11
عادت جوليانا إلى المنزل بملامح كئيبة. لم يعد الطريق إلى المكتبة، الذي كان ممتعًا عندما كانت وحدها، ممتعًا على الإطلاق.
لو كانت الأمور ستنتهي هكذا، لكان من الأفضل لو لم تلتقِ به من الأساس.
كما كانت جوليانا أول صديقةٍ لمورفي، كان هو أيضًا أول صديقٍ لها. لم تكن مهتمة أبدًا بالعلاقات الإنسانية، ولم يسبق لها أن تلقت أيَّ مودةٍ من أحد. لهذا لم تكن تعرف. لم تدرك أن أول دفءٍ تتلقاه من شخصٍ ما سيصبح عبئًا عليها بهذا الشكل.
الأيام التي قضتها معه بدت وكأنها حلم. حلمٌ دافئ لم تكن تشعر به في ذلك الوقت.
“هاه…”
تنهدت جوليانا بعمقٍ دون أن تشعر.
بينما كانت مستلقيةً على سريرها، شاردة الذهن لوقتٍ طويل، سمعت فجأةً صوت طرقٍ على الباب.
“جولي.”
كان صوت ساليتا. لا بد أنها جاءت لتتحدث عن حفل الظهور الأول مرة أخرى. لم تجب جوليانا. لكن ساليتا فتحت الباب ودخلت ببساطة.
“أنتِ هنا، فلماذا لا تردّين؟”
“… لا شيء.”
“انهضي للحظة.”
أمسكت ساليتا بيدها وسحبتها بالقوة.
“آه، لماذا؟”
لم تكن جوليانا ترغب في فعل أيِّ شيء. كان كل شيءّ مزعجًا بالنسبة لها. لكنها، تحت إلحاح أختها، نهضت من على السرير.
“حفل ظهوركِ الأول في الأسبوع القادم. هل نسيْتِ؟”
لم تستطع ساليتا فهم موقف جوليانا. فحفل الظهور كان حدثًا تحلم به كل شابةٍ نبيلة.
كانت جوليانا دائمًا تقول إنها تفضّل العيش حياةً عادية، لكن في الحقيقة، لم يكن هناك شيءٌ عادي بشأنها. بل كانت غريبة؛ مختلفة تمامًا عن غيرها من النبلاء.
“أعلم.”
“ما زلتِ بحاجةٍ إلى اختيار فستانكِ ومجوهراتكِ، والتفكير في كيفية تزيين قاعة الحفل.”
“يمكنكِ الاهتمام بذلك.”
كان ردها باردًا، كعادتها. ضاقت عينا ساليتا وهي تنظر إلى غرة شعر جوليانا الطويلة التي تغطي عينيها.
“أنا أهتم بذلك؟ حسنًا، إذًا لنبدأ بقص هذا.”
أشارت ساليتا إلى غرة جوليانا. عبست جوليانا وغطت مقدمة شعرها بكفّها.
“لا.”
“تبدين خانقةً بهذا الشكل. لا تنوين الظهور في حفل ظهوركِ بهذه الهيئة، أليس كذلك؟”
لو ظهرت في الحفل وعيناها مغطاتان بالكامل، فستبدو مثيرةً للسخرية. مجرد تخيل الأمر كان مرعبًا.
لكن ماذا لو قصّت غرتها وتغيّر لون عينها اليمنى؟ سيكون ذلك أسوأ بكثير.
“سأذهب كما أنا.”
“قد تتعرضين للإحراج. لا، بل ستتعرضين للإذلال. النبيلات قاسيات، كما تعلمين.”
“… لا يهمني.”
كانت تفضّل أن تعيش بهدوءٍ دون لفّت الأنظار. لكن لو كان عليها أن تختار، فأن تكون محط سخريةٍ صغيرة كان أفضل من كشف حقيقة عينيها مختلفتي اللون.
لكن من الواضح أن ساليتا لم تكن راضيةً عن إجاباتها.
“هل تفكرين بنفسكِ فقط؟”
“… ماذا؟”
“عليكِ مراعاة سُمعة العائلة. لا تفكّري في نفسكِ فقط. موقفكِ الحالي ليس برودًا، بل أنانية.”
بقولها ذلك، وقفت ساليتا فجأةً وخرجت من الغرفة، مغلقةً الباب خلفها بقوة.
بمجرد أن غادرت أختها، استلقت جوليانا مجددًا على سريرها. لم تعد تريد التفكير في أيِّ شيء. لم تكن ترغب في حضور الحفل أصلًا.
‘لماذا هي مهتمة جدًا بحفل ظهوري؟’
رمشت جوليانا بعينيها ببطء، ثم، وكأن مجرد التفكير أصبح عبئًا، أغلقت عينيها.
* * *
“أمي، أعتقد أننا يجب أن نختار هذا الفستان.”
“لمَ لا تختارينه مع جوليانا؟”
“… إنها لا تهتم. لكن مع ذلك، لا يمكن أن ترتدي فستانًا من أيِّ علامةٍ تجارية، فنحن عائلة سيرين النبيلة.”
