في الحقيقة، لم يكن عرضه شيئًا مبالغًا فيه. كان مجرد طلب بسيط: أنه يريد أن يلتقي بها مرة أخرى، لذا فلنحدد موعدًا دقيقًا للقاء الثالث. لو سمع شخص آخر هذا الكلام لربما ضحك ساخرًا قائلاً: ‘حقًا؟ وما الصعوبة في الموافقة على ذلك؟’
ربما لو بدأ حديثه بطريقة أقل درامية قليلًا، لكانت اكتفت بالقول “هل تمزح مجددًا؟” وتجاهلت الأمر بخفة، فهو عرض صغير وبسيط إلى هذا الحد.
لكن ريليا الآن لم يكن باستطاعتها أن تستمتع حتى بمثل هذه الخفة.
‘…اللقاء الثالث قد يصبح الرابع، والرابع قد يتحول إلى عشرة لقاءات.’
عندما التقته في المرة الثانية، ترك انطباعًا أفضل من المرة الأولى في المكتبة. ودون أن تشعر، وجدت نفسها تفكر في “المرة القادمة” وما بعدها، وهذا وحده كان دليلًا كافيًا.
‘وفوق ذلك، هو من النبلاء…’
لم يصرّح بالأمر صراحة، لكن ذلك القدر المميز من الرقي الذي كان يظهر في تصرفاته الصغيرة، لم يكن ممكنًا أبدًا أن يصدر عن شخص من عامة الشعب. في اللحظة التي رأته فيها قبل قليل وهو يتناول طعامه في المطعم، تأكدت تمامًا من ذلك.
بالنسبة لإلريدا، التي قطعت كل صلة لها بهذا العالم، فلا بأس. لكن إن ارتبط أحد النبلاء بالقديسة، فلا مفر من أن تتناقل الألسن الخبر في كل مكان.
حتى هي نفسها، التي لم تظهر رسميًا في المجتمع الراقي ولم تطأه ولو لمرة واحدة طوال ثمانية عشر عامًا، نالت نصيبها من القيل والقال فقط لأنها على علاقة صداقة بالقديسة.
لا تعرف لأي أسرة ينتمي، لكن أيًّا كانت، فلن ينجو من ألسنة الناس.
لا، لا يمكن أن تسمح بحدوث ذلك. وفوق كل شيء، كونه رجلًا يجعل الأمر أكثر عرضة لأن يُربط باسمه نوعٌ أسوأ من الشائعات عنها. وعندما فكرت في ذلك، ابتسمت بسخرية في سرّها.
‘لو كان رو يعرف أنني قديسة، لما تجرأ أصلًا على تقديم مثل هذا العرض، أليس كذلك؟’
حتى لو لم تتمكّن من مقابلته مجددًا، فهي تأمل ألا يعرف أبدًا حقيقتها. لأنه بمجرد أن تُكشف هويتها كقديسة، سيتغير شكل العلاقة بينهما بطريقة أو بأخرى، وهي لا تريد ذلك.
نعم، هذا القدر بالضبط من المسافة بينهما هو الأنسب.
“……آسفة.”
عندما سمع رو رفضها، لم يسأل عن السبب. بل اكتفى بالتحديق فيها لبرهة طويلة، ثم هز كتفيه قليلًا وتراجع خطوة إلى الوراء.
“همم، فهمت.”
رؤيته يتراجع بسهولة جعلها تشعر بالأسف… وبشيء من الخيبة أيضًا.
لكن ظروف حياتها كانت قاسية جدًا بحيث لا تسمح لها أن تعيش كما يحلو لها، تواعد من تشاء وتفعل ما تريد.
تساءلت في نفسها عمّا قد يدور في باله الآن. كانت فضولية، لكنها بطبيعة الحال لم تستطع سؤاله.
ماذا لو كان يراها جريئة أكثر من اللازم بالنسبة لخادمة؟ رغم أنها تعرف جيدًا أنه ليس من ذلك النوع، إلا أن القلق تملّكها.
‘لكن… كل هذا القلق لا فائدة منه.’
