حلَّ صباح اليوم المنتظر، اليوم الأول لافتتاح المقهى. اهتز الباب الزجاجي الكبير محدثًا رنينًا صغيرًا مع الجرس المعلّق عليه.
“أهلًا وسهلًا بكم.”
“…….”
“لحظة، الزبون… أنت وحدك؟”
لم تكد برييل تبتسم بترحيب حتى تغيّر أسلوبها في لحظة، مما جعل أوكتافيا تصدم من ذلك التحول. فصرخت في وجه صاحبة المقهى الفاترة.
“سيأتي أصدقائي بعد قليل! أنا جئت مبكرًا اليوم لأني منظِّمة اللقاء!”
“أهلًا وسهلًا، سأقوم بإرشادك بنفسي.”
تنهدت أوكتافيا حينما عادت برييل فجأة إلى أسلوبها المهذب، فيما كانت مولي التي تراقبهما من الخلف تكتم ضحكة صغيرة.
اتبعت أوكتافيا خطوات برييل حتى جلست على طاولة بيضاء في الخارج. كانت أشعة الصباح البيضاء تتدفق في تلك اللحظة، لتضيء شعرها الأحمر وفستانها الأصفر الليموني الذي يكشف قليلًا عن كتفيها، فيظهرها بمظهر أنيق.
“أنتِ جميلة على غير العادة اليوم، سيدتي.”
“كفى لعب دور صاحبة المقهى واجلسي قليلًا.”
“لعب؟ أنا جادة هنا، أعول نفسي بهذا العمل. آه، لكن الأثرياء دائمًا يرونه لعبة، أليس كذلك؟”
“ها هي تبدأ ثرثرتها مجددًا. اجلسي فقط.”
ضحكت قليلًا، ثم جلست برييل في المقعد المقابل كما طلبت أوكتافيا. لكن سرعان ما ظهرت علامات التساؤل في عينيها الزرقاوين.
“لستُ أمزح، لقد تأنقتِ فعلًا اليوم. مظهرك بغاية الفخامة.”
“مـ.. من قال إني تأنقت!”
“ههه، صحيح؟”
تشابكت ذراعا برييل، واستندت بظهرها إلى الكرسي. حين نبهتها أوكتافيا أن تصرفها يشبه الأشرار، لم تكترث برييل، بل استمرت في التحقيق.
“لون بشرتك أفتح بدرجة من المعتاد، على وجنتيك لون وردي مصطنع، وشفاهك مطلية بشكل بارز جدًا. هذا ليس تأنقًا؟”
“قلت لكِ لا تحللينني…! على كل، كنت سأخبرك، ولهذا طلبت منكِ الجلوس أصلًا.”
أخرجت أوكتافيا من حقيبتها منديلاً ومسحت به عرق جبينها، ثم بدأت تفضي بهمومها أمام برييل التي كانت تنظر إليها بعينين لامعتين.
“حضرت حفلة منذ يومين. وهناك جاءني رجل وسيم فجأة، وما إن رآني حتى قال إن ثلاثية أصوات ملائكة صغار راحت تتردد في أذنه.”
ضحكت برييل ساخرة وردّت:
“هاها، ومن أين يعرف لحن الملائكة؟ هل جرّب الموت مثلًا؟”
“أرجوك، غيّري أسلوبك هذا. هل تتحدثين هكذا حتى مع الزبائن؟ اسمعي باقي القصة. بعد ذلك قال: أمام جمالي انطفأ نور الشمعدانات الفاخرة.”
“أي أبله هذا؟ كيف يموت النور وهو ليس كائنًا حيًا أصلًا؟ أي عائلة ينتمي إليها ذلك الغبي؟”
“ليست هراءً! إنها طريقة تعبير بليغة فيها مبالغة شاعرية. همم، ويجب أن تنتبهي لكلامك، فهو… من العائلة المالكة.”
“ماذا؟ أمير؟”
أومأت أوكتافيا خجولًا على تأكيد برييل، وكان وجهها قد احمر حتى كاد ينافس لون شعرها.
