ارتفع صوت كلير فجأة، فالتفت إليها الرجال واحدًا تلو الآخر.
في الحقيقة، كانوا منذ أن دخلت الحانة يرمقونها بنظرات جانبية.
وحين علت نبرتها، بدا وكأنهم وجدوا مبررًا واضحًا للتحديق إليها، فازدادت نظراتهم جرأة.
لكن لسوء حظهم، كان وجه كلير محجوبًا عن الأنظار بظل قبعة الدلو التي غطّت جبينها بإحكام، فلم يظهر بوضوح.
ومع ذلك، لم تتراجع أعينهم عنها بسهولة، إذ ان السبب في جذبها للأنظار لم يكن وجهها المستور أصلًا.
كانت كلير جميلة. الهواء من حولها نفسه كان يشهد بذلك.
خصرها النحيل، عنقها الممشوق، ساقاها المستقيمتان.
أصابعها الطويلة الرفيعة، كأغصان الصفصاف، كانت تتحرك برشاقة أشبه بخفقان جناحي حمامة بيضاء.
كل جزء من جسدها بدا كفصل مستقل يعبّر عن كمال أنثوي روحي.
ومع أن لكل موضعٍ سحره الخاص، إلا أنّ اجتماع هذه التفاصيل كوّن في النهاية كيانًا متكاملًا، تحفةً فنية اسمها كلير.
أخفت نظراتها تحت ظل القبعة، ثم مسحت المكان سريعًا بعينيها.
كانت قد تعمدت أن تلفت الانتباه إليها كي تتيح لنفسها فرصة مراقبة الوجوه من حولها بسرعة.
وبالفعل، راقبها الرجال جميعًا تقريبًا واحدًا بعد الآخر بفارقٍ زمني قصير.
لم يكن هناك من يتعقبها.
لم يظهر أيّ رجل يحاول أن يخفي قلقه عنها وهو يرمقها.
لقد تأكدت أنه لم يلحق بها أي ذيل أثناء سيرها. ومع ذلك أرادت التثبت، وقد صدق حدسها.
استرخى كتفاها، وانفك عنها التوتر.
وبعد أن حققت هدفها، التفتت عن مدخل الحانة ومسحت حضورها كأنها لم تكن.
ثم تحدثت عبر الهاتف بصوت دافئ:
“لقد وصلت آمنة. وسجلت الدخول في الفندق من دون مشاكل.”
كان ذلك شيفرة تفيد بأنها نجحت في تثبيت موقعها في فيلا الدوق.
غير أن الضابط المسؤول عن استلام تقريرها لزم الصمت.
أحكمت قبضتها على السماعة بيدها الأخرى وتابعت الكلام:
“كيف حال والدك؟ هل الطبيب الجديد الذي استقدمتموه يعتني به جيدًا؟”
كان المقصود بـ”والدك” الرئيس فلادي، الذي عيّن قائدًا جديدًا لجهاز تشيكا، وبـ”الطبيب” كان يعني ليونيد: سؤالها إنما كان عن وضعه داخل المقر.
كلير أرادت أن تعرف.
رحيلها لم يمضِ عليه وقت طويل، لكنها كانت قد أدركت قبل مغادرتها أن ليونيد يسعى بجنون لإثبات نفسه أمام الرئيس.
وفي غضون أسابيع فقط، كان من المحتمل أن يجد ذرائع جديدة لإلصاق تهمة الخيانة بالرفاق وتطهيرهم. وكلما تراكمت الجثث، ازداد اعتماد الرئيس عليه.
لكن ما زال الصمت سيد الموقف.
ضابط الاستخبارات الذي كُلِّف بمتابعتها كان من القلة المعتدلة الباقية، خلافًا للمتشددين أتباع ليونيد، وكان يفترض أن يكون مصدر ثقة.
[…]
طال السكون عبر الهاتف.
بدأ التوتر يعود إليها لأسباب مختلفة هذه المرة.
