رغم انشغالها بتلقي التدريب، لم تستطع تشيشا أن تترك سيدتها بين يدي شخص آخر، فوجدت وقتًا لتزيينها بنفسها.
وبفضل ذلك، تفادت ريليا المظهر البراق الذي كان سيجعلها محط الأنظار إن تركت الأمر لخادمات المعبد، إذ كنّ سيجعلْنها لامعة كالجوهرة فلا تستطيع السير براحة.
‘ماذا أفعل الآن؟ أشعر بالحماس الشديد… إنه حماس مفرط حتى إنه يربكني.’ حاولت ريليا جاهدًا كبح مشاعرها المتدفقة.
‘من أين أبدأ؟’
كم تمنّت لو كان لديها ميل محدد يجعل الأمر أسهل. لكنها بعد أن جابت كل الساحات خلال اليومين الماضيين، أدركت أنها لا تملك ميولًا بعينها.
حتى أطعمة الشوارع التي تذوقتها لأول مرة أعجبتها بشكل غير متوقع، كما أن مشاهدة المسرحيات والمعارض كان ممتعًا.
المسابقات كانت حماسية، وأما ساحة التجارب في الجنوب… فماذا عساها تقول؟ كانت تتحرق شوقًا لتجربة رمي السهام مرة أخرى اليوم.
‘هل أتناول الطعام أولًا؟’
لقد أحضرت معها ما يكفي من المال، ولن ينقصها شيء لتستمتع بما تريد. كان عليها أن تجرّب ما لم تجربه بعد… آه، ما ألذ ذلك اللحم المشوي على الأسياخ!
سحرها مظهره اللامع ورائحته الشهية، فخطت إليه دون وعي.
ولم يخطر ببالها أبدًا أن ثمة من كان يراقبها.
***
يبدو أن ذلك المطعم كان ذا شعبية كبيرة، إذ كان الطابور أمامه طويلًا.
لو كانت ريليا مثل عامة النبلاء، لأعطت صاحب المطعم مبلغًا إضافيًا وتجاوزت الطابور، لكن هذه التجربة بدت لها ممتعة بحد ذاتها، فوقفت في الصف بحماسة.
ولحسن الحظ، كان الإقبال سريع التداول، فلم تنتظر طويلًا كما توقعت.
أخذت ريليا سيخ اللحم بيديها. كان اللحم مشويًا حتى الاحمرار، مدهونًا بصلصة بنية اللون تفتح الشهية، وتفوح منه رائحة حلوة شهية.
وفي اللحظة التي همّت فيها أن تقضم قضمة كبيرة، ارتطم بها أحدهم بقوة.
“آه…!”
لحسن الحظ، لم يتلطخ ثوبها، لكن الطعام الذي سقط أرضًا لم يكن ليستعاد.
تأملت بحسرة الطعام الملقى على الأرض، ثم رفعت بصرها نحو من اصطدم بها.
“أ… أعتذر…”
كادت تنفجر غضبًا، لكنها ما لبثت أن رأت أن الصادم لم يكن سوى طفل صغير جدًا. وبمجرد أن رأت ملامحه المرتبكة والموشكة على البكاء، ذاب غضبها في لحظة.
‘وماذا عسى أن يكون ذنب هذا الصغير؟ الخطأ خطئي أنا، إذ لم أنتبه للطريق وأنا منشغلة بالطعام.’ هدّأت ريليا الطفل برفق.
“لا بأس. لكن انتبه من الآن فصاعدًا.”
“شكرًا لكِ، يا أختي…!”
ضحك الصغير ببراءة، ثم اندفع ليعانق خصرها بقوة، قبل أن ينحني احترامًا ويغادر. فاستدارت هي أيضًا لتذهب.
عليها أن تشتري سيخًا آخر…
‘ها؟’
ما الأمر؟ تحسّست ريليا خصرها، فلم تجد الكيس الذي كانت تعلقه هناك. لقد اختفى تمامًا.
بحثت في الأرض، فلم ترَ سوى السيخ الملقى وبعض القمامة.
‘ذلك الطفل!’
لا عجب أنه عانقني فجأة!
لم يخطر ببالها أبدًا أن يكون مجرد طفل صغير لصًا. صحيح أن الأمر بدا غريبًا لحظتها، لكنها ظنت أنها طريقة جديدة للسلام بين أطفال العامة.