فلن يلتقيا بعد اليوم على أي حال. فما أهمية ما يظنه بها؟ انتظرت ريليا أن يكمل كلامه.
“فهمت، آنسة.”
الكلمة التي خرجت من فمه أعادت كل شيء إلى نقطة الصفر.
…انتهى الأمر إذن.
شعرت ريليا بأن القوة قد فارقتها من يديها.
لكن رو واصل الكلام:
“أنا لست من هواة التعويل على الصدف، لكن في هذه المناسبة… سأجعلها هواية.”
“……ماذا؟”
هذا ليس ما كانت تتوقعه!
كل ما في الأمر، أنها كانت قد وقعت في وهم كبير لأنها لم تفهم شخصية رو بعد.
على عكس ما كانت تظن، لم يكن هو من النوع الذي يتراجع بسهولة أو يتخلى عن الأمر.
“لماذا هذا الرد؟ أليس هذا ما كنتِ تريدينه؟”
“لا، أعني، بالتأكيد…”
الأمر لم يكن مجرد رفض موعد للقاء. لم يكن الجو بينهما يوحي بذلك أصلًا.
لقد رفضت طلبه بأن يتعرفا أكثر، أي أنه عرض عليها بشكل غير مباشر أن يصبحا صديقين رسميًا، وهي ردّت بالرفض.
أليس من الطبيعي أن يعتبر ذلك قطعًا للعلاقة؟
“آنسة، أنا لم يحدث في حياتي أن رغبت بشيء ولم أحصل عليه.”
كان على شفتيه ابتسامة واثقة. لكنها لم تكن من ذلك النوع الساذج المألوف لدى نبلاء لا يعرفون شيئًا عن الدنيا، بل بدت مختلفة تمامًا.
“لا أظنك تكرهينني… هناك شيء ما يثير قلقك، صحيح؟”
كيف يمكنه قول ذلك بكل هذه الثقة إذا كان احتمال أن تكرهه قائمًا؟
انفجرت ريليا بضحكة قصيرة رغماً عنها. كانت متجهمة، لكن ثقته الكبيرة بنفسه أجبرتها على الابتسام.
“ألا يمكن أن أتجاوز الإجابة عن ذلك؟”
“بل أريدك أن تجيبي. فأنا بحاجة الآن إلى تأكيد.”
إنه يتحدث وكأنه متأكد فعلًا!
لكن حتى مع معرفتها أنه متيقن، كانت مترددة في أن تصرح بذلك صراحة. هل يحق لها أن تمنحه هذا الأمل؟ خاصة وهي تعرف أن ما يثير قلقها أمر لا يستطيع هو حلّه.
وكأن رو فهم ترددها، فقال مجددًا:
“كنت أنوي استخدام ذلك في أمر أفضل.”
في ماذا؟
“الطلب الذي أخذته من المكتبة، سأستخدمه هنا. أليس هذا كافيًا للتنازل؟”
“……؟”
أثار كلامه حيرتها. ذلك الطلب كان من النوع الذي يمكن أن يُستغل في أمر أكثر أهمية فعلًا.
حتى لو كان الأمر لا يعني الكثير لرو، فقد كان بالنسبة لها مساعدة كبيرة جدًا، وكانت تنوي أن ترد له الجميل في أي وقت لو طلب منها.
…بصراحة، لو استخدم ذلك الطلب لفرض موعد لقاء، لما كانت قادرة على الرفض. ألم يخطر له هذا الاحتمال؟
لا، مستحيل.
وكما قال، فإن هذا القدر من التنازل يستحيل تجاهله. ابتسمت ريليا بإنهاك وقالت:
“…نعم.”
ابتسم رو لذلك الجواب. كانت ابتسامة لا تزال غامرة بالثقة، جريئة وجميلة حد الإبهار.
عند وصولهما إلى مكان استئجار العربات، اختارا عربة معًا. ولأنها كانت تختار بعناية زائدة عن المعتاد، تساءل رو باستغراب عن السبب.