هل من الممكن أن يكون الضابط قد انقلب إلى جانب ليونيد؟ أم لعلّه كان ضحية أخرى لعمليات التطهير؟
وبينما كانت تفكر في قطع الاتصال، جاء الصوت أخيرًا:
[رفيقة، الأمور هنا كما كانت. لا شيء تغيّر منذ رحيلك.]
لكن الصوت لم يكن هو الصوت المنتظر.
صوت فولكي، ضابطها المكلّف، كان منخفضًا ومتلعثمًا وسريعًا.
أما هذا الصوت فكان معتدل النبرة، واضح المخارج.
لم تعرف كلير إن كان عليها أن تغلق الخط أم ترد. لم يحدث أن مرّت بمثل هذا الموقف من قبل.
فالمبدأ ينص على أن ضابط الاستخبارات المكلف بعميل في الخارج لا يُستبدل مطلقًا.
وكأن الصوت التقط حيرتها، فتابع:
[أنا ساشا، ضابط استخبارات من الرتبة الثالثة في التشيكا. فولكي بخير. لكن كان لدي أمر خاص أبلغه لك، لذا طلبت منه أن أتحدث اليك بدلًا عنه. إنه أمر من الرتبة السابعة.]
والرتبة السابعة تعني أمرًا غير رسمي.
والأوامر غير الرسمية يمكن للعميل رفضها إن لم تسمح ظروفه.
وفي العادة لا تُصدر إلا للضرورة القصوى، خشية أن تعرقل المهمة الأصلية.
وكانت هذه أول مرة تتلقى فيها كلير مثل هذا النوع من الأوامر.
فقالت بابتسامة مصطنعة:
“حقًا؟ هذا يضعني في موقف صعب. ألا يجدر بكم البحث عن شخص آخر؟”
إذ إن العمليات الخارجية عادة لا يعرفها سوى الضابط المسؤول ورئيسه المباشر.
فكيف لضابط آخر أن يعرف تفاصيلها، بل ويكلفها بأمر من الرتبة السابعة؟ بدا الأمر مشبوهًا للغاية.
لكن ساشا لم يتردد:
[هذا الاتصال سري للغاية. فولكي لا يعلم أي شيء عن الأمر الذي أحمله لك. لا وقت لدينا، سأدخل في صلب الموضوع.]
تركيز كلير شدّ على الصوت.
[كما تعلمين، الرئيس فلادي على وشك أن يعبر النهر الذي لا عودة منه. حملة التطهير في التشيكا لم تكن سوى البداية.]
كلير عرفت أن هذا صحيح.
[إنه يخطط لشن حرب عالمية، حرب لا يمكن مقارنتها بحرب صغيرة مع كوينزلاند.]
هذا لم يكن متوقعًا. حرب عالمية؟
ارتجف كتفاها. لم يكن ما تسمعه مناسبًا أن يُتداول في مكان عام كهذا.
ورغم يقينها أنها غير مراقبة، انتابها الندم لأنها لم تتأكد أكثر.
[نحن نريد إيقاف حرب لا معنى لها. في كوينزلاند من يشاركوننا هذا الهدف. نريدك أن تتعاوني معهم.]
هل كان شك ليونيد في وجود متواطئين داخل طبقة النبلاء في كوينزلاند صحيحًا إذن؟
لكن قبل أن تبدي كلير دهشتها، واصل الصوت:
[نريدك أن تتعاوني مع عناصر من الداخل، وتوفري لنا المعلومات التي يتعامل بها جهاز الأمن الدولي في كوينزلاند. هذا هو السبيل الوحيد لمنع الحرب.]
هل يجهل هذا الرجل سبب وجودها هنا أصلًا؟ اقتراحه لم يكن مطروحًا للنقاش.
فابتسمت كلير بسلاسة، تخفي حدة صوتها خلف ملامح هادئة:
“وكيف لي أن أتأكد من هذا هنا؟ جئت في عطلة، ألا تتذكر؟ لقد كان الاتفاق مختلفًا. سأغلق الخط.”
