“لا يمكن أن يكون هناك غارة جوية على عاصمة كوينزلاند.”
كوينزرود، عاصمة كوينزلاند.
معلّم كلير كان قد تسلّل إلى كوينزرود قبل عشر سنوات، مباشرة بعد اندلاع الحرب.
وخلال أنشطته الاستخباراتية هناك، شهد بأمّ عينيه أطفال وطنه يُساء إليهم ويُرمى بهم في الشوارع.
وبناءً على تقرير أحد العملاء النخبة، قرّرت منظمة تشيكا أن تضمّ هؤلاء الأطفال. كان توجيه القيادة العليا قائلاً إنّه إذا صُقلت قلوب هؤلاء الأطفال المليئة بالانتقام، فسيصبحون سيوفاً بديعة.
وكان يوري، معلّم كلير، على علمٍ بنوايا القيادة العليا لتشيكا.
لكنّه، بغض النظر عن نوايا تشيكا، اعتقد أنّه من الأفضل للأطفال أن يصبحوا عملاء على أن يموتوا جوعاً في الشوارع.
وهكذا، واصل يوري قرابة ثلاث سنوات نشاطاته الاستخباراتية في أراضي كوينزلاند، وخلالها أخذ الأطفال المهملين واحداً تلو الآخر وأعادهم إلى الوطن.
وكانت كلير آخر طفلة مدّ لها يده.
كان ذلك عندما كانت في السادسة عشرة من عمرها، في طريقها من سيدمرس إلى كوينزرود لتلتحق بالجامعة.
“أولئك الرجعيون الملعونون من كامشاك، بطبيعتهم الفاسدة، لا يعرفون حتى فضل من أطعم ورعى أيتامهم المرمَيين.”
على وقع صوت لوري الساخر، ارتدّت روح كلير إلى الواقع فجأة.
شدّت قبضتها تحت الطاولة حتى ابيضّت عظام أصابعها.
نعم، هكذا كان.
الأطفال الذين كانوا يموتون جوعاً تمّت رعايتهم جيداً، ثم أُرسلوا إلى أراضي كامشاك ليصبحوا عملاء نخبة.
“أوافق لوري فيما قال.”
قالت كلير، وهي تضع الملعقة بجانب صحن الحساء وقد فقدت شهيتها تماماً، ثم مسحت فمها بالمنديل.
“لا بد أن يتعلّم أولئك الجاحدون للجميل درساً قريباً.”
لكن ماذا عساها تفعل.
فالذين لا يعرفون الذنب لا يبدو أنّهم على وشك أن يتعلّموا أي شيء.
“أستأذن بالانصراف أولاً، أمي، أبي.”
ثم حيّت برفق وخرجت من قاعة الطعام أولاً، وكأنها تقول لهم: وجودي الملوّث سأُزيحه من أمامكم، لتتناولوا حساءكم الخفيف بهدوء.
***
“تقولين إن لديك خبرة سابقة كوصيفة مقربة.”
“نعم، كنت في خدمة سيدتي.”
“رسالة التوصية تبدو موثوقة.”
كان القصر الصيفي لدوق همنغهام كئيباً وصامتاً بشكل مريب.
لدرجة أنّ المرء قد يتساءل إن كان الناس يرتادونه أصلاً.
ولولا الإعلان عن التوظيف، لما خطر لها أبداً أنّ قصراً قائماً في مكان ناءٍ كهذا يمكن أن يوجد.
وكأنها قرأت أفكارها، قالت مدبّرة الخدم، بوجهها القاسي القاتم ورفعة حاجبها كإنذار:
“هذا القصر ظلّ خالياً فترة طويلة، لذلك هناك الكثير من العمل. صحيح أنّك ستكونين وصيفة مقربة للدوق، لكن في كثير من الأحيان سيتعيّن عليك القيام بأعمال الخدم أيضاً. إن لم يكن هذا يناسبك، فالأفضل أن تنسحبي الآن. كما تعلمين، مع الراتب المعروض سيأتي الكثير من الراغبين.”
