6
“جولي، ربما لأنني أتناول الطعام معكِ، لكن الطعم رائعٌ للغاية!”
“طالما أنه لذيذ، فهذا كل ما يهم.”
حتى الطريقة التي قال بها ذلك كانت دراميةً بشكلٍ غريب.
خشية أن تبدو كشخصٍ يبالغ في تقدير بعض العملات القليلة، ردَّت جوليانا ببرود. ومع ذلك، رغم ردِّها البارد، ظلَّ مورفي يبتسم ابتسامةٍ عريضة.
“أوه.”
فجأة، أخرج مورفي مظلَّة من مكانٍ ما. في اللحظة المناسبة، مرَّت حمامةٌ وأسقطت برازها فوق رأسه مباشرة. لحسن الحظ، بفضل المظلَّة، تجنَّب التعرض لنفس الحادثة التي وقعت له في المرة السابقة.
“يبدو أنك تتعرَّض لبراز الطيور كثيرًا.”
في هذه المرحلة، أيُّ شخص كان ليجده غريبًا، لكن جوليانا تحدَّثت ببرود، دون أن تشعر بأيِّ استغراب.
ضحك مورفي بإحراج.
“لا بد أن الطيور تغار من وسامتي. لهذا السبب، أعددتُ هذه المظلَّة هذه المرَّة! طالما أن لديَّ هذه المظلَّة…”
أعلن مورفي بفخرٍ وهو يُغلق المظلَّة.
في تلك اللحظة، فجأة، سُكِب دلوٌ من الماء عليه.
“يا إلهي! ماذا أفعل؟!”
كان الجاني فتاةً تعمل في محل زهور. كانت تفرغ المياه المتبقية من التنظيف في الزقاق، لكنها لم تنتبه لمرور أحد.
“أنا آسفة جدًا!”
“لا، لا بأس!”
هرعت الفتاة إلى الداخل وعادت بمنشفةٍ جافَّة. أخذ مورفي المنشفة وربَّت بها على شعره بخفَّة. كان لا يزال في منتصف تناول أسياخ الطعام خاصته، لكن لم يكن هناك ما يمكن فعله الآن.
ومع ذلك، ألقى ابتسامةً مشرقة على بائعة الزهور.
“هذا لا يُعَدُّ شيئًا على الإطلاق. لا تقلقي.”
تلك الابتسامة جعلت قلب بائعة الزهور يخفق بقوَّة. بدأ قلبها ينبض بجنون، واحمرَّت وجنتاها بلون زهرة البلسم المزدهرة في منتصف الصيف.
“لنذهب، جولي.”
“همم، من هنا.”
على الرغم من كونه مبللًا بالكامل، ظلَّ وجه مورفي مشرقًا بالابتسامة.
ما الذي يجعله سعيدًا إلى هذا الحد؟ لقد سُكب عليه الماء للتو!
كان فتىً ممتعًا بحق. كاد أن يتلقى براز الطيور، ثم تعرَّض لدلو ماءٍ بالكامل. جميع أنواع الأمور العجيبة التي لم تكن جوليانا تتخيَّل حدوثها لها، كانت تقع لمورفي باستمرار.
ومع ذلك، ظلَّ إيجابيًّا للغاية. كلَّما تعرَّفت عليه أكثر، أدركت أنه شخصٌ مختلف تمامًا عنها.
“هل هذا هو المكان؟ المكان الذي تحبِّينه؟”
“نعم.”
“إن كان مكانًا تحبِّينه، فبالتأكيد سيكون مكانًا رائعًا بالنسبة لي أيضًا!”
هتف مورفي بحماسة، متبعًا جوليانا إلى داخل المكتبة.
ما إن دخلا إلى المكتبة الصغيرة، حتى تسلَّل عبق الورق إلى أنفه. كان الشعور مختلفًا تمامًا عن مكتبة القصر.
“يا له من مكانٍ دافئ. إنه يعجبني كثيرًا!”