على الرغم من لامبالاة جوليانا، كانت ساليتا تختار الفستان بعناية. ولم يكن فستانًا عاديًا، بل من العلامة التجارية نفسها التي ارتدتها إحدى الأميرات في حفل ظهورها.
أومأت الكونتيسة برأسها متفقةً معها. كان ذلك منطقيًا.
ربما لم تهتم جوليانا أبدًا بالعلامات التجارية أو التصاميم، لكن باعتبارها ابنة عائلةٍ نبيلة، لا يمكن السماح لها بارتداء أيِّ فستان. ربما كان الأمر مبالغًا فيه قليلًا، لكن…
“افعلي ما ترينه مناسبًا.”
“همم، الآن المجوهرات…”
حان وقت اختيار المجوهرات. بدأت ساليتا تقلّب في كتاب التصاميم، وهو كتابٌ يعود لأفضل متجر مجوهرات في الإمبراطورية.
ابتسمت الكونتيسة وهي تراقب ابنتها، التي كانت أكثر تركيزًا من أيِّ وقتٍ مضى، حتى أكثر مما كانت عليه في حفل ظهورها.
“أنتِ تبذلين جهدًا كبيرًا في هذا الأمر.”
“ماذا؟”
رفعت ساليتا رأسها من الكتاب ونظرت إلى والدتها في حيرة.
“أعني حفل ظهور جوليانا.”
“حسنًا، إنه من أجل سُمعة العائلة…”
“لكن هذا ليس السبب الوحيد، صحيح؟”
كانت والدتها دائمًا سريعة البديهة في مثل هذه الأمور.
أخرجت ساليتا شفتها السفلية قليلًا.
بالطبع، كانت تهتم بأمر أختها. لكن كان هناك سببٌ آخر أيضًا. رفعت يدها ولمست الكريستال الأخضر المتدلّي من قلادتها.
“لديَّ شعورٌ غريب.”
“شعورٌ غريب؟”
ما قالته لوالدها لم يكن كذبًا تمامًا. لقد ذكرت أن ضيوفًا مهمين سيحضرون، لكنه لم يكن السبب الوحيد.
لطالما كانت توقعاتها صائبة. وهذه المرة، كانت غريزتها تخبرها …..
“سيحدث شيءٌ كبير في يوم حفل ظهور جوليانا.”
لم تستطع الكونتيسة تجاهل كلمات ساليتا. فكل توقعاتها السابقة كانت صحيحةً تقريبًا. عبست الكونتيسة قليلًا وسألت على الفور،
“ما نوع الشعور الذي يراودكِ؟”
ترددت ساليتا للحظة قبل أن تتحدث أخيرًا.
“لا أعرف لماذا، لكن كلما نظرت إلى جوليانا، أفكر في الماء والقصر الإمبراطوري.”
“القصر الإمبراطوري؟”
لم تكن لعائلة سيرين أية صلة بالقصر الإمبراطوري.
عندما وُلِدت ساليتا بحظٍ استثنائي، كان هناك أملٌ ضئيل. لكن طوال هذه السنوات، لم يصل أيُّ اتصالٍ من القصر الإمبراطوري. حتى في يوم حفل ظهورها، لم تتلقَّ سوى رسالة تهنئةٍ من الإمبراطورة.
لكن الآن، تفكر في القصر؟ ظهر بريقٌ خفيٌ من الترقب في عينيّ الكونتيسة.
لاحظت ساليتا النظرة المتوقعة في عينيّ والدتها، فحاولت تهدئتها على الفور.
“لا تتحمّسي كثيرًا. إنه مجرد إحساس.”
“فهمت. لنكمل اختيار المجوهرات.”
لكن من الواضح أن الكونتيسة كانت متحمسةً بالفعل. كان صوتها أكثر حيوية، وأصابعها تقلّب صفحات كتاب التصاميم بنشاط.
‘لهذا لم أرِد أن أقول شيئًا… لكن، حسنًا، ليحدث ما سيحدث.’
هزّت ساليتا رأسها وعادت للتركيز على الكتاب.
* * *
“سمّوك، هل أنت مستعد؟”
“نعم، أنا جاهزٌ تمامًا!”
أخيرًا، كان هذا هو اليوم المنتظر لحفل ظهور جوليانا إلى المجتمع.
بما أن الإمبراطور قد أغلق الفتحة السرية مسبقًا، لم يكن لدى مورفي أيُّ وسيلةٍ للخروج. فكر للحظةٍ في إرسال رسالة، لكنه أدرك أن أيَّ رسالةٍ تغادر قصر ولي العهد ستخضع بلا شكٍ لتفتيش الإمبراطور. حتى لو أرسل إيلين، فالأمر سيان، إذ إن إيلين أيضًا تحت مراقبة الإمبراطور.
علاوة على ذلك، إذا علم الإمبراطور بأنه سيحضر حفل ظهورها اليوم، فمن يعلم ما الذي قد يفعله؟
كان مورفي يحمل بين يديه صندوق هدية ملفوفًا بعناية. لاحظ إيلين ذلك، فأمال رأسه متسائلًا.
