حتى في هذه الحالة، لم يستطع مورفي إلا أن يبتسم قليلًا عندما رأى والدته وإيلين لأول مرة منذ ثلاثة أيام. أما إيلين، الذي كان على وشك البكاء، فقد أدار رأسه بعيدًا. كيف يمكنهم معاملة وليِّ العهد بهذه الطريقة؟
بارڤانا، التي غمرها الحزن، بكت بينما كانت ترتجف من الغضب.
“لنذهب. لنعد إلى القصر.”
“هل انتهت عقوبتي الآن…؟”
عقوبة. عند سماع كلمات مورفي، انقبض قلب بارڤانا.
لقد كانت هذه أول مرة يخرج فيها هذا الفتى، الذي لم يخطُ خارج القصر منذ كان في الثالثة من عمره. هل يستحق حقًا مثل هذه العقوبة الفظيعة لمجرد أنه تجوّل قليلًا في شارعٍ مزدحم؟
خصوصًا أن هذه كانت الإمبراطورية التي سيحكُمها يومًا ما. كان من الطبيعي أن يرغب في رؤية كل شيءٍ بعينيه.
“فُكُّوا الأصفاد حالًا.”
“نعم، جلالتكِ.”
سارع الفرسان إلى فكّ الأصفاد التي كانت تقيّد معصميّ مورفي. ومع صوت اصطدام السلاسل، نالت يداه حريّتهما أخيرًا. لكنّ الآثار الحمراء التي خلّفتها الأصفاد كانت لا تزال واضحةً على جلده.
نظر إيلين إلى تلك الآثار بأسى قبل أن يسند مورفي، الذي كاد ينهار بين ذراعيه.
“اتّكئ عليَّ، يا سمّوك.”
“شكرًا، إيلين.”
استند مورفي إلى كتفه، محاولًا تحريك جسده بصعوبة. ثم، وكأنّ شيئًا ما قد خطر بباله، فتح فمه ببطء. كانت عيناه لا تزالان مركّزتين على الكدمات الظاهرة على وجه إيلين.
“ولكن، إيلين… هل جروحك بخير؟”
‘يا له من شخصٍ طيّب ….’
انعقد حلق إيلين، فلم تستطع الردّ فورًا. مهما كان الذي تعرّض له خلال الأيام الثلاثة الماضية، فقد أصبح لون بشرته البيضاء شاحبًا تمامًا، كما بدت الهالات السوداء واضحةً تحت عينيه.
لم يستطع أن ينظر إلى وجه مورفي مباشرةً. أدار رأسه وأطلق تنهيدةً عميقة.
“…أنا بخير. رجاءً، اعتنِ بنفسكَ، يا صاحب السمّو.”
“أنا بخير. لكنّني كنتُ قلقًا عليكَ …”
صعدت بارڤانا وإيلين ومورفي معًا إلى الطابق العلوي. بعد ثلاثة أيام، عانقته أشعة الشمس الدافئة.
بعد أن كان محبوسًا في الظلام، كان الضوء شديد السطوع. أغمض مورفي عينيه لا إراديًّا.
وفي تلك اللحظة، خطرت بباله صورة شخصٍ ما.
جوليانا.
هل كانت تنتظره؟ أم أنها كانت سعيدةً لأنّ المشاغب المزعج لم يعد موجودًا؟
لم يمرّ سوى ثلاثة أيام من أسبوعهما المعتاد معًا، ومع ذلك، فقد اشتاق إليها بشدّة. يبدو أنّه حقًّا يُكِنّ لها مشاعر خاصّة.
عند تذكّره ملامح جوليانا العابسة المعتادة، ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ صغيرة دون أن يدرك. حتى لو تعرّض للعقاب مجدّدًا، فإنه يودّ الخروج فقط لرؤيتها.
“سمّوك، كُن حذرًا.”