ولأنها لم ترد أن تقلقه، أجابت إجابة مقتضبة بأنها شخصية دقيقة بطبيعتها، لكن ملامح وجهه بدت غريبة قليلًا. على ما يبدو، لم يكن ذلك العذر موفقًا.
لكن، هل كان هناك داعٍ لأن يتغير تعبيره هكذا؟
حتى امتناعه عن إنكار كلامها صراحة يُعد نعمة في حد ذاته… على أي حال، العربة التي اختارتها بعد بحث وتمحيص كانت ذات نوافذ كبيرة، وبابها لا يمكن قفله إلا من الداخل.
بصراحة، حتى مع مثل هذه العربة، كانت لا تزال تشعر بالخوف من ركوبها بمفردها.
لكن في النهاية كان عليها أن تعود، فلا يمكنها الامتناع عن الرجوع إلى المنزل لمجرد الحذر من مجرم قد تلتقيه أو لا.
“إذن-“
انحنى رو قليلًا وهو يحيّيها، ثم قال:
“بما أنني فشلت في صنع القدر بيدي، فلتكن المصادفة والمعجزة رفيقينا في المرة القادمة.”
***
ما إن انطلقت العربة التي استقلتْها ريليا، حتى تلاشت تلك الابتسامة المرسومة على شفتي رو.
“هل نتحقق من الأمر؟”
سأل أحدهم من الخلف. فأجاب رو دون أن يلتفت:
“هل كنت تراقب كل شيء؟ لا فرق بينك وبين متعقب.”
احتج الرجل بنبرة متظلمة:
“أنت من أمرتني أن أخرج معك ثم فجأة طلبت أن تبقى وحدك وأن أتابعك بصمت، يا سيدي.”
“لكنني لم آمرك بالتنصت مثل الجرذان.”
“أجل، هذا صحيح… إذن، هل نتحقق من الأمر؟ لو تتبعنا العربة التي غادرت الآن، فسنتمكن على الأقل من معرفة أي أسرة تخدمها تلك الخادمة.”
“أنت لا تسمع إلا ما تريد سماعه. ألم أقل إني أفكر في اكتساب هواية جديدة؟”
“هل كنت جادًا بشأن ذلك؟”
اتسعت عينا الرجل بدهشة وكأنه سمع أمرًا لا يصدق. فأشار رو بذقنه نحو العربة، التي لم تبتعد كثيرًا بعد بسبب ازدحام الطريق.
“اتبعها.”
كما هو متوقع. وما إن همّ الرجل بتنفيذ الأمر حتى أضاف رو:
“في هذه الأيام، الأوضاع غير مستقرة، ولا يمكن الوثوق حتى بمثل هذه العربات. إن حدث أمر ما، فأوقفه دون أن تكشف عن هويتك، وإن لم يحدث شيء، فعد فورًا. وحتى لو عرفت منزلها أو أسرتها، لا تخبرني بذلك.”
فأنا أترقب هذه الهواية الجديدة بفارغ الصبر.
ارتسمت ابتسامة على شفتيه وهو يبتلع ضحكة، وعيناه لم تبتعدا عن العربة.
قبل أن تركبها، كانت ريليا تتفحص العربة من الداخل بعين قلقة، وتعيد النظر في هيئة السائق مرارًا.
ورغم أنها اختارت العربة بعناية، إلا أنها أبدت انزعاجًا عند الركوب، وارتجفت يدها قليلًا.
حاولت أن تُخفي الأمر بتبريره على أنها شخصية دقيقة، لكن رو، الذي كان يراقبها عن كثب، أدرك أن الأمر ليس كذلك.
والحق يُقال، لم تكن في الأصل شخصية دقيقة إلى هذا الحد.
‘هل هي إحدى ضحايا ما ارتكبه البارون بيني؟’
ربما كان هناك حادث آخر، لكن بما أن الحادثة الأخيرة التي كُشف عنها ما زالت حاضرة في الأذهان، فقد كان أول ما خطر له.
‘لم أسمع أن من بين الضحايا خادمة…’
بالطبع، لم يكن من الطبيعي أن تصل إلى مسامعه أخبار عن خطف خادمة، فهي ليست من النبلاء. وحتى لو حدث، لكان الأمر قد غُطي على وجوده بحقيقة أن هناك آنستين نبيلتين كانتا من بين الضحايا.
والآن بعد أن تذكر، كانت آنسة فيتيل، التي أصبحت قديسة مؤخرًا، واحدة منهن.
تذكر أنه قبل يومين من مراسم التنصيب، سمع والده يوبخ الفيكونت فيتيل متسائلًا كيف يمكن لمرشحة للقديسة أن تتورط في أمر شائن كهذا.
‘…على أي حال، هذا ليس من شأني.’
لا يدري لماذا خطرت القديسة على باله فجأة، لكن في النهاية، لم يكن يرغب في الانشغال بشخصية ستفارق الحياة بعد عامين.
هناك من هو أكثر إثارة لاهتمامه من أي قديسة الآن.
تذكر رو تلك الفتاة ذات الشعر البني التي غادرت قبل قليل. من الخارج، بدت مجرد خادمة لطيفة المظهر، لكنه لا يعرف لماذا تجذب عينيه إلى هذا الحد.
حين خصص وقتًا ضيقًا لزيارة المكتبة مرتين إضافيتين، كان يتساءل إن كان الأمر يستحق العناء. بل إنه، بعد أن فشل في مقابلتها رغم زيارته، فقد اهتمامه بها.
لولا أنه رآها في المهرجان وهي تتلو آيات الكتاب المقدس بطلاقة، أو لو أن لقائهما كان مجرد مصادفة عابرة في الشارع، لكان توقف عن الاهتمام بها حتى لو قدمت لها مساعدة في المكتبة، ولما أبدى أي ود تجاهها.
أما قصة أنه رآها مصادفة في المطعم، فكانت كذبة صريحة.
ففي الواقع، كان قد شاهدها أولًا وهي تشارك في إحدى المنافسات، ثم لاحقها إلى المطعم بعد أن تخلص من مرافقه.
إعادة اشتعال اهتمامه بشخص بعد أن انطفأ أمر نادر الحدوث في حياة رو. ولهذا السبب، لم يكن يريد أن يتركها تفلت منه.
رغم بعض التصرفات غير الناضجة، إلا أن ما يظهر أحيانًا من سلوكها يوحي بأنها تعرف آداب النبلاء، وإجادتها للغة القديمة أمر ملفت أيضًا.
كما أن بريق عينيها أمام الكتب والكتاب المقدس كان لطيفًا على نحو ما…
لكن ما شد انتباهه أكثر من أي شيء، كان براعتها في لعبة السهام اليوم.
‘مع أنني لا أدري إن كان يمكن حقًا تسميته براعة…’
لمح المتفرجون الذين لا يعرفون كيف يقيمون الأداء أن النقاط قد ارتفعت بشكل ملحوظ، فاعتقدوا أن مهارتها قد تحسنت.
لكن في الجولة التي فازت فيها بالجائزة الأولى، لم تكن وضعيتها قد تغيّرت كثيرًا عن البداية.
ولو كان من الممكن وصف تلك الوضعية بأنها مهارة متقدمة، لكان الأمر يستحق أن تُقدَّم اعتذارًا إلى لعبة السهام ذاتها.
ومع ذلك، وبطريقة غريبة، كانت تصيب مركز الهدف في كل مرة بتلك الوضعية غير المتقنة.
بل في الحقيقة، كان الأمر أغرب من أن يُصدَّق. وكأن السهام كانت هي من تبحث عن مركز الهدف بنفسها.
‘يبدو أنها كانت تدرك ما تفعله…’
لكن، لماذا لم تفعل ذلك منذ البداية؟ إن كان لتجنب إثارة الشبهات، فإن تحسنها المفاجئ بهذا الشكل يجعل الأمر أكثر إثارة للريبة.
“…أتطلع للقاء الثالث.”
تمتم رو بهذه الكلمات، ثم واصل سيره.
وكانت وجهته قصر دوق كايسن.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 34"