كلير ضحكت باستهزاء.
ذلك اليوم، وحتى الآن، لم توافق قط على كلام فولكي. كان فولكي دائمًا ينظر إليها بعين الشفقة. كما لو أنها الوحيدة التي فقدت والديها، وضاع منها مسقط رأسها، وصارت تائهة بلا مأوى…
لا.
أنا لستُ ضعيفة أمام العطف.
كم أشعر بالارتباك عندما تمتد نحوي يدٌ بلا تردد. حتى لمسة داميان حين ألبسني الحذاء قبل قليل كانت مزعجة جدًا بالنسبة لي.
“نعم.”
أجابت كلير وكأنها تتحدّى نفسها. شعرت أنه إن سمعت صوتها بهذه الإجابة فستستطيع أن تجد يقينًا.
غير أنّ تلك الإجابة المرتبكة، وربما العنيدة، أطلقت بلا شك سحرًا لحظيًا.
معه انهارت داخلها جدران ما كانت تدرك وجودها أصلًا.
ذلك الرجل كان دائمًا يقف متردّدًا خارج ذلك الجدار، أما الآن…
“نعم.”
قال الرجل بنفس كلمات كلير.
“سأريك.”
انخفض صوته فجأة. وخُيّل إليها أن حضوره اقترب بخطوات واسعة.
وحين غطّى ظل جسده كيانها بالكامل، أغمضت عينيها بإحساس أشبه بالتحرر، كما لو أنها أطلقت سراح شيء في داخلها.
لكن ما حدث لم يكن كما توقعت.
ومع ذلك، أحست أنّ عليها أن تفعل ذلك. فقد كانت قد تفوّهت بكلمات لم يعد بوسعها التراجع عنها.
وفي الوقت نفسه كانت تخوض معركة ضارية مع نفسها.
لا يُعقل أنني أرغب في هذا الرجل حقًا. مستحيل. لا بد أنه ليس كذلك.
…ثم أدركت متأخرة أنه لم يحدث شيء، رغم أنها أغمضت عينيها طويلًا.
وأدركت ذلك في وضع محرج للغاية، وبطريقة مهينة.
“ماذا تفعلين؟”
“…؟”
فتحت عينيها.
كان الرجل، الذي اقترب قبل قليل حتى كاد يلامسها، قد ابتعد قليلًا الآن. ومع ذلك كان لا يزال قريبًا بما يكفي ليستمتع برؤية وجهها المرتبك، بينما يقف متكئًا على رف الكتب، محدّقًا بها بهدوء.
تلاقى نظرهما.
أمال رأسه ببراءة، كأن شيئًا لم يحدث.
لكن كلماته التي خرجت من فمه كانت شريرة إلى أقصى حد، على النقيض من ملامحه الملائكية.
“هل غلبك النعاس؟”
“…!”
اشتعل وجه كلير حُمرةً وقد أدركت الموقف.
لم يسبق لها قط أن شعرت بدمائها تتدفق إلى وجهها بهذا الشكل.
أما داميان فكان يراقب ذلك الوجه المتورّد بدهشة، كما لو أنه يرى شيئًا غريبًا.
غطّت كلير وجنتيها المشتعلتين بيدها، وأغمضت عينيها بقوة ثم فتحتهما.
‘لا يصدَّق!’ كان هذا وحده ما يتردّد في رأسها.
“لا تقولي إنك غفوتِ واقفة؟”
ارتفع صوت كلير بغضب، وقد ضاق بها الصبر:
“أيّ جنون هذا؟!”
“إذًا، لماذا أغمضتِ عينيك؟”
“ذلك…!”
لم تجد ما تقول.
“لم يحدث شيء كهذا.”
لكنها كذبت، وكذبها كان واضحًا.
“ليس كذلك.”
“توقف عن هذا.”
“لا تقولي….”
رفع حاجبيه وكأنه توصل لاكتشاف، ثم ترك عبارته معلّقة:
“لا تقولي أنكِ كنتِ… تتوقعين شيئًا؟ الآن؟ هنا؟”
“هل جننت؟!” صاحت كلير بأعلى صوتها وقد فقدت أعصابها.
