2
2
“حقًا، الدم لا يمكن إنكاره.”
نفثت السيدة سحابة كثيفة من الدخان، ثم نظرت إليّ وأظهرت لي خيارًا للمرة الأولى.
“هذه دواء لمحو الذكريات. إن أعطيتِه لأخيك، فسوف ينسى كل ما حدث هنا. وبالطبع، إن أردتِ، يمكنه أن ينسى كل شيء على الإطلاق. لكن في المقابل، ستكونين مرتبطة بي إلى الأبد. ما رأيك؟ ما الذي ستختارينه؟”
ارتعشت عيناي الزرقاوان بشدة.
إلى الأبد.
كان مفهوم “الأبد” عبئًا لا يُطاق على طفلة لم تتجاوز التاسعة من عمرها. وقت لا يمكن تصوره، ثقيل لا يُحتمل.
لكنني اتخذت قراري.
“…شكرًا لك.”
أن تضحّي بواحد أفضل من أن نسقط نحن الاثنان في الهاوية.
ولقد كنت ممتنة أن من سيضحي هو أنا، وليس سينيل.
رغم ذلك، تركت خلفي أنانية صغيرة.
كان بإمكاني أن أمسح كل ذكرياته عني وأمنحه بداية جديدة بالكامل، لكنني لم أفعل. أبقيت على ذكرياته عن العائلة، ومحوت فقط ما حدث في مركز التدريب.
ثم أودعته في دار للأيتام، في منطقة بعيدة تمامًا.
“أختي… لا أريد أن أكون وحدي. خذيني معك!”
“سيأتي من يتبناك قريبًا، سينيل، عائلة جيدة بانتظارك.”
“لا أريد أن أبتعد عنك!”
“حتى لو كنا بعيدين، نحن عائلة. لا تنسَ ذلك أبدًا. سأزورك كل عام.”
“أختي…”
كان سينيل يتمتع بملامح لافتة للنظر، ولهذا تم تبنّيه أسرع بكثير مما توقعت.
فقط بعد نصف عام من دخوله دار الأيتام.
أما والدا التبني فكانا من النبلاء المحليين الطيبين السمعة. أسرة عريقة وذات سمعة حسنة.
سينيل أصبح ابنًا مدللًا في كنف النبلاء، أما أنا، فشققت طريقي كوريثة واعدة لنقابة الظلال. كلانا سار في طريق مختلف تمامًا.
وهكذا، مرّت عشر سنوات.
—
كنت أرتدي قناعًا يغطي وجهي ورداءً يخفي جسدي بالكامل، ولمع بصري الحاد وأنا أراقب ما حولي.
رغم أنها عادة ما تكون مهجورة تمامًا، خيّم على المنزل المهدم جو خانق من التوتر.
ومن مظهر الموجودين، كان من الواضح أن أكثر من أربع جماعات تجمّعت هنا.
كان السبب إشاعة تقول إن خريطة للمدينة القديمة – والتي قيل إنها تحتوي على كمية هائلة من أحجار المانا – موجودة في هذا المكان.
خريطة المدينة القديمة تلك، التي لطالما تناقل الناس الأخبار حولها دون أن يراها أحد، كانت تحتوي على قوة قادرة على إشعال حرب.
“برينس! من هذا الاتجاه!”
ما إن سمعت صوت رايلي، حتى سحبت سيفي.
فيما كنت أراقب التوقيت المناسب، كان رجال رايلي ينطلقون من الجهة المقابلة.
كانوا طُعْمًا لصرف انتباه الجماعات الأخرى التي جاءت بحثًا عن الخريطة مثلنا تمامًا.
وكما توقعت، ظهر أعضاء من النقابات الأخرى، وبدأت المعركة.
الآن.
تأكدت من خلوّ المكان، ثم أخفيت حضوري واقتربت من الجهة الخلفية للمنزل.
كان في جدار الحديقة الخلفية الميتة بروز غير طبيعي.
تمامًا كما قيل لي.
ضغطت عليه، فظهر مقبض باب دائري.
أدرته بحذر، فانفتح ممر ضيّق لا يتّسع سوى لشخص واحد.
وفي منتصف الغرفة، كانت هناك ورقة تُشبه الخريطة بوضوح. وبختمها الظاهر، تأكدت أنها خريطة المدينة القديمة بالفعل.
قفزت بلا تردد إلى الداخل. وما إن أمسكت بالخريطة، حتى انطلقت الفِخاخ من كل اتجاه
“…كمين إذًا.”