بعد عودته إلى غرفته، استند مورفي إلى الأريكة، متّكئًا على دعم إيلين. كانت الكدمات التي غطّت جسده تجعل حتى الجلوس أمرًا مؤلمًا.
“آه…”
“إيلين، هل يمكنك إحضار قطعة قماشٍ مبللة وبعض الدواء؟”
“نعم، جلالتكِ.”
غادر إيلين بسرعة، بينما نظرت بارڤانا إلى مورفي بعينين مليئتين بالأسى. لكنّه ابتسم لها، كما لو أنه كان بخير.
إلّا أن تلك الابتسامة لم تفعل سوى زيادة ألم الإمبراطورة.
“هل أنتَ حقًا بخير؟”
“بالطبع، هذا ليس بالأمر الكبير …..”
“ما الذي فعله والدكَ بك؟”
عند سماع سؤال بارڤانا، تغيّر لون وجه مورفي على الفور.
على مدى ثلاثة أيام، لم يُعطه الإمبراطور حتى رشفة ماء، ولا قطعة خبزٍ يابسة. وبحجة أنه عقابٌ على جلبه الشؤم، انهال عليه بالسوط دون رحمة.
وعيناه المجنونتان تحدّقان به، قال له:
– هذا ما يعنيه تحمّل المسؤولية.
لكن مورفي لم يكن قادرًا على إخبار والدته بالحقيقة. فهو كان يعلم منذ زمن، لطالما كان يعلم؛ أن الإمبراطور لم يكن والده الحقيقي.
ظنّت بارڤانا أنه كان صغيرًا جدًّا ليتذكّر، لكنه كان لا يزال يحمل ذكرى ذلك اليوم بوضوح. تلك العيون الجشعة التي تلألأت وسط نيران ذلك الجحيم، لم يستطع نسيانها أبدًا.
“مورفي.”
“…أنا بخير، أمي.”
رغم إصرار بارڤانا، أجاب مورفي بهدوء. كان عليه أن يكون بخير. لأنّ والدته كانت تعاني ألمًا أشدّ بكثير.
“لديّ طلب.”
“طلب؟”
لم يكن يومًا ممّن يطلبون شيئًا. نظرت إليه بارڤانا بدهشة، ثم أمسكت يديه الخشنتين وأومأت برأسها.
“اطلب كلَّ ما تريده.”
“أريد حضور حفل الظهور الأول للمجمتع القادم.”
“حفل الظهور الأول؟”
إن كان الحفل القادم، فلا بدّ أنه حفل تقديم الابنة الثانية لعائلة سيرين.
كانت ثروة عائلة سيرين هائلة، حتى أن العائلة الإمبراطورية كانت تراقبها عن كثب، لكن الكونت نفسه لم يُظهر أيَّ طموحٍ سياسي، ونادرًا ما زار القصر.
حتى لو كان مورفي وليّ عهدٍ عادي، لم يكن حضور أفراد العائلة الإمبراطورية ضروريًا.
نظرت بارڤانا إليه بحيرة.
“هل لديكَ سببٌ محدّدٌ لرغبتك في الذهاب؟”
“حسنًا…”
“هذه أول مرة تُبدي فيها رغبةً في الذهاب إلى مكانٍ ما.”
قالت ذلك بنبرةٍ مريرة.
“وأول مرةٍ تطلب مني شيئًا.”
ماذا يمكنها أن تفعل؟ كانت قد أثارت ضجّةً كافيةً لإبعاد إيڤريل عن مورفي مؤقتًا.
لكن المشكلة الحقيقية كانت في الفوضى التي قد يجلبها مورفي معه. لو انتشرت حقيقة إمتلاكه لنبوءة الحظ السيء، فقد يصبح منصبه في خطر.
وكان هذا بالضبط ما كان إيڤريل يتمناه.
“سأرافقه.”