رفعت برييل أصابعها العشر وسألت مندهشة:
“يا إلهي، أي أمير؟ لحظة، كم عدد الأمراء أصلًا في هذا البلد؟ الملك لم يترك امرأة إلا وأنجب منها.”
“عدد الأمراء، مع ولي العهد، اثنا عشر. والذي قال إنه معجب بي هو الأمير الثاني عشر.”
“أصغرهم؟ ذلك الوسيم الفارغ الرأس… أقصد، البريء.”
لكن محاولة برييل لتغيير كلماتها باءت بالفشل، إذ سارعت أوكتافيا بتأكيد نيتها الأصلية.
“فارغ الرأس، نعم. رأسه نظيف جدًا… بشكل مبالغ فيه.”
ارتسمت خيبة واضحة في عينيها الخضراوين. حتى احمرار وجنتيها لم يكن بفعل الزينة وحدها، بل من صدمتها أيضًا.
“عجبًا. يبدو أن سمعة الناس عنه لم تكن خاطئة.”
“بالضبط. كان جمال وجهه حسرة بحد ذاتها.”
ظهر في كلام أوكتافيا أسى صادق. جمال الأمير الثاني عشر لم يكن يوازي عقله الفارغ، على ما يبدو.
نقرت برييل بلسانها وقالت بامتعاض: “هؤلاء أبناء الملك كلهم على هذه الشاكلة.” لم تكن تحب العائلة المالكة أبدًا. ورغم أنها لم تدخل المجتمع المخملي يومًا، إلا أن ما قرأته في الصحف كان كافيًا لتعرف مدى فسادهم.
ملك يظن تقليد الدول المجاورة سياسة، ولي عهد لا يظهر إلا بشائعات فضائح شهرية، وأمراء ينفقون ضرائب الشعب على ملذاتهم…
كلهم بلا استثناء كانوا مثار شفقة.
لذا، رأت برييل أن شعور أوكتافيا بخيبة الأمل بدلًا من الانبهار كان أمرًا جيدًا. فهي تعرف أن صديقتها من طبقة النبلاء الصغرى وتحلم بالزواج للارتقاء بمكانتها، لكن ليس بالضرورة أن يكون الزوج أميرًا.
(لكن لماذا تتصرف بقلق هكذا؟)
بعد أن أنهت حديثها، راحت أوكتافيا تتلفت داخل المقهى، تتنهد، وتتمتم بكلمات غير مفهومة. وبعد تفكير، اعتقدت برييل أنها وجدت الجواب.
“الحمّام بجوار المدخل.”
“ليس هذا ما أقصده.”
“إذًا ما الأمر؟”
وقبل أن تكتشف، فُتح باب المقهى مع رنين الجرس المبهج.
“تابي!”
“لقد جئنا!”
كانوا أول الضيوف الذين دعتهم أوكتافيا. وهكذا بدأ المقهى عمله الرسمي أخيرًا.
مع حلول الظهيرة، غصّ المكان بالنساء الراغبات بالقهوة والشاي. جئن بدافع الفضول لمقهى جديد، لكن سرعان ما بهرتهن الحديقة الخارجية الواسعة وحلويات مولي الشهية.
بفضل هذا النجاح المفاجئ، ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه برييل رغم انشغالها الشديد. أما أوكتافيا، فبينما كانت تتذمر من ضحك صديقاتها على رؤية ابنة أحد النبلاء الصغرى تقوم بخدمة الطاولات، لم تستطع إخفاء فرحتها هي الأخرى. وحين غادر ضيوفها، وقفت خلف صندوق الحساب وكأنها تساعد من غير قصد.
“همم؟ ما هذا؟”
خلال تنقلها بين الطاولات، لاحظت برييل شيئًا يثير الريبة: ظلّ يلوح خلف زجاج الباب وكأنه يترصّد.