“أنا سعيدةٌ لسماع ذلك.”
اقتربت جوليانا من الأرفف، متسائلة عمَّا إذا كانت هناك أيُّ إصداراتٍ جديدة. لكن بمجرد أن التقطت كتابًا، شعرت باهتزازٍ خفيف.
“هم؟”
هل هذا زلزال؟
بدأت الاهتزازات تزداد قوة. راحت الكتب المكدَّسة على رفوف المكتبة تهتز بخطورة.
ثم فجأةً، سقطت الكتب دفعةً واحدة، وكانت على وشك أن تنهار فوق جوليانا.
“لا!”
اندفع مورفي على الفور، واحتضن جوليانا ليحميها بجسده. بفضل ردِّ فعله السريع، سقطت الكتب فوقه بدلًا منها.
مع صوت ارتطامٍ مدوٍّ، سقطت جميع الكتب. لم يتوقَّف الزلزال إلّا بعد سقوطها بالكامل. كانت الكتب سميكةً إلى حدٍّ ما، مما جعله يشعر بألمٍ في رقبته.
“آه… هذا مؤلمٌ قليلاً…”
“هل أنت بخير؟”
أمسك مورفي برقبته بينما نهض ببطء. أما جوليانا، فبقيت جالسةً على الأرض، تحدِّق به بقلق.
ما الذي حدث للتو؟
لم يسبق أن شهدت العاصمة زلزالًا قويًّا بما يكفي ليهزَّ أرفف الكتب بهذا الشكل. هل هذا أيضًا من تأثير العاصفة السحرية؟
لقد شهدت الأمس عاصفةً مطريةً عنيفة، والآن زلزال؟
الأمر غريبٌ حقًّا. حياة جوليانا العادية كانت تتحوَّل إلى مغامرةٍ غير متوقَّعة.
“أنا بخير، جولي. وأنتِ؟ هل أنتِ بخير؟”
بالطبع، كانت بخير. فهو من حماها. لكن لسببٍ ما، شعرت بالإحراج الشديد فلم تستطع قول ذلك. فقط أومأت برأسها بصمت.
“لكن يبدو أنك تتألَّم.”
“لا، هذا لا يُعَدُّ شيئًا بالنسبة لي.”
على الرغم من ابتسامته، شدَّ مورفي على الكريستال المخبَّأ داخل سترته بقوة.
كان من الواضح أن كل هذه الأحداث وقعت لأنه خرج من القصر.
كان عليه العودة. وإلَّا، فقد تقع جوليانا في المزيد من الخطر.
أمسك مورفي بيد جوليانا وساعدها على الوقوف.
“جولي، أعتقد أن الوقت قد حان لأعود.”
“…بالفعل؟”
لم تكن تشعر بالحزن، لكن لسببٍ ما، راودها شعور بالذنب. كانت قد وعدته بأن تأخذه في جولةٍ في المدينة، لكنها لم تفعل ذلك كما ينبغي.
خرج مورفي مع جوليانا إلى الخارج، لكن بمجرد أن خطوا خارجًا، شعرت بشيءٍ غريب.
‘هناك أمرٌ غير طبيعي.’
لم يكن وقت الغروب بعد، ولكن السماء كانت تكتسي باللون الأحمر ببطء. شعورٌ سيئٌ بدأ يتسلَّل إليها.
الشوارع التي كانت تعجُّ بالناس قبل قليل، أصبحت فجأةً خاليةً تمامًا.
أصحاب المتاجر كانوا يغلقون متاجرهم على عجل.
“يا آنسة، عودي إلى منزلكِ بسرعة! هناك عاصفةٌ سحريةٌ قادمة!”
“ماذا؟!”
نادتها صاحبة المكتبة، بيليندا، قبل أن تُسرع في إغلاق محلِّها بإحكام.
عبست جوليانا في دهشة.