أي لص عادي كان سيلقى حتفه بتلك الشفرات، لكنها لم تكن تهديدًا يُذكر لي.
كنت واثقة من قدرتي على تفاديها، لذلك لم أتردد في الدخول.
بعد أن تفاديت الفخاخ جميعها، وضعت الخريطة في قطعة أثرية قابلة للتوسيع.
وما إن هممت بالخروج، حتى انطلقت من خلف الجدار شفرة طويلة.
لو تأخرت خطوة – لا، حتى نصف خطوة – لكانت قد اخترقت عنقي.
عضضت على شفتي ورفعت يقظتي إلى أقصاها. ما إن ركزت، حتى شعرت بخصمي يختبئ بالقرب.
“كيف تفاديت ذلك؟”
خصمي لم يمنحني فرصة للتنفس، وواصل توجيه ضرباته بسيفه.
كان مقاتلًا من الطراز الرفيع، إلى درجة أنني – التي لا يُمكن لأحد في النقابة مجاراتي – شعرت بالضغط أمامه.
صددت هجماته بكل قوتي، مدفوعةً برغبتي في فتح مخرج، وأخذت أبادله الضربات في معركة محتدمة.
—
“أنتَ إذًا برينس، من نقابة ريفن. قالوا إنك سريع الحركة وسيفك لا يحمل وزنًا يُذكر. وبعد المواجهة، أستطيع أن أؤكد ذلك بنفسي.”
لم أجب، بل اكتفيت بتسريع ضربات سيفي. لكنه صدّها بسلاسة، محاولًا مجددًا فتح حوار.
“سلّمني الخريطة. إنها شيء لا ينبغي أن يمتلكه فرد بمفرده.”
خريطة شخصية، ويقول هذا الهراء؟
نظرت إليه ببرود لسخافة ما قال، لأصطدم بعينين حمراوين بلون الدم.
كان هو الآخر يضع قناعًا يخفي وجهه، تمامًا مثلي، لكن نظراته كانت كافية لتدلّ على أنه اعتاد أن يكون في موضع فوق الجميع.
ضغط عليّ بنظرته التي تنمّ عن سلطة، كمن ينظر إلى من هو أدنى منه بطبيعته.
“إلى أي طرف تنتمي نقابة ريفن؟ لإمبراطورية تيرُويد؟ أم للدولة الساقطة، سِيوندِل؟ أم لطرف ثالث مجهول؟”
نقابة ريفن كانت تتألف غالبًا من مواطني إمبراطورية تيرُويد، لكنها لم تنحز يومًا إلى أي طرف في الحروب.
كل ما كنا نضعه في الحسبان هو المال، والشرعية.
كان هذا الرجل، على ما يبدو، يسعى لمعرفة ولاء نقابتنا.
وبينما انشغل بالأسئلة، خفّ ضغط هجماته للحظة. اغتنمت الفرصة، ورددت الضربة، ثم بدّلت اتجاهي.
تم الأمر.
قفزت مباشرة من خلال الباب الذي تركته مفتوحًا، وفررت إلى الخارج.
كان بإمكاني مواصلة القتال، لكن خصمًا بمستواه، إن طالت المواجهة معه، فقد أميل إلى الهزيمة. خصوصًا عندما يكون لدي شيء عليّ حمايته.
“انتظري! كنت أتوق لرؤيتك، برينس ذات العينين الزرقاوين! أنا أعرفك! حتى لو للحظة، دعيني أتحدث معك—!”
صرخ الرجل وهو يلاحقني، لكنني نظرت إليه سريعًا، ثم انطلقت بأقصى سرعتي حتى تمكنت من الإفلات منه.
لحسن الحظ، صادفت رايلي الذي كانت تبحث عني في الجوار.
وحين رآتني، أطلقت صافرة خفيفة، فتقدّم أعضاء النقابة المتربصون ليعترضوا طريق الرجل.
“الخريطة؟”
“أحسنتِ. وضعتها في الأداة الأثرية.”
“كما توقعت. كنت أعلم أنك ستنجحين يا برينس.”
“ذلك الرجل قوي. أرسلي إشارة للجميع كي ينسحبوا حين تحين اللحظة المناسبة.”
“هاه؟ من النادر أن تتكلمي بهذه الطريقة… هل هذا أول لقاء لك معه؟”
“نعم. لا أعلم من يكون أو لمن ينتمي.”
“أتريدين أن أواجهه بنفسي؟”
“ستخسرين.”