رمقت ريليا المكان بنظرات حادة. فرأت الصبي نفسه على مقربة، لم يبتعد كثيرًا بعد.
وفي عينيها لمع بريق غاضب. أيجرؤ هذا الصغير الوقح أن يسرق مالي؟
‘إن أمسكت بك…’
لأذيقنّك درسًا قاسيًا.
اندفعت تركض بكل قوتها. ولأن المكان لم يكن مزدحمًا جدًا، استطاعت تتبعه دون أن يضيع عن ناظريها.
صحيح أنها لم تكن تجيد الركض بسرعة، لكن الطفل أيضًا لم يكن أسرع بكثير.
“هـ… هـه…”
دخلت ريليا زقاقًا ضيقًا، فأسندت يدها إلى الحائط تلهث بشدة.
لم يسبق لها أن ركضت بكل طاقتها هكذا. أي شيء في حياتها كان ليستحق هذا المجهود؟
وهناك، كان الصبي واقفًا عند نهاية الزقاق المسدود، قابضًا على الكيس، يحدق بها. لم يبدُ كمن حوصر، بل كمن كان ينتظرها. فتجمدت في مكانها.
هل كان هذا الطفل حقًا ينوي الفرار؟
شعور غريب بأنها مرت بهذا الموقف من قبل اجتاحها.
وكان خطؤها الأول أنها انشغلت بالمطاردة ولم تفكر مليًا. وخطؤها الثاني أنها، بعدما شعرت بالريبة، لم تبادر فورًا بالخروج من الزقاق.
“…….”
حتى دون أن تلتفت، أدركت أن هناك أشخاصًا خلفها. ولم يكن واحدًا فقط، بل أكثر من واحد.
بدلًا من أن تتنهد، اكتفت بتحريك عينيها تتفحص الأرض. لكنها لم تجد حتى حجرًا صالحًا للرمي. ‘ليتني أحضرت خنجرًا صغيرًا للدفاع عن النفس…’
تقدّم أحد الرجال الذين كانوا خلفها متجاوزًا إياها، متجهًا نحو الطفل.
هاه! ضحكت ريليا بسخرية. ليتها تملك حجرًا تقذفه على مؤخرة رأسه الوقحة.
“أحسنت.”
انتزع الرجل الكيس من يد الطفل بفظاظة، ثم فتحه ليتفقد المال بداخله. فانقبض وجهه غيظًا.
“اللعنة، النقود لا تساوي شيئًا!”
“كم فيها؟” سأل رجل آخر وهو يقترب بسرعة.
حينها فقط، ألقت ريليا نظرة خاطفة خلفها. فرأت أنه إضافة إلى الاثنين، كان هناك ثلاثة آخرون يسدون المخرج.
‘هيا، تمهّلي قليلًا…’
“خمس عشرة ألف بيل.”
“ما المشكلة إذًا؟ المال غنيمة جانبية. وبمثل هذا المبلغ نكون استرددنا جهدنا. ألا ترى ملابسها؟ حتى لو كان في الكيس ألف وخمسمئة بيل فقط، لما بدا ذلك غريبًا.”
“صحيح.”
‘تشيشا ألبستني ثيابًا متواضعة أكثر مما يجب… أهذا جيد أم سيئ؟ في هذه الحالة يبدو سيئًا. لو كنت أبدو مثل النبلاء لما تجرأوا على الاقتراب مني أصلاً.’
ناول الرجل الطفل مكافأة زهيدة مقابل جهده: ثلاث عملات نحاسية صغيرة.
كادت ريليا تختنق من الغيظ. مبلغ لا يساوي حتى جزءًا يسيرًا مما في الكيس!
“والآن انصرف.”
“ن… نعم!”
ركض الطفل مسرعًا. ثم رمى الرجل الكيس إلى الأعلى قليلًا وهو يضحك ساخرًا.
وشرعت نظراتهم الوقحة تتفحص جسد ريليا من أعلى لأسفل.
“من قريب تبدو أجمل بكثير. لطالما رغبت بتجربة امرأة ذات شعر أسود. إنه نادر في الإمبراطورية.”
“قد تكون أجنبية أو مختلطة الدماء.”
“وفي كلا الحالتين، ألا يبدو الأمر ممتعًا؟”
“إذن، لنأخذها إلى المكان نفسه الذي ذهبنا إليه في المرة السابقة…”
كان كلامهم في غاية الانحطاط، حتى إن ريليا تمنت أن تفقأ أذنيها فلا تسمع شيئًا.
ومع ذلك، فقد كان هناك ما يثير العجب: على عكس المرة الماضية، ورغم أنها كانت وحدها، لم تشعر بخوف شديد هذه المرة.
‘وهل لأني اعتدت على الأمر بعد أن تكرر؟ لا، لا يمكن أبدًا. مثل هذه المواقف لا ينبغي أن يعتاد عليها المرء حتى لو تعرض لها عشر مرات.’
لكن هذا المكان هو إيكويندوم، وهي القديسة التي تحكمه. وإن اضطرت، فبوسعها أن تظهر قدرتها على التجدد، وسيفهم هؤلاء الرعاع فورًا خطورة ما اقترفوه، فيهربون مذعورين. فحتى العامة يعرفون جيدًا ما معنى أن يمسّ أحد القديسة في إيكويندوم.
صحيح أنها لا تريد كشف هويتها، فانتشار شائعات عن تورطها في فضيحة أمر غير مرغوب فيه، لكن إن كان هذا السبيل الوحيد لحل الأمر بسلام، فلن تملك خيارًا آخر.
ولهذا، لم تكن مشكلتها الحقيقية التفكير في كيفية النجاة من الموقف.
بل كان همّها شيئًا آخر.
‘اللعنة…’
لقد كان ذلك ثاني حادث بعد المرة السابقة. وبالنظر إلى عدد المرات التي خرجت فيها بمفردها، فإن احتمال وقوعها في أمر سيئ بلغ قرابة النصف.
لم تكن ريليا تدري أهو سوء حظها العاثر الذي يجذب المصائب، أم أن نساء العامة يعشن فعلًا في مثل هذا الخطر الدائم.
فعلى الأقل، لم يرد في أي كتاب أنها ستواجه أمرًا كهذا.
عندها، أمسك أحدهم بكتفها من الخلف.
‘أي وغد هذا الذي يتجرأ…’ أطبقت أسنانها والتفتت غاضبة، لكنها فوجئت واتسعت عيناها.
“هل أنتِ بخير؟”
كان ديون.
‘كيف يكون هنا؟’
كان هذا أشد وقعًا من لحظة إدراكها أنها وقعت في فخ، أو من لحظة اكتشافها أنها تعرضت للسرقة.
لكن دهشتها ما لبثت أن تلاشت. فلم تكن ساذجة لتظن أن لقاءه في هذا المكان مجرد صدفة.
“…هل كنتَ تتعقبني؟” سألت بنبرة حادة. كانت حالتها النفسية متوترة بما يكفي ليزداد صوتها قسوة.
“لن أنكر.”
“هاه، لم يبقَ إلا أن تتحول إلى مطارد….”
‘يا لبؤس نفسي حين اعتقدت لوهلة أن هذا الرجل شخص يمكن التفاهم معه.’
وضعت ريليا يدها على جبينها المثقل. ‘ما الفارق إذن؟ مجرد وغد آخر يضاف إلى القائمة.’
“جاك، تلك الفتاة تتمتم لنفسها منذ قليل.”
“أظنها فقدت صوابها من شدة الخوف.”
دار رجل أشقر الرأس بإصبعه حول صدغه ساخرًا وهو ينظر إليها.
وبينما التقت عيناها بعينيه، شعرت ريليا أن صبرها بلغ نهايته.
‘ذلك الحقير… منذ قال عبارته القذرة عن تجربة النساء وأنا لا أطيقه.’
نزعت يد ديون عن كتفها بخفة، وتقدمت بخطى ثابتة نحو الرجل.
‘أينبغي أن أحتاج سلاحًا مقدسًا؟ لا. ومنذ متى اعتمدت على القوى المقدسة أصلًا؟ حين ضربت إيسيل، هل كنت أستعمل القوى المقدسة؟’
وفي لحظة خاطفة، رفعت ركبتها ووجهتها إلى موضع حساس.
دوّى صراخ مدوٍّ في الزقاق، بينما سقط الرجل أرضًا يتلوى من الألم. وحتى حين كان يتأوه، لم يهدأ غضبها، فركلته في الموضع نفسه مجددًا.
أولئك الذين كانوا يراقبون المشهد ضمّوا سيقانهم لا إراديًا.
“جاك!”
“اللعنة، هذه الـ…!”
“أمسكوها فورًا!”
لكنهم لم يتحركوا، وظلوا يصرخون فقط.
أمالت ريليا جسدها قليلًا. ‘لماذا لا يتحركون؟’
اقترب ديون منها وقال بهدوء:
“اتهامك لي بالمطاردة ظنّ مجحف. لقد رأيتك تركضين إلى الزقاق، فلحقت بك من هنا لا أكثر.”
“…حقًا؟”
“إن لم تطمئني، فبوسعي أن أحلف لكِ.”
“حسنًا، فاحلف إذن.”
لكن ريليا لم تكن من ذلك النوع الذي يسامح لمجرد أن الطرف الآخر بالغ في التأكيد.
رفع ديون يده إلى صدره، وأدى القسم باحترام ظاهر.
‘ما هذا؟ من أين يأتي الضوء في هذا الزقاق؟’
لقد بدا المشهد جليلًا ومهيبًا، لا يشبه بحال قسم شيطان، فابتلعت ريليا ريقها.
كان البشر يقسمون بالآلهة ليبرهنوا على صدقهم أو نواياهم.
أما قسم الشيطان، فبمن عساه يكون؟ تساءلت في سرها، لكنها لم تجد مجالًا لمثل هذا السؤال الآن.
“…إذن، يبدو أنك صادق.”
“قلت لكِ ذلك منذ البداية.”
“لكن شكي لم يكن بلا مبرر. …أما هؤلاء الرجال، فأنت من فعل بهم هذا؟” سألت بإشارة من ذقنها.
كانوا عاجزين عن الحركة، لكن ألسنتهم لم تتوقف عن التفوّه بالسب والكلمات البذيئة التي لا تليق حتى بالذكر.
‘لنرى… تجديف على المقدسات، إهانة للنبلاء، اعتداء، سرقة، محاولة اغتصاب… هذه التهم وحدها تكفي ليقضوا أعمارهم في السجن. يا لهم من بؤساء… لا، بل أوغاد تافهون.’
أجاب ديون بهدوء:
“نعم.”
“إذن أطلق سراحهم. لا أريد مساعدتك.”
“لكنّك قبلت بها في المرة الماضية.”
“صحيح. لكنني لا أريد أن أظل مدينة لك. ولا سبيل لديّ لرد الجميل…”
وفجأة، سُمع صوت حاد لانزلاق معدن على الأرض.
التفتت ريليا نحو مصدره. كان عند أقدام ثلاثة من الرجال، وقد سقطت سكاكين.
‘من المستحيل أن يسقطوها بأنفسهم وهم عاجزون عن الحركة… لا بد أنه فعل الشيطان.’
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. إذ أخذت السكاكين تنزلق على الأرض من تلقاء نفسها، تتحرك ببطء تحت أنظارها، تمامًا كما حدث مع الكرسي في المرة السابقة.
“…….”
“…….”
حتى أولئك الذين كانوا يسخرون منها منذ لحظة ويتهمونها بالجنون أو برؤية الأشباح، ابتلعوا ألسنتهم فجأة.
قال ديون بصوت خفيض:
“أنتِ حقًا تفتقدين إلى الحذر.”
وفي صوته، وقد انساب كنسمة لطيفة، كان ثمة قلق غريب.
أعادت ريليا كلماته في ذهنها. ‘قلق؟’ لم تستوعب الأمر.
“أتقلق عليّ؟”
كانت عيناها لا تزالان مثبتتين على السكين، الذي توقف بعد أن تحرك طويلًا، وانغرس في الأرض.
“نعم.”
“ولماذا؟”
خطت خطوات بطيئة حتى وقفت أمامه، وانحنت لتلتقط السكين من مقبضه.
وما إن أمسكت به، حتى هدأ تمامًا كأنه لم يتحرك قط.
‘لقد ظللتَ تتبعني تطلب عقدًا لأنني القديسة. فإذا لم تتمكن من العقد، كان ينبغي أن تختفي حتى أناديك. فلماذا…’
“لماذا…”
‘لماذا تواصل الظهور؟ ولماذا تنقذني في كل مرة أكون فيها في خطر؟ ولماذا، بصوت كهذا، تبدي قلقًا عليّ؟’
أنتَ شيطان.
بوسعك أن تتصرف كشياطين أكثر من ذلك. فلماذا لا تفعل؟
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات