عند زاوية الجدار، رأت أمامها شخصية مألوفة.
“ميتا!” نادت بصوت خافت وهي تلوّح بيدها، ثم أسرعت نحوها، لتلاحظ أن بجانبها فارس شاب وقور.
أومأ لها الفارس بتحية مهذبة.
تأملته “لين ” قليلاً، ثم قالت:
“أهذا هو الفارس برياس؟”
رغم أن ملامحه كانت شاحبة، إلا أن وسامته وأناقة ملامحه لم تكن تخفى، بدا فارسًا نبيلاً بحق. ومع ذلك، إن قارنّاه بآرثر، فإن برياس يفتقر إلى شيء ما، سواء في الجاذبية أو الحضور…
ربما لهذا السبب وقعت إدانا في حب آرثر…
“أين أختي؟” سألت ميتا.
أشارت “لين” بعينيها إلى الحديقة وقالت بصوت خافت:
“تبدو وكأنها… في موعد غرامي.”
تغير وجه برياس للحظة، لكن ميتا سحبته من يده، وقالت:
“فلنذهب ونلقي نظرة.”
في ضوء القمر الصافي، بدأ الثلج يتساقط برقة، متلألئًا ببريق فضي ناعم، وكأن الأرواح تراقصت في الهواء، تدب فيها الحياة في ليلة شتوية هادئة.
انتشرت رائحة الثلج النقي في أرجاء الحديقة.
وما هي إلا لحظات، حتى أبصروا تحت شجرة صنوبر ضخمة، الأمير آرثر يقف برفقة الآنسة إدانا. كان الاثنان يتحدثان بانسجام شديد، وابتسامة هادئة تعلو وجه آرثر، وبهيئته تحت ضوء القمر، بدا كأنه فتى أسطوري من أساطير الإغريق.
هل هذا الرجل حقًا هو آرثر؟! تمتمت “لين” وهي تفرك عينيها. لقد… ابتسم؟!
“من هذا الرجل؟ عمّ يتحدثان؟” تمتم برياس وهو يعبس، وعلامات الغيرة واضحة على وجهه.
قالت له “لين” بخفوت:
“إن كنت تريد سماع حديثهم فلا تتحرك.”
ثم اقتربت من الحوض المزهر، وألقت نظرة.
هل هؤلاء الناس لا يشعرون بالبرد؟! حتى الغزل اختاروا له ليلة كهذه… هكذا هم، وها هي تتجمد معهم!
لكنها لم تكن تسمع جيدًا، فتمتمت بتعويذة لتحريك الرياح، لتعلو نسمة خفيفة حملت معها كلمات الحديث:
“يا صاحب السمو، مثلك رجل نبيل وفذ، لا بد أن يكون قويًا في الفروسية أيضًا، حقًا من النادر أن توجد امرأة تستحقك.”
“لا أظن ذلك، فالآنسة إدانا من أجمل النساء اللواتي رأيتهن.”
ضحكت إدانا بخفة، ثم قالت:
“إذاً… هل تظن أنني أستحقك؟”
ما إن نطقت بهذه الكلمات، حتى اندفع برياس من خلف الحوض كالسهم، وصرخ:
“باسم الرب، أنا الفارس برياس أتحداك، يا آرثر، في نزال من أجل هذه السيدة النبيلة!”
شعرت “لين” بشيء غير طبيعي، فقد كان وجه إدانا عند رؤية برياس خاليًا من أي نفور، بل بدا مشحونًا بمشاعر يصعب تفسيرها.
أخرجت ميتا زهرة الكاميليا البيضاء من جيبها، وقالت:
“ألم تقولي يا أختي، إنك ستقابلينه إن جلب لك هذه الزهرة؟”
ابتسمت إدانا بسخرية، وقالت:
“برياس، لم أظنك ستفعلها حقًا… يا لك من أحمق، لكن يبدو أنك تحبني حقًا.”
قال برياس بصوت متهدج حزين:
“نعم… أنا أحبك جدًا، يا آنسة إدانا.”
فقالت بابتسامة قاسية:
“إذن، أثبت حبك… إن كنت صادقًا، فاقطع يدك اليسرى أمامي.”
شهقت “لين” لا إراديًا. أي نوع من النساء هذه؟! رفعت نظرها إلى آرثر، وقد عاد إلى وجهه ذلك البرود المتغطرس، وكأنه يتابع مسرحية شيقة.
صرخت ميتا:
“لا، أختي! تراجعي عن كلامك! سيأخذ كلامك على محمل الجد!”
لكن إدانا أدارت ظهرها، لا تبالي.
ابتسم برياس بمرارة، وقال:
“سأثبت لك حبي.”
وما إن قالها، حتى رفع سيفه، وبدت لمعة حادة قبل أن يصرخ فجأة، محاولًا إيقاف السيف… لكن الأوان كان قد فات.
“ميتا!” صاحت “لين” بدهشة، فقد كانت ميتا هي من اندفعت لتحميه، وجرحت يدها بدلًا عنه. ركضت إليها بسرعة، وربطت جرحها بمنديلها. لحسن الحظ، الجرح كان سطحيًا فقط.
بقي برياس للحظة في ذهول، ثم عانقها فجأة وقال بصوت مرتجف:
“لماذا فعلتِ هذا؟!”
خفضت ميتا عينيها، وقالت:
“الحمد لله… يدك ما زالت بخير…”
“لكن… لماذا؟”
صرخت “لين” وقد ثارت مشاعرها:
“لماذا؟! لأنّها تُحبك! إن لم تكن تحبك، هل كانت لتجازف بحياتها لقطف زهرة تافهة لك؟ إن لم تكن تحبك، هل كانت لتعرض نفسها للخطر لحمايتك؟! إن لم تكن تحبك، هل كانت لتخطط وتسعى لتقربك من من تحب؟! أي حب عميق ذاك الذي يدفعها لكل هذا؟!”
قالت ما قالت، ثم شعرت بالارتباك، خصوصًا حين التفتت فرأت آرثر يبتسم بمكر… يا إلهي، لا بد أنه سيسخر منها مجددًا!
برياس أدرك أخيرًا الحقيقة، وبدأت دموعه تترقرق، وتمتم:
“ميتا… أنا آسف، لم أكن أعلم…”
قالت ميتا بخفوت:
“أعلم… أنك تحب أختي.”
ساد الصمت، فكلّ منهم لم يعد يعرف ماذا يقول.
أخذت “لين” نفسًا عميقًا، ثم قالت:
“في بلادنا، لدينا كلمة اسمها (يوان فن)، تعني القدر، أو المصير. إن كان هناك قدر بينكما، فستنجح العلاقة بسهولة، وإن لم يكن، فسيكون كل شيء صعبًا وعليك أن تتخلى. لكننا غالبًا ما نُعرض عن من كُتب لنا، ونجري وراء من لم يُكتب لنا… أليس كذلك، يا فارس برياس؟”
ارتجف برياس، ثم مد يده يلامس جرحها برقة، وقال:
“كنت أعمى يا ميتا، لم أعلم أن أثمن كنز لي كان دائمًا بجانبي. يا رب، لعل الوقت لم يفت بعد… هل تسامحيني؟”
نظرت إليه ميتا بدموع الفرح، ثم ارتمت باكية في حضنه.
صرخت إدانا بحدة:
“برياس! كيف تجرؤ؟! ألم تقل إنك تحبني؟! كيف تفضل هذه الفتاة العادية؟!”
قال دون أن ينظر إليها:
“تخلّيت عنك، يا آنسة إدانا، لن ألاحقك مجددًا.”
ارتبكت إدانا:
“لا! لا يمكنك! أنت لي! المرأة الوحيدة التي تحبها يجب أن أكون أنا!”
لكنه تجاهلها، وحمل ميتا بين ذراعيه وقال:
“سآخذها معي.”
صرخت إدانا وهي تعترض طريقه:
“لا تذهب! برياس! أحبك! لقد فهمت الآن… لقد كنت أقسو عليك لأني… أحبك!”
لكن “لين” كانت قد فقدت أعصابها، والتفتت نحو آرثر لترى أنه ما زال واقفًا يتسلى من بعيد. تنهدت، ثم قالت:
“أتعرفين معنى زهرة الكاميليا البيضاء، يا آنسة إدانا؟”
ثم اقتربت منها وهمست في أذنها.
واستدارت، وقبل أن تخطو خطوتها الأولى، دوى صوت بكاء إدانا خلفها…
قال آرثر بلا مبالاة:
“وما معنى زهرة الكاميليا البيضاء؟”
ردّت وهي تزم شفتيها:
“همف.”
قال بتهديد مازح:
“إن لم تقولي لي، سأبيعك للشيخ العجوز.”
“تجرؤ؟!”
“أصلاً لا تساوين كثيرًا، بالكاد تكفي لشراء كيسَي قمح.”
“مـــت!”
ركلت كتلة ثلج في وجهه، ثم التفتت تنظر إلى إدانا الباكية… كم كانت تلك الزهرة مؤلمة في
معناها…
زهرة الكاميليا البيضاء تعني:
“كيف تجرؤ على الاستخفاف بحبي؟”
فلا تنتظر أن تجرح من يحبك، ثم تطلب غفرانه…
ولا تنتظر أن تفقده، لتبدأ بمحاولة استعادته…
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 18"