قفزت فجأة وفتحت الباب بعنف، لكن الظل اختفى سريعًا وكأنه يسخر منها.
ما هذا؟ جرذ قذر؟
اختفت البسمة من وجه برييل الجميل لتحل محلها ملامح قلق.
هل يمكن أن يكون شخصًا أرسله ذلك النبيل؟
أصابها التوتر من فكرة أن يعكر أحد صفو العمل، فهي لا تستطيع التصرف بالقوة أمام الزبائن. لذلك راحت تدور بجنون حول المكان باحثة عن ذلك المتطفل لتطرده، لكن لم تعثر على شيء.
عادت بخيبة، والقلق لا يزال على وجهها. وحين سألتها أوكتافيا عن السبب، ردّت بصوت مملوء بالحدّة:
“أظن أن هناك جرذًا يلتف حول المكان. يجب أن أمسكه وألقنه درسًا.”
سمعت بعض الزبونات القريبات حديثها فأطلقن صرخة صغيرة. فسارعت أوكتافيا إلى تهدئتهن، مؤكدة أنه ليس جرذًا حقيقيًا، ثم وبّخت برييل هامسة:
“قلت لكِ أن تحذري كلماتك! كيف تقولين هكذا أمام الزبائن؟”
“لم أظن أن يفهمن خطأ. على كل حال، من يكون ذلك الجرذ؟ لقد بدا وكأنه ظل يتسكع هنا طويلاً… فقد رأيت آثار خطوات كثيرة.”
وبينما كانت برييل تعض على أسنانها غيظًا، اتسعت عينا أوكتافيا فجأة ثم انكمشت حاجباها بحرج. ولم يفُتها برييل ذلك التغير.
“ما بك؟ أتعرفينه؟”
“أظن… أظن أنه هو. الأمير الذي قال إنه أعجب بي من النظرة الأولى.”
—
* * *
منذ الافتتاح الأول، وحتى ظهور الأمير الجرذ… كان يومًا جنونيًا بحق.
ما إن غربت الشمس وأُغلق المقهى، حتى مدت برييل أمام مولي حزمة من النقود.
“خذي، هذا نصف ما ربحناه اليوم.”
“هـ.. هل حقًا تعطينني النصف؟ ظننتك تمزحين!”
نظرت مولي إليها بارتباك وبهجة، بينما ابتسمت برييل ابتسامة عريضة.
“بالطبع. من دون حلوياتك، لا شيء لهذا المقهى. سنقسم الأرباح مناصفة كل يوم.”
“هوهو، إن استمر عدد الزبائن كما كان اليوم فقط، فسوف أتجاوز راتبي الشهري الذي كنت أتقاضاه من قصر البارون في أقل من أسبوع.”
“سيكون الأمر كذلك بالتأكيد. لقد وثقتِ بي وتبعتي خطاي يا مولي، وأشعر بالأسف لأني لا أستطيع أن أعطيك أكثر.”
حين رأت مولي ملامح الاعتذار الصادق على وجه برييل، لوّحت بيديها نافية.
“ما الذي تقولينه يا آنستي؟ بفضلك أصبحت أعمل بجهد أقل ومع ذلك أكسب مالًا أكثر. بل وحتى مكان إقامتي صار أفضل بكثير.”
“أنا من يجب أن أشكرك على هذا الشعور. لقد بذلتِ جهدًا كبيرًا اليوم فعلًا. اصعدي بسرعة لترتاحي.”
كانت غرفتا نومهما كلتاهما في الطابق الثاني من مبنى المقهى. صعدت مولي الدرج كما أشارت لها برييل، لكنها توقفت فجأة. عيناها اللطيفتان ضاقتا بحذر حاد.
“لحظة يا آنستي. هل… هل تخططين لبدء ذلك الأمر من اليوم أيضًا؟ ألهذا السبب تحاولين إرسالي إلى الأعلى الآن، صحيح؟”
ابتسمت برييل بخجل وأجابت:
“لقد انكشف أمري إذن.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 4"