تأملت كلير مدبّرة الخدم من خلال نظرة نصف خافتة.
ياقة ثوبها مكوّية بإحكام، وتسريحة شعرها مصففة بعناية بحيث لا تتدلّى خصلة واحدة.
‘ لن تسمح بذرة غبار واحدة… إنها مثالية حدّ الهوس’.
بهكذا شخصية، فلا شك أنها استنزفتها سنوات إدارة قصر يفتقر إلى عدد كافٍ من الخدم.
‘مدبّرة بلا أيدٍ كافية، تكون دوماً حادة الأعصاب.’
كان الجواب الصحيح أن تقول إنها مستعدة للقيام بأي عمل. لكنها لم ترغب أن تبدو يائسة، بل مناسبة للوظيفة.
فالمثالية تفرض أن تُنتقى الخادمة بعناية أكبر كلما قلّ عدد الأيدي العاملة.
“قبل أن أعمل كوصيفة، بدأت كخادمة. قد لا أكون سريعة مثل من اعتدن ذلك كل يوم، لكن…”
توقفت قليلاً، عن قصد، ثم أكملت:
“أعتقد أنه إذا أُعطيت قليلاً من الوقت، سيتذكّر جسدي ما تعلّمه بسرعة.”
رأت كلير ابتسامة خافتة ترتسم على شفتي مدبّرة الخدم.
‘جيد. ردّ فعلها ليس سيئاً.’
“حسناً.”
أخيراً أصدرت مدبّرة الخدم حكمها بنبرة جافة.
“تبدئين من الغد. إذا كنت ستأتين يومياً، فعليك الحضور قبل الثامنة صباحاً، أما إن رغبتِ فيمكنك الإقامة في السكن التابع للقصر. المغادرة السادسة مساءً.”
“نعم.”
“لاحقاً، سيكون لي ومعي خادم مقرّب آخر شرف خدمة السيد، لكن ستكون هناك أحيان تؤدين فيها مهام مسائية أيضاً. الأجر طبعاً يُدفع كاملاً.”
“مفهوم.”
“وإذا اخترتِ المجيء يومياً دون إقامة، يمكن لسكرتير الدوق أن يوصلك للمدينة عند انتهاء عمله.”
كان سماع اسمها الحقيقي من فم غريب أمراً غريباً بالنسبة لها.
هل كان خياراً صائباً أن تعمل تحت اسمها الحقيقي؟
صحيح أنها قضت طفولتها هنا وقد تصادف وجوهاً تعرفها، لذا استخدمت اسمها كما هو… لكنها بدأت تندم.
‘ربما كان ينبغي أن أستخدم اسماً آخر. لكن ما نسبة احتمال أن ألتقي بشخص يعرفني؟’
“إذن عودي اليوم، والتقي بنا غداً.”
قالت مدبّرة الخدم وهي تنهض معلنة انتهاء المقابلة، فنهضت كلير أيضاً.
وقد لاحظت مدبّرة الخدم بعينها الجانبية أنّ كلير نهضت دون أن تُصدر كرسيها أي صوت، فابتسمت راضية.
التقطت كلير ذلك الرضا بدقة.
كما توقعت، فالخدم نادرون لكنّها لن تختار أيّاً كان.
“إذن، أستأذن الآن…”
رافقت مدبّرة الخدم حتى الباب، فانحنت كلير برأسها ثم همّت بالمغادرة مشياً نحو القصر.
لكن فجأة أوقفتها مدبّرة الخدم.
“ميس بينيت، لحظة…”
توقفت كلير والتفتت، فرأت مدبّرة الخدم ترسل صبياً في مهمة ما.
وما لبث أن اختفى الطفل حتى ظهر أمامهما رجل طويل عريض المنكبين، يعتمر قبعة فيدورا تغطي ملامحه.
اقترب منهما ببطء، ثم خلع قبعته.
تجمّدت أنفاس كلير.
قلبها الذي كان يخفق ببطء سقط فجأة من على حافة هاوية، ينهار بقوة.
حدّق الرجل في وجهها مباشرة.
‘آنايس.’
كلب الملك، كلب الشمال، مجنون كالڤرن… وريث الدوق الشيطاني.
دوق كالڤرن، إيان كالابرييل، كان رجلاً بأسماء عديدة.
لو جُمعت كل الأسماء الممنوحة والمكتسبة، لملأت وجهيّ ورقة كاملة.
ومع ذلك، لم يكن أيّ منها يصفه.
بل بالأحرى، حتى اجتماعها كلّها لا يكفي لشرحه.
نبل وقذارة كلب متأنّق.
حين تظاهرت كلير بأنها ابنة السفير سورڤين، واقتربت منه باسم “آنايس”، رأت فيه رجلاً مجنوناً لا يمكن وصفه بكلمة.
‘”عزيزتي، ابتسمي. لقد أعددت هذا خصيصاً على ذوقك.”‘
كان يتأمل خطيبته جامدة الملامح، متكئاً بارتياح وذراعيه متشابكتان.
آنذاك فقط أدركت.
أنّ حتى قلقه الظاهر من عدم امتلاكها كلها، قد يكون تمثيلاً.
وأنّ امتناعه عن لمسها قبل الخطوبة لم يكن بدافع نُبل أو احترام… بل فقط لأنه كان يعلم منذ البداية أنها قد تكون عميلة لتشيكا، فلم يُبدِ أي ثغرة.
‘”أليس هذا حفل استقبال كامل؟ ألا يستحق الإعجاب؟”‘
كامل وفق الطراز الكامشَكي.
ملابس الخدم، الموسيقى، الزينة الداخلية، المقبلات، الأطباق الرئيسية، المشروبات، النقوش على كؤوس الكريستال… كل شيء.
شعرت بأن خدها يرتجف.
‘منذ متى كان يعرف؟ من البداية؟’
‘”ماذا؟ أهذا الحفل لا يعجبك؟”‘
وجدت نفسها تتراجع خطوة بخطوة.
وقبل أن تدّعي حاجتها لتصحيح زينتها، أمسك بذراعها بقوة وألغى الحفل فجأة.
أخرج جميع الضيوف، أغلق الطابق بأكمله… وفي تلك الليلة لم يصعد إلى غرفته، بل امتلكها هناك في القاعة.
لولا أنها لم تدسّ السم في قرطها خشية أن تنكشف، لما كانت لتفلت أبداً من قبضته.
غرست إبرة القرط المسموم في جسده وانتظرت.
كان سماً لا يُحصَل عليه إلا في كامشاك، لا يؤثر في مواليدها أو في عملاء تشيكا المدربين.
وما تبقى كان انتظاراً.
كلما اشتدّت حركته وازداد انفعاله، تسلّل السم أسرع في جسده.
الانغماس في ليلته كان أفضل وسيلة للهروب.
‘”…آنايس، حبيبتي.”‘
في تلك الليلة، ظلّ يردد اسمها غريب الإيقاع.
‘”…انظري إلي.”‘
أمسك شعرها وجذب رأسها للخلف، يأمرها أن تملأ عينيها به.
‘”…أعطيني… نفسك.”‘
ما الذي قاله بالضبط؟ لم تسمعه جيداً.
كل ما علمته من حدة حركته وغمر إحساسها الجارف، أنه كان يقترب من النهاية.
ارتجّ بصرها أبيضاً، وانقبضت قدماها حد الألم.
في اللحظة التي غرزت أظافرها في ظهره وعنقه، همس في أذنها بكلمات سرية.
لكنها لم تسمعها.
كان المشهد حالماً بعيداً، حتى بدا لها أبدياً.
وحين استعادت وعيها، كان قد انهار أرضاً.
تزحلقت من تحت جسده المثقل الراقد بلا حراك.
تحرّر جسدها، لكن روحها بدت وكأنها ابتُلعت كاملة تلك الليلة.
ارتعشت، ترتجف أمام إحساس لم يفلتها بعد.
‘آنايس.’
“ميس بينيت؟”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 3"