“ولماذا تصرخين إذًا؟”
“متى صرخت؟!”
“الآن تفعلين ذلك.”
صرّت كلير أسنانها بعزم على الانتقام.
سأنتقم منه. سأراقبه، وأتعقبه، وأتجسس عليه، حتى أقبض على نقطة ضعفه!
لكن ما الذي يمكن أن يكون نقطة ضعف شاب من الطبقة الوسطى بعينيه البريئتين تلك؟
هل أكتشف مقهاه المفضل، وأشتري كل حلوياته المفضلة، وأحرمه منها إلى الأبد؟
ارتسمت على وجهها ابتسامة راضية حين راحت تتخيل انتقامًا قاسيًا كهذا. خفّ غضبها قليلًا، وهمست بصوت خفيض مع رفع ذقنها متصنّعة الوقار:
“يبدو أن ثمة سوء فهم. لم أصرخ أبدًا، يا مستر ويلز.”
“تدعينني بلقبي؟ مؤسف حقًا. مهما كان ما توقعتِه، حتى لو خاب، أن تنأَي بنفسك بهذه السرعة….”
“قلت لك لم يكن الأمر هكذا!”
“رويدكِ، هذا كتاب ثمين. كنتِ تقولين إنكِ مهتمة. هذا الكتاب بالتحديد كنت أطالعه. أيمكنك أن تكوني أكثر حذرًا؟”
كان داميان قد سحب كتابًا من الرف بجانب كتفها.
“إنه حساس للرطوبة، وهو كتاب مهم… لا بد أن نضعه باحترام قرب المدفأة. لكن… حرارة الجو حولك الآن ليست عادية، ربما لا حاجة بنا للمدفأة أصلًا….”
كان داميان يتصرف وكأن غايته الأبدية في الحياة هي إغاظتها.
‘اصبري، اصبري، اصبري!’
عضّت كلير على شفتها لتكتم صرخة الغضب، وانتزعت منه الكتاب الكبير السميك ذي الغلاف الجلدي.
وبيدها الكتاب، حدّقت به من أسفل إلى أعلى بحدة وقالت:
“سأفعل ذلك بنفسي، فقط اخرس وأشعل المدفأة!”
“واو، يا له من غضب.”
تظاهر داميان بالخوف وهو يتراجع خطوة إلى الوراء، كأنه يواجه سمكة ما زالت تتقافز بعد اصطيادها.
أما كلير، فقد جلست بثقل أمام المدفأة، وأسندت الكتاب إلى جانبها.
وكان غلافه الذهبي البراق يلمع.
«سجل أنساب نبلاء كوينزلاند»
كان داميان يقلب الحطب في المدفأة وظهره إليها حين قال دون أن يلتفت:
“رجاءً كوني حذرة. هذا كتاب لا يمكنكِ الحصول عليه حتى براتب سنة كاملة.”
‘وما أدراك براتبي السنوي!’
صحيح أن مخصّصاتها من المركز قد تأخرت منذ مدة، لكن راتبها الرسمي لم يكن أبدًا منخفضًا.
ومع ذلك لم تجد ردًا، فاكتفت بأن عضّت شفتيها، ثم قالت على مضض:
“أيّ كتاب هذا أصلًا؟”
كان داميان ما زال يراقب النار محاولًا إشعال الحطب الرطب الذي لم يشتعل بسهولة بسبب المطر الغزير.
“إنه كتاب يشرح كيف كوّنت أعرق عائلات كوينزلاند سلالاتها، مع رسوم توضيحية.”
وأخيرًا اشتعلت النار.
لكنه لم ينهض مباشرة، بل ظل يراقب النيران ويتابع كلامه.
ثم فجأة سألها سؤالًا غير متوقع:
“هل ربّيتِ كلبًا من قبل؟”
ارتبكت كلير من السؤال، حتى نسيت غضبها.
“لا.”
لم تربّ كلبًا أبدًا. في طفولتها، قبل الحرب الأهلية، ربت قطة لفترة قصيرة.
