لم تكن أوكتافيا تدري أتبدي غضبها لأن بريل استخدمتها كفأر تجارب، أم تصدم من كون ابنة عائلة نبيلة تقوم بعمل لا يليق إلا بالخدم. فتسعت عيناها دون أن تدري بأي رد تبدأ.
لكن المدهش أن أول ما وقع عليه بصرها الواضح هو مظهر بريل السليم البهي. بعيداً عن طريقة تفكيرها الغريبة، كانت حقاً فاتنة.
شعرها الأشقر المائل إلى الفضي كان مضفوراً في جديلة سميكة تتدلى على كتفها الأيمن. وعيناها الزرقاوان، الصافيتان كزجاج، كانتا تتلألآن كصفحة ماء مشبعة بالضوء. وتحت عينيها المتوردتين دوماً ظل حزن شفيف يضفي على ملامحها مسحة شجية.
لو أنها فقط لم تفتح شفتيها الورديتين لتتكلم، لكان انطباعها عنها بالغ الرقة والضعف.
قالت بريل بخجل:
“آسفة لأني لم أخبرك قبل أن تشربي. لو قلت لك مسبقاً، ما كنت لتشربي أبداً…”
حقاً، لو أنها فقط لم تفتح فمها الماكر ذاك…
تنهدت أوكتافيا:
“هاه… صدقتِ في هذا.”
واعترفت بذلك مباشرة. لو علمت أن بريل هي من وضع يدها على الشراب، لما تجرأت على تذوقه.
فأخطر عيب في بريل، رغم كمال مظهرها، هو حاسة التذوق التي تكاد تكون معدومة. فمرةً قدمت لها قطعة شوكولا وقالت إنها لذيذة، فما كان من أوكتافيا إلا أن ذاقت وبكت ألماً… إذ لم يكن سوى خبز متفحم.
وبعد أن شطفت فمها بالماء عشرين مرة، قالت بصوت مرهق:
“إذا لم تريدي أن يفشل المقهى، دعي مولي تغلي الشاي لك، مفهوم؟ … وبالمناسبة، هل حددتِ مكان الإعلان؟”
“أجل! بالطبع! أريد هذا المكان.”
ابتسمت بريل بخفة وأشارت إلى الصفحة الأولى من الصحيفة الممدودة على الطاولة.
كدت أوكتافيا أن تنخدع بابتسامتها المشرقة، لكنها تماسكت سريعاً وقالت بحدة:
“أتمزحين؟ أي مقهى يعلن عن افتتاحه في الصفحة الأولى؟”
“هل هو غالٍ جداً؟ همم، ربما عليّ أن أذهب إلى الكازينو وأربح بعض المال… هذا حل سريع للسيولة.”
“المشكلة ليست السعر! صحيفة بركشاير تايمز لا تضع إلا الأخبار العاجلة في صفحتها الأولى، لا إعلانات!”
أمام اعتداد أوكتافيا بابنة الناشر، لم تجد بريل إلا أن تهز رأسها وتقبل بالواقع. وهكذا تقرر وضع الإعلان أسفل الصفحة الرابعة.
أما جرأتها السابقة، إذ كانت مستعدة لإغراق الصفحة الأولى بالمال، فقد تلاشت. ومع ذلك لم تتنازل بريل بسهولة، إذ ألقت على أوكتافيا كلمات مثل “خصم الوريثة”، حتى أرغمتها على تخفيض تكلفة الإعلان إلى النصف.
قالت أوكتافيا مزمجرة:
“يا لعنادك…”
ابتسمت بريل:
“ستغادرين الآن، صحيح؟ سأرافقك حتى العربة.”
“ما أن تنهي أشغالك، حتى تطردي الناس بأدب، أليس كذلك؟”
كان أمام المبنى ذي الطابقين ــ حيث تسكن بريل وحيث سيفتتح المقهى قريباً ــ تنتظر عربة فاخرة تجرها أربعة جياد لامعة، وبجانبها سائسان واقفان بوقار، وكلها دلالة على ثراء أوكتافيا.
اقترب أحد السائقين مسرعاً وفتح لها باب العربة. وبينما تدخل بخطوات معتادة، التفتت إلى بريل وقالت:
“سأعود غداً.”