تفاجأت رايلي من ردي القاطع، وتراجعت بخفة بعد لحظة صمت.
“…رغم أن غروري يدفعني لمقاتلته، إلا أن الوقت لا يسمح. علينا العودة للمقر فورًا.”
“لماذا؟”
“الملكة أرسلت نداءً عاجلًا.”
الملكة؟ أن تتواصل معنا في منتصف مهمة خطيرة كهذه؟ لم يحدث ذلك من قبل.
أدركت فورًا أن أمرًا جللًا قد وقع، وتسارع قلبي.
امتطيت حصاني، ولم أتوقف لحظة واحدة حتى وصلت إلى المقر.
وما إن دخلت، حتى وجدت السيدة ممددة على السرير، تلهث بصعوبة.
“سيدتي… منذ متى؟”
عرفت من أول نظرة.
كانت تحتضر.
لا دواء يمكنه إنقاذها الآن. فقد اختفى الضوء تقريبًا من عينيها.
“منذ عامين تقريبًا… كح كح…”
“…لقد أحضرت الخريطة. لطالما رغبتِ بها، أليس كذلك؟”
“كنت أعلم أنك ستنجحين، ههه. الجميع… كح كح… اخرجوا. اتركوا برينس وحدها…”
طلبت منهم الخروج، ثم جذبت القماش الذي كان يغطي وجهي، كاشفة ملامحي.
امتدت يدها الخشنة إلى وجنتيّ.
“لقد كبرتِ كثيرًا…”
“وهل هذا ما تفعلينه الآن؟ تموتين فجأة؟ ألم تقولي إنني سأظل مرتبطة بك مدى الحياة؟”
ضحكتُ، رغم أن الأمر لم يكن يضحك.
—
الموت سيأتي حتمًا يومًا ما. لكن… ليس هكذا، فجأة. ماذا عن حياتي التي عهدت بها إلى هذه المرأة؟
“أحقًا… من كان ليظن أن ما قصدته بـ ‘مدى الحياة’ عندما قلتها لك… كح كح لم يكن سوى عشر سنوات فقط؟ هاها. لهذا السبب الحياة مثيرة… كح، كحاخ…”
كانت السيدة تسعل دمًا أمامي كمن يعرف أن نهايته وشيكة، فيما أنا أحدّق بها في ذهول.
“أتذكرين؟ قلتُ لكِ إن الضعيف لا يملك خيارًا. والآن… أنتِ… قادرة على الاختيار في كل شيء.”
أمسكت بيدها التي كانت تفقد قواها وتوشك على السقوط، وأحكمت قبضتي عليها.
“أعلم… لم يبق أحد هنا أقوى مني.”
“ولهذا… أمنحك مرةً أخرى… كح، كخخ… حق الاختيار…”
“لا تتكلمي. الدم لا يتوقف عن التدفق.”
عضضت على شفتي، وأخذت أمسح الدم عن فمها بمنديل، بينما كانت تضحك مجددًا بخفّة.
“أنتِ طفلة رقيقة فعلًا.”
“أنا؟ هل تعرفين كم شخصًا قتلت بيدي؟ حتى الكلاب الضالة كانت ستضحك على كلامك.”
“لا أحد يستطيع إخفاء طبيعته الحقيقية… أنا أعلم أنك كنت تعتنين سرًا بعائلات أولئك الذين قتلتهم… وتخففين عنهم من وراء الستار.”
“…”
“إما أن تصبحي قائدة النقابة من بعدي، أو… اتركي هذا العالم كليًا.”
“اغادر؟ بعد كل هذا؟ الآن فقط؟”
“نعم… أنتِ لا تنتمين إلى هذا المكان. حين أموت… ستكونين حرّة… بما أنك أصبحتِ أقوى مني…”
لكنها لم تُكمل عبارتها… وسقط رأسها جانبًا.
“أ… عمة؟! عمّتي! افتحي عينيك! هل… هل ماتتِ حقًا؟ هكذا فجأة؟!”
حاولت بكل جهدي أن أُعيد الحياة إلى يدها التي فقدت دفئها. لكن لا جدوى.
الدفء انسحب من جسدها، ومع برودة يدها، غمرني شعور مألوف… نفس البرودة التي شعرت بها قبل عشر سنوات، يوم توفي والديّ.
“عمّتي… ماتت.”
وبينما كنت أحدّق في الفراغ، مذهولة، عاجزة عن الحركة أو التفكير، فُتح الباب فجأة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"