“هل لديك معرفةٌ شخصية بالآنسة سيرين؟”
“أه… ماذا؟”
عندما تلعثم في كلامه، أدرك إيلين على الفور السبب وراء خروجه سرًا في السابق.
بما أن المنطقة قريبةٌ من القصر الإمبراطوري، فمن الطبيعي أن يقطن معظم نبلاء العاصمة بالقرب من مركز المدينة الصاخب. ولكن أقرب قصرٍ نبيلٍ إلى الفتحة السرية المغلقة كان قصر عائلة سيرين.
سأل إيلين بفضولٍ واضحٍ يشع في عينيه.
“كيف التقيتما؟”
“…لقد كنت عالقًا في الحفرة، وهي من أنقذتني.”
تحطمت أوهام إيلين الرومانسية إلى شظايا متناثرة. وكأنه سمع صوت تكسيرٍ في عقله.
سأل مجددًا، غير مصدق.
“تلك الفتحة السرية؟”
“أه… نعم.”
أجاب مورفي بصوتٍ خافت، ووجنتاه محمرّتان خجلًا. ابتسم إيلين بتوتر ثم أسدل عليه رداءً بغطاء رأس.
“من الآن فصاعدًا، أنت لست وليَّ العهد، بل ابن عمي مورفي.”
“مفهوم.”
“وأثناء وجودنا خارج القصر، لا تتكلم على الإطلاق.”
“حسنًا!”
أجاب مورفي بحماس. كان متحمسًا للغاية. فهذه هي المرة الأولى منذ أن كان في الثالثة من عمره التي يعبر فيها بوابات القصر بكل ثقة. حتى لو كان عليه إخفاء هويته، فقد كان الأمر مثيرًا.
لحسن الحظ، لم يشك أحد فيهما بفضل وجود إيلين. علاوةً على ذلك، فإن معظم الناس لم يسبق لهم رؤية وجه وليِّ العهد من قبل.
تمكنا من الوصول إلى بوابة القصر دون أيِّ مشاكل.
“لقد مضى وقتٌ طويلٌ منذ أن جئت إلى هنا آخر مرة.”
“…هل تتذكر ذلك؟”
“كنت في الثالثة من عمري، فلا بد أنني أذكره.”
لم تكن الذكرى واضحة تمامًا، لكنها لم تُمحَ كليًا. كان يتذكر بشكلٍ غامضٍ رحلةً قديمة في عربةٍ مع والديه.
كان والده قد فتح نافذة العربة على مصراعيها ليترك الهواء النقي يدخل. تسللت نسمات الربيع، تداعب خصلات شعره برفق.
كان والده ينظر إليه بعطف، وأمه، التي كانت تراقب ابنها وزوجها، بدت سعيدةً بحق.
“هل نذهب الآن؟”
“نعم، لنفعل ذلك.”
بينما كان مورفي يحدق بأسى في أعمدة البوابة، تحدث إليه إيلين. ابتسم مورفي وهز رأسه موافقًا.
وضع مورفي قدمه بحذر خارج بوابة القصر. اجتاحه إحساسٌ غريب لا يمكن وصفه بالكلمات.
وفجأة، سُمع صوتٌ مألوف.
“توقفا هناك. السير أكويلا.”
كان الحرس الشخصيون المقربون من الإمبراطور هم من نادوا على إيلين ومورفي. كانوا يعرفون وجه مورفي.
لم يستطع مورفي الالتفات أو الفرار. وقف متجمدًا في مكانه، متوترًا.
استدار إيلين ببطء لينظر إليهم، ثم سأل بهدوء،
“ما الأمر؟”
“من هذا الذي بجانبك؟”
أشار أحد الحراس برأسه نحو مورفي، الذي كان يرتدي رداءً بغطاء رأس، مما جعله يبدو مريبًا.
“إنه ابن عمي.”
“ابن عمك؟”
تبادل الحراس النظرات بارتياب، ثم بدأوا يقتربون خطوةً بعد خطوة من إيلين ومورفي.
كلما اقتربوا، كان قلب مورفي ينبض بجنون. أنفاسه أصبحت ثقيلة. لم يكن بإمكانه أن يُقبض عليه الآن.
“دعنا نرى وجهه.”
“إنه لا يدخل القصر، بل كان فقط يتجول معي قبل أن نغادر. لماذا هناك حاجةٌ للتحقق من هويته؟”
“بغض النظر عن ذلك، أرنا وجهه.”
“أعتذر، لكن ابن عمي يعاني من مرضٍ جلدي، ولا يمكنه إظهار وجهه.”
تبادل الحراس نظراتٍ ذات مغزى. بدا أنهم على وشك انتزاع الغطاء بالقوة. ابتلع مورفي ريقه بتوتر.
مدّ أحد الحراس يده نحو رداء ميرفي، عازمًا على كشفه.
“لا!”
قطّب إيلين حاجبيه وصرخ. وصلت يد الحارس إلى الرداء.
وفي تلك اللحظة بالضبط …..
[ يُتبع في الفصل القادم …… ]
– ترجمة خلود