أجابتها بريل:
“حسناً. اجلبِي معك الكثير من الزبائن. تذكري، من يجيء وحده ممنوع من الدخول.”
ضحكت أوكتافيا:
“لا تقلقي. على عكسك، لدي الكثير من الأصدقاء.”
وبينما كادت أحاديث الصديقتين الودية أن تنتهي، قفز سؤال مفاجئ من شفتي بريل نحو العربة:
“هل حددتم ما سيكون خبر الصفحة الأولى في عدد المساء؟ أنا فضولية لأعرف كم سيكون عظيماً.”
“آه…”
لكن وجه أوكتافيا تجمد بسرعة. وأخرجت نصف جسدها من باب العربة لتهمس بسر في أذن بريل:
“يقال إن دوق هيل يحتضر. حتى أخوه الأصغر عاد من الأقاليم على عجل إلى العاصمة. يبدو أن خبراً مؤسفاً قريب جداً… لست أدري إن كان سيكون عنواناً للعدد المسائي اليوم أو لعدد الصباح غداً… على كلٍ، سأذهب.”
تركت أوكتافيا صوتاً حزيناً يقطر أسى، ثم غادرت. وبريل، وهي تراقب العربة تبتعد وتتحول إلى نقطة في الأفق وسط الغبار، تمتمت بذهول:
“كيف حدث هذا للدوق…؟”
لم يسبق لها أن قابلت الدوق برادلي هيل، لكن دائماً ما اعتبرته رجلاً صالحاً. المقالات التي نشرت عنه في بركشاير تايمز، أو الافتتاحيات التي كتبها بنفسه، كانت تظهر عقلاً راقياً وإنسانية عميقة، وكلها جعلت بريل تقدره كثيراً.
بكلمات أخرى، برادلي هيل كان النبيل الوحيد الذي أثنت عليه بريل.
“هل سيكون أخوه مثله أيضاً؟ أظن أن هذين الأخوين هما كل ما تبقى من تلك العائلة… مؤسف لأمره أيضاً.”
أملت بريل من قلبها أن يتجاوز الدوق محنته ويعود للحياة، وهي ترفع دعاءها مخلصة، ثم همّت بالعودة إلى داخل المقهى.
لكن فجأة دوّى صهيل وصوت هرولة سريعة. حصان ضخم اندفع نحوها، فاضطرت بريل أن تتراجع بسرعة إلى الجدار. لحظة واحدة فقط كان يمكن أن تودي بها.
“واو، نجوت فقط لأنني أنا!”
مدحت سرعة بديهتها ورد فعلها الخاطف، ثم اعتدلت واقفة، بينما كان الرجل على صهوة الحصان يصرخ وهو يبتعد:
“آسف! أنا حقاً آسف!”
تأملت بريل الحصان البني الذي ابتلعته نهاية الشارع، والرجل فوقه، ثم أمالت رأسها بتعجب:
“…هيل؟”
تمتمت باسم العائلة وهي تحدق في التطريز على الحقيبة المعلقة بإحكام على خاصرة الحصان. ثم هزت رأسها ببطء.
“لا يعقل أن يكون ذاك شقيق الدوق. لم يصل إلى العاصمة بعد على ما أظن.”
إذن، يبدو أن اسم “هيل” أكثر شيوعاً مما تخيلت. ابتسمت بمرارة على نفسها، وهي تدرك كم تفتقر إلى خبرة المجتمع الراقي، ثم عادت ودخلت المقهى.
—
مات الدوق برادلي هيل.
وحياة آيدن هيل، الذي كان في الرابعة والعشرين من عمره وظن أن كل شيء يسير بسلاسة، انهارت على هذا النحو.
كونه الابن الثاني لإحدى قلة العائلات الدوقية في البلاد، كان أعظم نعمة حظي بها. فالمجد والثروة بين يديه كما يشاء، دون أن يحمل وزر المسؤولية.
وكانت الصدفة الأجمل أن شقيقه الأكبر، برادلي هيل، ذو الستة أعوام فوقه، كان نقيضه تماماً في الشخصية. فهو اجتماعي، متفائل، تغمره روح المسؤولية.