في تلك اللحظة، دخل إيلين إلى الغرفة، وهو يدفع صينيةً مليئةً بالمستلزمات. وضعها بجوار الطاولة ثم انحنى أمام بارڤانا.
“يمكنني أن آخذه معي على أنه ابن عمي. عائلة سيرين سترسل دعوة لعائلتي بالتأكيد.”
“إيلين…”
امتلأت عينا مورفي بالامتنان.
نقع إيلين منشفةً في ماءٍ دافئ، ثم بدأ يمسح آثار الدم على جلد مورفي بحرص. رغم خشونة يديه، شعر مورفي بالدفء.
بعد الانتهاء من العلاج، أخرج إيلين صينيةً أخرى. فوقها، وُضعت أطعمةٌ خفيفة لن تجهد معدة مورفي بعد ثلاثة أيامٍ من الجوع.
مدّ إليه وعاء الحساء.
“تفضّل، سمّوك.”
“…شكرًا.”
رفع مورفي الملعقة وتناول الحساء الساخن. سرت حرارة الطعام في حلقه، وأخيرًا شعر بشيءٍ من الحياة تعود إليه.
“إذًا، فلنفعل ذلك.”
“…ماذا؟”
“تنكّر على أنك ابن عم إيلين، واذهب. لا يمكنك البقاء محبوسًا في هذا القصر للأبد.”
لم يكن يتوقع الحصول على الموافقة، فكاد يختنق بالحساء.
ناوله إيلين كوب ماءٍ بابتسامةٍ خفيفة، فشربه بسرعة. لم يستطع تصديق ما سمعه، فارتفع صوته بحماس.
“حقًا؟ هل تسمحين لي بذلك؟”
“نعم، مورفي.”
ابتسمت بارڤانا بلطف، ومرّرت أصابعها برفقٍ بين خصلات شعره. ملأ الفرح قلب مورفي، فأنهى حساءه بالكامل.
كان عقله منشغلًا بشيءٍ واحد؛ أيُّ هدية سيحضرها لــ جوليانا في حفل ظهورها الأول؟
سيراها أخيرًا في مكانٍ آخر غير الأزقّة.
حاول تهدئة نبضات قلبه المتسارعة، لكنه لم يستطع إخفاء ابتسامته المشرقة.
* * *
“هذا ……”
“هذه ميزانية حفل ظهور جوليانا.”
“أنتِ من وضعتِ هذه الميزانية، سالي؟”
أومأت ساليتا برأسها مع تعبيرٍ متعالٍ على وجهها.
قرأ الكونت بعنايةٍ أكوام الأوراق التي أحضرتها ابنته. كانت الخطة تتألف بالكامل من ترتيباتٍ فاخرةٍ ومنتجاتٍ راقية.
بالطبع، مع الثروة التي تمتلكها عائلة سيرين، لم يكن هناك شيءٌ لا يمكنهم تحمله. ولكن بالنظر إلى أن الأمر يتعلق بــ جوليانا وليس بــ ساليتا نفسها، فقد بدا الأمر مبالغًا فيه بعض الشيء.
“ألا تعتقدين أن هذا مبالغٌ فيه قليلًا؟”
“ماذا تعني؟ بالنسبة لعائلةٍ بحجم عائلة سيرين، هذا هو الحد الأدنى مما يجب أن نفعله، يا أبي.”
كان موعد حفل ظهور جوليانا يقترب بسرعة، ومع ذلك بدا الكونت والكونتيسة غير متحمسين له، وكأنهما يريدان إنهاء الأمر ببساطة. الكونت كان رجل أعمال، ولم يكن هناك سببٌ لتخصيص ميزانيةٍ ضخمةٍ لحفل ظهور جوليانا، خاصة وأنها نفسها لم تبدِ اهتمامًا كبيرًا به.
لكن ساليتا لم تكن تفكر مطلقًا في السماح بأن يكون حفل ظهور جوليانا حدثًا بسيطًا. كان لا بد أن يكون على الأقل أكثر روعةً مما كان عليه حفل ظهورها.
