16
أخذت أتلفت حولي عبثًا إلى محيطٍ لا يُشعِر بأي أثر للحياة، ثم مسحت القبر براحة يدي وفتحت شفتي ببطء.
“لقد جئت يا أمي، يا أبي. تأخرت كثيرًا، أليس كذلك؟”
ارتعشت اليد التي كانت تلمس القبر.
أشعة الشمس الدافئة المتسللة بين الأشجار. المنظر هنا الذي يستقبل تلك الأشعة بأكملها.
ضوء الكوخ قد بهت، لكن ما عدا ذلك بدا كل شيء كما هو تقريبًا، وكأن الوقت قد تجاوز هذا المكان وحده.
أينما التفتُّ حولي كنت أرى آثار أبي وأمي.
من صور طفولتي السعيدة التي كنت أركض فيها وألعب، إلى آخر مشهد لهما حين غادرا العالم فجأة.
عضضت على شفتي بقوة وبدأت بالكلام.
“لقد افتقدتكما كثيرًا. كنت أخشى أن أواجه هذا الشعور فأتهدم، فظللت أتجاهله… لكنني حقًا افتقدتكما كثيرًا.”
ذلك القلب الذي ظل يخفي مشاعره مخافة الانهيار، أفلت ما كان يخفيه بلا جدوى.
ذلك الشعور المجهول الذي كان يملأ صدري طوال الوقت هو الحنين.
امتلأت عيناي بالدموع. كان هذا أول مرة منذ اليوم الذي سقيت فيه سينييل الدواء الذي يمحو الذاكرة.
ثم فاضت تلك الدموع التي لم تجد ما يسعها، وانهمرت على خدي وسقطت على القبر.
مسحت خدي وضحكت ضحكة خافتة.
“كنت أريد أن أريكما وجهي المبتسم فقط. اغفرا لي، هذه أول مرة أبكي فيها منذ زمن طويل.”
وهكذا، مع الدموع التي انهمرت بصمت، بدأت أُخرج بلا ترتيب الكلمات التي خبأتها في قلبي طوال تلك المدة.
“لقد حميت سينييل أيضًا. ألم تقولي يا أمي إنه إن حدث شيء فأنا الأخت الكبرى ويجب أن أحمي سينييل مهما كان؟ لقد فعلت ذلك.”
كنتُ قد تخلّيت عن حياتي لأجل حماية سينييل، ولم أندم أبدًا على ذلك الاختيار.
لكن كتلة من المشاعر لم أكن أعلم أنها متراكمة بداخلي صعدت فجأة وخنقت صوتي.
“… لقد أحسنتُ، أليس كذلك؟ لقد أحسنتُ فعلًا، صحيح؟”
كنتُ أريد سماع الجواب بشدة، لكن لم يأتِ أي صوت من والديّ الراحلين.
بدلًا من ذلك، خطر ببالي فجأة حديث قديم دار بيني وبين أبي.
‘لوسيا ، في الحياة قد تأتي لحظات نشعر فيها أننا لا نعرف هل كان قرارنا صائبًا أم لا، لحظات تساورنا فيها الندامة.’
‘ولماذا الندم؟ يجب أن نحسن التصرف منذ البداية.’
‘صحيح، ذلك هو الأفضل. لكن إن جاءتك تلك اللحظة يومًا ما، فتذكري شيئًا واحدًا: في ذلك الوقت، كان لديك سبب وجيه يجعلك تتصرفين هكذا.’
وكأنه كان يعلم أن الأمر سيؤول إلى ما هو عليه الآن. لقد منحني أبي الجواب منذ زمن بعيد.
“نعم. وقتها كان إخراج سينييل هو أفضل ما كان بوسعي فعله.”
تمتمتُ بذلك وحدي وأنا ألمس قبر أبي بهدوء.
شعرت بأن تلك الفجوة المفتوحة في صدري بدأت تلتئم ببطء.
ظللت بعد ذلك فترةً طويلة أتكلم وأتكلم. فأبي وأمي لن يضجرا أبدًا من كلامي.
ومع ذلك بقي الكثير مما لم أقله، لكن الوقت المقرر للرحيل كان قد تجاوز كثيرًا.
ركعتُ أخيرًا وفتحت ذراعي لأضم القبر بشدة.
“سأعود قريبًا.”
تركت وراء ظهري شعور الفراق الذي يثقل القلب، واستدرت بعزم بعد أن عقدت قراري هنا.
كنت أود أن أرى الكوخ أيضًا، لكنني لم أكن بعد مستعدة لأفتح المكان المليء بالذكريات السعيدة.
“…….”
مسحت بيدي على مدخل الكوخ ثم أسرعت عائدة إلى الموضع الذي افترقت فيه عن العربة.