عادةً، كانت العواصف السحرية تضرب الغابات أو البحر. كان من الممكن أن تؤثِّر على الطقس، لكنها لم تعبر العاصمة من قبل.
“هذا بسببي…”
“ماذا قلت؟”
اهتزَّت حدقتا مورفي. كانت هذه أول مرَّةٍ تختفي فيها الابتسامة عن وجههِ الذي اعتادَ البَهجةَ دائمًا.
هبَّت رياحٌ عاتيةٌ، واشتدَّت حدَّتُها فتناثرت خصلات شعره بعنف. كانَ الإحساس واضحًا، وكأنَّ شيئًا مريعًا على وشك الحدوثِ.
“جولي، ابتعدي عنِّي.”
“ماذا تعني بـ—”
لم تكمل كلامَها حتى بدأت زوبعةٌ بنفسجيَّةٌ تقترب من بعيدٍ. كانتْ تبتلع الأشجار في طريقِها كوحشٍ مفترسٍ، وتتحرَّكُ بسرعةٍ نحوَهما.
“اهربي!”
دفعَ مورفي جوليانا بقوَّةٍ باتجاهِ المكتبة، لكنَّ الزوبعة غيَّرت اتجاهَها فجأةً واتَّجهتْ نحو مورفي مباشرةً. نظر إليها بعينَيْنِ يملؤُهما الحُزن والاستسلامُ.
‘أهذا هو قدري؟ هل يستحيل عليَّ تغيير هذا الشُّؤمِ الذي يلاحقُني؟ لكن… على الأقل، أنا سعيدٌ بلقائي بـ جوليانا كصديقةٍ لي.’
أغمضَ عينيه وكأنَّه استسلم للأمرِ الواقعِ. في غمضة عينٍ، ابتلعته دوَّامة السِّحر تمامًا.
“مورفي!”
شقَّت الزوبعة طريقها عبرَ العاصمة، واتَّجهت نحوَ الغابةِ.
استعادتْ جوليانا رشدها بسرعةٍ. كان عليها أن تُنقذَ مورفي.
انطلقت وهي تطارد الزوبعة داخل الغابة، وأنفاسها تتلاحق. ولكنَّها لم تبال، فقد كانت هذه المرَّة الأولى التي تتمنَّى فيها شيئًا بكلِّ هذا الإلحاح.
لحسن الحظِّ، بدأت الزوبعةُ تفقد قوَّتَها شيئًا فشيئًا، فأدركتها جوليانا أخيرًا.
“مورفي!”
صرختْ باسمه مرَّةً أُخرى، فرأته بداخل الزوبعة فاقدًا للوعيِ.
أخيرًا، توقَّفت الزوبعة فوقَ سطح البحيرة، ثمَّ اختفت تمامًا.
لكن… تمامًا كما التهمت الأشجارَ، أسقطت مورفي في قلب البحيرة.
دون لحظة تردُّدٍ، نزعت جوليانا حذاءَها وقفزت في الماءِ.
وسطَ الحطام العائمِ، رأتْ مورفي وهو يغرق تدريجيًّا.
بدأت تضرب الماءَ بقوَّةٍ لتصل إليهِ. وبمجرَّد أن أحاطَتْهُ بذراعيها، نظرتْ نحوَ سطح البحيرةِ.
لكنَّها لم تملك القوَّة الكافية لسحبه إلى الأعلى.
‘يجب أن أُنقذه… بأيِّ ثمنٍ!’
بسبب ثقله، كانت هي الأخرى تغرق معه. تمنَّت بصدقٍ، بكلِّ ما في قلبِها، أن تُنقذ هذا الفتى، أن تُنقذ مورفي.
عندَها، لمعَتْ إحدى عينيها باللون الذَّهبيِّ.
‘مجدَّدًا… عيناي؟’
شعرت بطاقةٍ غريبةٍ تنبعثُ من عينِها اليُمنى، وكان لديها إحساسٌ بأنَّ لونها سيتغيَّرُ مجدَّدًا.
عندها، لاحظتْ ضوءًا ذهبيًّا ينبعثُ من الحقيبةِ التي كانت تحملُها.
‘الكرة السِّحريَّة؟!’
أدركَتْ فجأةً… إنَّها الكرة السِّحريَّة التي أعطتْها لها ساليتا.
‘هل هذه هي الرؤية التي حدَّثتني عنها؟’
مدَّت يدَها في الحقيبة وأخرجت الكُرةَ بسرعةٍ. توجَّهت بالكرة السِّحريَّة المليئة بطاقة الرِّيح نحوَ الأسفلِ، ثمَّ أطلقت جميعَ قوَّتها دفعةً واحدةً.
تحطَّمَت الكُرةُ، وانفجرت منها ريحٌ عاصفةٌ رفعت جوليانا ومعها مورفي إلى خارج البحيرة.
“كح! كح!”
جرَّت جوليانا مورفي نحو اليابسة، لكنَّه كان ثقيلًا جدًّا بسببِ الماء الذي ابتلعَه. بعدَ جهدٍ كبير، نجحت أخيرًا في إخراجه بالكامل من الماءِ.
وضعتْه في مكانٍ تُلامسه أشعَّةُ الشَّمسِ، ثمَّ بدأت تضرب وجنتَيه برفقٍ.
“استيقظ، مورفي!”
لكنَّه لم يتحرَّك. كان وجهه شاحبًا بشدَّةٍ، ربَّما لأنَّه ابتلع الكثير من الماء.
تملَّكها الرُّعب. وضعت يدَها على أنفِهِ لتتأكَّد إنْ كان ما زال يتنفَّس.
لحسن الحظِّ، كان لا يزال يتنفَّس… لكنَّ أنفاسه ضعيفةٌ للغايةِ.
“ما الذي يُمكنُني فِعلُهُ…؟”
نظرت حولها، لكنَّها لم تجد أحدًا يساعدها.
أعادت نظرها إلى مورفي، فوجدت أنَّ لون وجهه أصبحَ أكثر شحوبًا من ذي قبل.
ثمَّ… خطر ببالها شيءٌ قرأته في أحدِ الكتب—التَّنفُّس الصِّناعيُّ.
لكنَّ ذلكَ يعني… أن تلتقيَ شفتاه بشفتيها.
كان الأمر غيرَ لائقٍ لفتاةٍ لم تقم بعد بحفل الظهور الأول، لكن لم يكن لديها أيُّ خيارٍ آخر، ولا وقتٌ للتَّفكير.
وضعتْ إصبعيها على أنفه، وأخذت نَفَسًا عميقًا، ثمَّ بدأت تقترب من شفتيه ببطءٍ…
تمامًا قبل أن تتلامسَ شفَتاهُما، انفتحتْ عينا مورفي فجأةً!
“آاااااه!”
“كياااااه!”
تلاقت عيونُهما للحظةٍ، ثمَّ قفزت جوليانا إلى الوراءِ، وهي تصرخُ في صدمةٍ.
كان مورفي مصدومًا أيضًا. جلس بسرعةٍ وهو يسعل الماءَ، بينما أمسكت جوليانا صدرها، حيث كان قلبها ينبض بجنونٍ.
“ل-ليس الأمر كما تظنُّ!”
لم يسألْ مُورفي أيَّ شيءٍ، ولكنَّها بدأت تبرِّر موقفها على الفور. لم يسبقْ لها أن شعرت بهذه الفوضى أمام أيِّ شخصٍ.
“جولي… إذًا، لقد وقعتِ في حبِّ جمالي بعد كُلِّ شيءٍ، أليس كذلك؟!”
“لا! مستحيل!”
“لذلك حاولتِ… سرقة شفتيّ؟”
“أخبرتك أنَّ الأمر ليس كما تظنُّ!”
[ يُتبع في الفصل القادم ……. ]
– ترجمة خلود