“حدسي يخبرني ….. أننا سنستقبل ضيوفًا في غاية الأهمية.”
عندما لم يُبدِ والدها أيَّ رد فعلٍ يُذكر تجاه خطتها، قررت ساليتا أن تستخدم ورقتها الرابحة.
سوف تستخدم نبوءة الحظ الخاصة بها.
“ضيوفٌ مهمون؟”
أخيرًا، أظهر استجابة.
ابتسمت ساليتا ابتسامةٍ رقيقة وأجابت.
“نعم. إذا كنا سنستقبل ضيوفًا رفيعي المستوى، أليس علينا أن نُظهر ثراء عائلة سيرين؟ لا يمكننا التعامل مع الأمر بلا مبالاة.”
“هذا صحيح. إذا كانت سالي العزيزة تقول ذلك، فلا يمكنني تجاهله.”
سارع الكونت بالتوقيع على الخطة وأعادها إليها.
“ساعدي والدتكِ في التحضير على النحو المناسب.”
نظرت ساليتا إلى الخطة الموقعة برضا.
ثم، فجأةً، خطرت جوليانا في بالها. هل كان ذلك الأسبوع الماضي؟ بدا وجه أختا أكثر إشراقًا بشكلٍ ملحوظ، مما جعلها تتساءل عما إذا كان قد حدث تغييرٌ في مشاعرها.
كانت غالبًا ما تبدو شاردة الذهن، وأحيانًا تُطلق ضحكةً صغيرة، وخطواتها بدت أخف أثناء توجهها إلى المكتبة.
لم تكن ساليتا تكره هذا التغيير في جوليانا. كان على أختها أن تكون أكثر إشراقًا بعض الشيء.
ولكن خلال الأيام القليلة الماضية، أصبحت جوليانا أكثر كآبةً من ذي قبل. باستثناء زياراتها إلى المكتبة، لم تكن تخرج من غرفتها.
كانت تخرج بحجة الذهاب إلى المكتبة، لكنها كانت تبدو أكثر حزنًا عند عودتها. حاولت ساليتا استفزازها قليلًا على أمل أن تتحدث، لكنها كانت أقل استجابةً من أيِّ وقتٍ مضى.
بينما كانت ساليتا على وشك مغادرة مكتب والدها، توقفت عند الباب، ثم استدارت مجددًا.
ثبتت نظرها على والدها وتحدثت بنبرةٍ حادةٍ قليلًا.
“جوليانا محبوسةٌ في غرفتها منذ أيام. ألا يبدو هذا غريبًا بالنسبة لك؟ على الأقل، تظاهر بأنك تهتم بها، أبي.”
ثم أغلقت الباب بقوة.
بدا الكونت مذهولًا من نبرة ابنته الحادة غير المعتادة، ولم يفعل شيئًا سوى التحديق بدهشةٍ في الباب الذي خرجت منه.
* * *
كانت جوليانا تحدق بشرودٍ في جدران القصر. الفتحة الصغيرة التي كان مورفي يستخدمها للدخول والخروج قد تم سدُّها بصخرةٍ كبيرة.
‘مورفي ……’
في يديها كانت هناك شطيرةٌ لم تجد صاحبها منذ أيام.
كلَّ يوم، كانت تُعد شطيرةً طازجة وتذهب إلى بوابة القصر، على أمل أن يكون مورفي هناك في انتظارها، تمامًا كما فعل في ذلك اليوم الممطر، عندما ظل واقفًا ينتظرها بمظهره البائس.
ولكن بعد أكثر من أسبوع، لم يكن له أيُّ أثر.
‘هل يمكن أن يكون وليُّ العهد مريضًا جدًا حقًا؟’
[ يُتبع في الفصل القادم …… ]
– ترجمة خلود.
التعليقات لهذا الفصل " 10"