كان السائق يغفو برأسه حين سمع صوتي فاستيقظ يمسح لعابه.
“لم يكن هناك شيء، صحيح؟ لقد تأخرتِ كثيرًا فظننت أنه حدث لك أمر ما.”
“انطلق.”
كان لا يزال بملامحه واثقًا من أنه لا يمكن أن يكون هناك شيء في مثل ذاك المكان.
وأنا في طريق العودة على العربة أخذت أستعيد في ذهني الأمور الغريبة.
لماذا كان والداي يملكان متجرًا في مكان كهذا منذ البداية؟
وكيف تراكم على أبي دين ضخم يبلغ عشرة مليارات جيري وهو يعيش في الجبال؟
ثم ماذا عن قبر والديّ الذي بدا وكأن أحدًا ما يعتني به؟
لكن لم يعد هناك من يجيب عن هذه الأسئلة المتراكمة بداخلي، وذلك ما كان يثير ضيقي أكثر.
اتكأت على جدار العربة وأغمضت عيني مفكرة.
“وما المشكلة إن كانت هناك أسرار مخفية لا أعرفها. لقد كنا سعداء بما يكفي هناك.”
فقط بفضل تلك الذكريات تمكنت من الصمود عشرة أعوام، وسأظل أقاوم وأعيش مستندة إليها مستقبلًا.
وبسبب الوقت الطويل الذي أمضيته عند القبر، عدت إلى المنزل متأخرة عن المتوقع.
كنت أظن أن المنزل سيكون خاليًا، لكن الأضواء كانت مضاءة.
وحين فتحت الباب، وجدت سينييل وأوربيس جالسين في غرفة المعيشة وقد جهزا حقائبهما وكأنهما كانا بانتظاري.
‘حسنًا أنني تركت ورقة.’
صحيح أن الاثنين كانا يبيتان خارج المنزل كثيرًا في الآونة الأخيرة، لكني كتبت ورقة أقول فيها إني خرجت في نزهة احتياطًا، ولحسن الحظ فعلت.
“أختي! كيف كانت الرحلة؟ ممتعة؟”
“إلى أين ذهبتِ؟ لو ذهبنا معًا لكان أفضل.”
ويا للمصادفة، أن يعود الاثنان من القصر الإمبراطوري اليوم بالذات.
تظاهرت بالإرهاق عمدًا وسرت نحو الداخل.
“تجولت هنا وهناك. لكن ما شأنكما أنتما؟ هل انتهيتما من العمل؟”
“لا. يبدو أن الأمر سيطول، فقررنا أن نزور منزلنا أولًا. لقد اتصل بي والداي بالتبني.”
لسينييل الآن عائلة أخرى. ورغم علمي بذلك، فقد وخزني صدري حين سمعت كلمة “والدان”.
لم أستطع أن أبوح له أنني اليوم عدت من زيارة قبر أبي وأمي.
“… فهمت.”
“أختي، إن كنتِ قد أنهيتِ أمورك، فلننزل معًا.”
“حسنًا.”
أجلت حديثي عن البيت الذي وجدته، وبدأت بتجهيز أمتعتي للرحيل أنا أيضًا.
—
مضت أيام بعد أن عدنا للإقامة في الفيلا المملوكة لبيت فيدلر.
أما سينييل، فقد توجه مباشرة إلى منزل والديه بالتبني وظل هناك عالقًا منذ أيام، فيما بقيت أنا مع أوربيس فقط.
وأنا التي ظللت مترددة طويلًا، اتخذت أخيرًا قراري.
“سأترك النقابة.”
بما أن قلبي قد حسم الأمر، لم يكن هناك ما يدعو للتردد. صفرت على الفور لاستدعاء المرسال.
فررفرف―
حطّ “شيل” على ساعدي قادمًا من الأجواء حيث كان يطوف حولي دومًا.
كان يبدو عليه النعاس إذ أيقظته في وضح النهار، فداعبت ريش جبينه بخفة.
“شيل، هذه المرة إلى رايلي.”
“كاااك!”
لكن شيل لم يطِر بعيدًا، بل ذهب ليجلس على غصن قريب.
“ما الأمر؟ هل أنت جائع؟”
أثار سلوكه الغريب الذي لم أره من قبل حيرتي. وبينما أنا أتابع حركته، انطلقت فجأة نحوي شوريكن.
تحركت سريعًا متفادية النصل، وضاقت عيناي بحذر.
‘عدو؟’
لم يكن ثمة أحد يفترض أن يعرف أنني مختبئة هنا. قرأت الهالة من حولي بأقصى درجات التيقظ.
لكن فجأة شعرت بطاقة مألوفة للغاية، فانحل التوتر كله من جسدي دفعة واحدة.
“رايلي.”
ناديتُه، فخرج من خلف الشجرة رجل أنيق المظهر.
لم يكن يرتدي قناعًا هذه المرة، وكانت تلك أول مرة أرى رايلي بوجه مكشوف وبهذا الزي، فلم أتمالك نفسي من الابتسام.
“ما هذا المظهر؟”
شعرت مجددًا أن رايلي، حين ينزع قناعه، وسيم بما يكفي ليجذب أنظار أي أحد.
‘متى كبر هكذا؟’ تمعّنت فيه من أعلى إلى أسفل وأنا أقترب منه.
“لقد مر وقت طويل. حاولت أن أبدو جيدًا قليلًا. كيف ترين؟”
“مقبول.”
“أميرة النهار جميلة. كنت دائمًا أكره القناع الذي يخفي وجهك، لكن رؤيتك هكذا في الضوء أمر رائع.”
كان يبتسم طوال الوقت ويطلق كلمات مغزولة متكلّفة، ما يعني أن مزاجه اليوم في غاية الصفاء.
“اترك الكلام الفارغ. لماذا أنت هنا؟”
“اشتقت إليك فجئت. لقد مضى وقت طويل منذ تركتِ النقابة.”
“ادخل في الموضوع مباشرة. هنا أيضًا قد تكون هناك عيون تراقب.”
لم يهتم رايلي ببرودي في الرد، بل اقترب أكثر.
“ألم تشتاقي إليّ؟ لم يحدث من قبل أن غبنا عن بعضنا كل هذا الوقت.”
“ما بك اليوم؟ مزعج حقًا.”
قطبت حاجبي ودفعته حين حاول أن يضمني.
لكن رايلي بطبيعته متباسط وماكر، لذا لم يكن غريبًا منه مثل هذا التصرف.
وبما أنه يعامل معظم الناس على هذا النحو، لم يبدُ وجهه المتجهم مؤثرًا فيّ.
“هل تحققت من الأمر الذي أخبرتك به عن ويليام؟”
“نعم. كان محاطًا بأسرار كثيرة، لولا كلامك ما كنت لأكتشفه أبدًا.”
كما توقعت، كان لدى فرسان النسر الأسود ما يخفونه.
“قبل بضع سنوات ظهر اتحاد جديد. لم يكن كثير النشاط، لكنه كان يقتنص بين الحين والآخر صفقات كبيرة… إيد.”
“إيد؟ لا تقصد أن…”
اتسعت عيناي دون وعي.
“بلى. إنهم يحاولون دومًا الاتصال بنا ويطالبون بتسليم خريطة الطريق. أظن أن اسم إيد مجرد واجهة، والواقع أنهم فرسان النسر الأسود.”
من ذا الذي قد يتصور أن فرقة الفرسان الخاصة بالأمير تمارس نشاطها كاتحاد مظلم؟
كان الأمر يصعب تصديقه، وزاد قلقي على سينييل فدارت رأسي.
“أحكموا السيطرة كي لا يتسرب عنّا أي شيء. فهم يترقبون الفرصة لوضع أيديهم على ‘الغراب الفارغ’.”
“كنت قد بدأت بالفعل أتحقق من الداخلين الجدد… وقد وجدت بينهم جواسيس. من حسن الحظ أنني أدركت الأمر مبكرًا.”
“جواسيس؟ ماذا فعلت بهم؟”
“انتزعت منهم كل ما لديهم، لكنهم كانوا مبتدئين. لم أعرف شيئًا مهمًا. يبدو أنهم أرسلوا أوراقًا يمكن الاستغناء عنها فقط.”
“قتلتهم؟”
“لا. إن كان إيد فعلًا مرتبطًا بالأمير، فالتصرف الأحمق قد يكون خطرًا. اكتفيت بالتحذير وأطلقت سراحهم.”
“أحسنت. لكن كن حذرًا، ربما يكون هناك ما لم تكتشفه بعد.”
“لا تقلقي. نحن لسنا ضعفاء لدرجة أن نسقط في فخ نعرفه سلفًا. تعرفين ذلك، أليس كذلك؟”
أومأت برأسي مؤيدة كلامه.
“مريب أن ولي العهد الثاني يبني قوته في الخفاء.”
“صحيح. إذا كان هو لا الأول من يسعى لجمع قوة سرية، فقد يقود ذلك إلى تمرد. إنه افتراض خطير لكنه محتمل.”
وحين تذكرت الحوار الذي دار بين فيدلر والإمبراطورة، بدا أن الأمر غير مستبعد على الإطلاق.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل "16"