أما الكلاب، فلم تعرف إلا كلاب الصيد في قصر الكونت.
لكن الكلب الأسود الضخم الذي كان يلتهم قطع اللحم الذي تساقطت منه قطرات الدماء من يد لوري لم يكن أبدًا جروًا يمكنها أن تحنو عليه.
“الأمر يشبه شهادة النَسَب التي ترافق الكلاب. أيّها أنقى دمًا؟ كيف بدا الأب؟ هل كانت الأم صيّادة ماهرة؟ هل يطيع الأوامر؟ هل يعرف سيده ويخلص له؟”
نظر داميان إليها بوجه مشرق.
“هذه شهادة نسب. لا أفهم لماذا يعتبرون تسجيل أسمائهم فيها شرفًا، لكن نبلاء كوينزلاند يفخرون كثيرًا بأن يرد اسم عائلتهم في هذا الكتاب.”
نظرت كلير حولها بارتباك، مع أنها تعلم أن لا أحد هناك.
“أليس من الخطير… أن تقول أشياء كهذه؟”
فهذا المكان لم يكن مثل كامشاك، حيث أطاحت الثورة الجمهورية بالملكية، وأُبيدت سلالتها.
هنا في كوينزلاند، حتى وإن نصّ القانون على المساواة بين الجميع…
‘ إلا أنّ النبلاء، كطبقة اجتماعية راسخة، ظلوا يحكمون قبضتهم كطبقة مسيطرة لا ينازعها أحد.’
بالطبع، كانت كلير توافقه الرأي. لكن وضعها الخاص لم يسمح لها بأن تُظهر اتفاقها علنًا.
تظاهرت بالخوف، واتسعت عيناها برعب مصطنع.
فنظر إليها داميان مطولًا، ثم قال فجأة:
“أحقًا تعتقدين ذلك؟”
“ماذا تعني؟” سألت ببراءة، متظاهرة بعدم فهم قصده.
“أحقًا تظنين أنني قلتُ شيئًا لا يجب أن أقوله؟ هل هذا رأيك أنتِ؟”
هل يحاول استدراجها؟
بدأ عقلها يدور بحثًا عن غايته من هذا السؤال.
هل يعرف شيئًا بالفعل؟ أم أنه مجرد فضول؟
أم أنها محاولة لاستعراض أفكار ثورية شبابية لرجل متعلم من الطبقة الوسطى؟
لكن لو أنه يعرف شيئًا…
شعرت ببرودة تسري في عروقها.
كادت تبتعد بجسدها كله إلى الوراء، لكنها تماسكت.
هزّت رأسها بحيرة مصطنعة وقالت:
“بالطبع. نحن موظفون لدى الدوق. والملكة هي خليفة الرب على الأرض، حامية المملكة. ما قلته إهانة للدوق، بل وللملكة والرب أيضًا.”
خفض داميان عينيه شاردًا.
وكانت أشعة الشمس تنعكس على رموشه الطويلة فتتطاير مع كل رمشة.
أما عيناه البنيتان فقد عكستا وجهها مثل مرآة.
ولم تحِد كلير بنظرها عنه.
فقد تدربت كثيرًا على إخفاء الأكاذيب، ولم يكن صعبًا عليها أن تتظاهر بالثبات.
لكن بصره، الذي بدا وكأنه ينقّب عن سر خفي في أعماقها، انصرف أخيرًا.
مع أن اللحظة لم تدم طويلًا، شعرت وكأنها دهور.
“صحيح.”
ارتخت قبضتها دون أن تشعر.
ثم اعتدل داميان جالسًا، مبتعدًا عنها قليلًا.
“إن كنتِ مهتمة، يمكنكِ قراءة الكتاب. آه، وخذي هذه.”
ناولها شيئًا التقطه من السلة بجوار المكتب.
ولما تلقّفته دون تفكير، اكتشفت أنه تفاحة حمراء ناضجة.
وحين عضّت منها لقمة، عادت عيناها إلى عنوان الكتاب المذهب:
«سجل أنساب نبلاء كوينزلاند»
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 9"