[انتظري، رفيقة.]
الصوت تعلّق بها بإلحاح:
[من بين الأخبار التي وصلتنا من الداخل، أن بعض الرفاق المفقودين من التشيكا قد يكونون على قيد الحياة. ليس مؤكّدًا، لكن ربما الرفيق يوري ما زال حيًّا في مكان ما بكوينزلاند. اختفاؤه لم يكن عاديًا.]
تجمدت كلير:
“…ولماذا تقول هذا الآن؟”
[يوري كان يعارض نظام الدكتاتورية الدائم للرئيس، وكان على علم بخطط الحرب. لهذا جرى إقصاؤه.]
“أنت بارع في المزاح اليوم.”
بذلت كلير جهدها حتى لا يرتجف صوتها. أستاذها قد يكون حيًّا، بل ويعلم بخطط الحرب؟
ارتعشت ابتسامتها. قبضت على الهاتف بقوة، وهي تمسح المكان من جديد بعينيها.
ثم خفضت صوتها:
“ألم يكن لديك وقت كافٍ لإخباري بهذا قبل أن أغادر المنزل؟ أليس هذا استعجالًا لتعيدني؟”
[حتى هذا الاتصال لم يكن ممكنًا إلا عبر مسار معقد انتهى بمعجزة. حتى وأنت في المقر، كانت العيون تراقبك، ولم يكن هناك فرصة. هذا أفضل ما يمكننا فعله.]
سكتت قليلًا.
الصوت كان هادئًا لكنه متلهف.
كلير، التي خبرت طوال حياتها التمييز بين الصدق والكذب، أيقنت أنه يقول الحقيقة.
لكن الحقيقة ليست دائمًا مرادفة للعدل. هذا ما آمنت به.
فلقد عاشت زمنًا تعتقد فيه أن الحقيقة هي العدل بعينه.
حينها كان قلبها مطمئنًا: تفكر في التشيكا، وتثق بالرفاق، وتؤمن بالعالم القادم.
لكن تلك السذاجة التي كانت أقرب إلى نزق الطفولة تحطمت بعد سنوات التدريب، وبعد لقائها الأول مع إيان.
مواجهته كانت مؤلمة.
كان يتصرف أحيانًا كأنه يعرف حقيقتها لكنه يتغاضى.
وأمام رجل يثبت وجوده بالنَسب وحده، كان عليها أن تعترف في أعماقها كل لحظة بأنها لا شيء، أتفه من الغبار.
لا في كامشاتكا، ولا في كوينزلاند، لم تكن يومًا مقبولة.
كيان منبتّ، يقف على النقيض تمامًا من رجال يُبجَّلون بفضل الدم الذي يجري في عروقهم.
لا شيء.
ذلك كانت هي.
مهما حاولت أن تهرب، كانت حقيقتها البائسة تُعرّى أمام مرآة اسمها إيان.
وكانت بؤسًا لا يُحتمل.
في كل مرة تواجهه، كانت تُجبر نفسها على التماسك:
“أنت تصنعين مكانك بنفسك. بيديكِ، ترسمين موقعك الذي ستنتمين إليه. التشيكا، الجمهورية، والرفاق سيأخذونك إليه.”
“فاصبري. قليلًا بعد.”
دون ذلك، لم يكن بوسعها أن تتحمل قسوة التفاوت الذي أراها إياه وجود إيان.
لكن حين عادت بعد عامين إلى المقر، كان إعصار الدم قد اجتاح التشيكا.
أستاذها صار مفقودًا، مجهول المصير.
ولم يتركوا لها فرصة لتلملم صدمتها؛ بل أُوكلت إليها مهمة جديدة لإثبات ولائها.
حتى مدينة سيدماوث، التي هجرتها منذ سن السادسة عشرة، اضطرت إلى العودة إليها في النهاية.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 6"