وبرادلي، بصفته زعيماً بالفطرة، لم يقد العائلة ببراعة فحسب، بل لعب أيضاً دور الوالدين اللذين رحلا باكراً، فغمر أخاه آيدن بعطف أبوي. وكان من الطبيعي أن يكنّ آيدن لأخيه الاحترام والحب العميق.
لذلك حين وصله خبر إصابة برادلي بطلق ناري على يد لص، واحتضاره بين الحياة والموت، لم يسعه إلا أن يعترف بغروره الطويل.
حياته التي بدا أنها تسير بلا مشاكل، لم تكن سوى وهمٍ يتظاهر به.
حتى إنه لا يذكر ما فكر به ولا ما فعله داخل القطار العائد إلى العاصمة. كل ما يذكره أنه بمجرد أن نزل من المحطة، خطف عربة الخدم الذين جاؤوا لاستقباله، واندفع نحو قصر الدوق. كاد في الطريق أن يدهس امرأة واقفة، لكنه لم يكن بوعيه.
وأول من استقبله عند وصوله كان طبيب العائلة، الذي قال له بوجه جاد:
“عليك أن تتهيأ، يا سيدي. مجرد أنه ما زال يتنفس حتى الآن معجزة بحد ذاتها.”
كان كلاماً يثير السخط، لكنه ــ للأسف ــ لم يكن خاطئاً. فما هي إلا لحظات حتى لفظ برادلي أنفاسه الأخيرة.
وقالت مدبرة الخدم، وهي تمسح دموعها بطرف مئزرها:
“لابد أنه كان ينتظرك، يا سيدي آيدن… ليلقي عليك تحية الوداع.”
لكن آيدن أجاب في قلبه: لا، لم يكن الأمر كذلك.
عرف تماماً ما قصدته المرأة، لكنه لم يستطع أن يشاركها ذلك الاعتقاد.
لو كان برادلي صمد فعلاً من أجل أخيه، لو كان قادراً على ذلك، لكان قد نجا. لكنه مات. بهذه السرعة. بهذه القسوة. بهذه اللا مسؤولية. بهذه المأساوية.
مهما أعاد آيدن التفكير، بدت له وفاة أخيه لا تليق به أبداً.
حتى بعد انتهاء مراسم الجنازة كلها، ظل آيدن غارقاً في حزن عارم يهزه كموج البحر.
وفي تلك الأثناء، وصل رسول من القصر الملكي إلى قصر الدوق. كان يحمل رسالة يسأل فيها الملك: هل سيخلف آيدن المقعد الدوقي؟
“…لماذا يسألون هذا؟”
إن عائلة “هيل” هي من عائلات المؤسسين الأوائل لمملكة بركشاير، وتاريخها هو تاريخ المملكة نفسها. وبما أن لقب الدوق ينتقل بالوراثة تلقائياً، فقد كان من البديهي أن يرثه الآن آخر من تبقى من تلك السلالة: آيدن هيل.
لم يكن هناك ما يستدعي السؤال أصلاً.
“هل مجرد أنهم ظنوا أني لن أقبل باللقب؟ أم أنهم في الحقيقة يتمنون أن لا أقبله؟ وإن كان الأمر الثاني… فلماذا؟”
حتى تلك اللحظة، كان وعي آيدن غارقاً في أعماق النوم، فإذا به يصعد فجأة إلى السطح.
فموقف العائلة المالكة الغريب، وعائلة هيل، ثم موت برادلي… ربما كانت كلها خيوطاً متصلة.
أخذ آيدن، بذهن أكثر صفاء، يعيد تذكر حادثة أخيه.
قيل إن برادلي زحف إلى قصر الدوق وهو مثخن بعشرة طلقات نارية على الأقل. لكن، أيمكن للصوص ــ الذين يكفيهم أن يسرقوا ما يريدون ــ أن يهاجموا بمثل هذه الضراوة الواضحة بنية القتل؟ هل هذا أمر مألوف حقاً؟
“كان عليّ أن أضع في الحسبان منذ البداية أن ما جرى قد لا يكون مجرد حادثة سطو. يجب أن أعيد التحقيق من الصفر… بيدي أنا.”
هكذا انتهت حياته المبحرة في مسار هادئ. ولم يتردد آيدن هيل في أن يقفز إلى مجرى جديد مليء بالتقلبات.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات