فكرت في ذلك وهي تشعر بأصابعه المستقيمة تتخلل شعرها. كل ما في الأمر أن عظامه أصبحت أكثر صلابة وبروزًا، وعروقه أكثر وضوحًا. لكنه لم يتغير قيد أنملة عن ذلك الفتى الذي كان يجلس عند البحيرة ويشد خصلات شعرها.
بدا أن التغير كان من نصيبها هي. ففي ذلك الوقت، كان الأمر مجرد دغدغة في أطراف أصابع قدميها، أما الآن، فجسدها كله يرتجف. ومع كل خفقة قوية لقلبها، كان الدم يتدفق بسرعة في جميع أنحاء جسدها. عندما أطلقت نفسًا خافتًا، اهتزت خصلات شعرها الرقيقة وتناثرت على صدرها، وحينها فقط تذكرت أنها كانت على وشك النوم. في تلك اللحظة، تغلغل صوته المنخفض عميقاً في أذنيها.
“أريد أن أسمع ما حدث في الماضي. ولنطرد النعاس أيضًا.”
“…إلى أي ماضٍ تقصد؟ هناك طفولتنا، وهناك المرة الأولى التي ركبنا فيها مسبار الاستكشاف، وهناك المرة الثانية التي مررنا فيها بنفس الأحداث.”
“لا يهم متى حدث ذلك. أريد فقط أن أسمع بالتفصيل ما حدث في المرة السابقة.” تجمدت للحظة عندما مر بذهنها صوت مألوف كأنه هلوسة سمعية.
– “بعد أن ننتقل بسلام إلى الوحدة 30، أخبريني حينها بالتفصيل عما حدث في المرة السابقة.”
كانت هذه الجملة التي قالها آصلان قبل لحظات من مواجهة الرجل الأشقر في الوحدة 30.(لما هاجمهم الاشقر بأول مرة رجعت فيها رييلا، وبعدين بدأت احداث الرقم 15 وحقيقة ام رييلا وبعدين رجعوا مرة ثانية واخذت هذيك السماعة وجلست تتذكر ذكرياتها بس مسكها الاشقراني)
رغم أن الكلمات لم تكن متطابقة تمامًا، إلا أن تشابه الموقف جعل غصة تتصاعد في حلقها. بدا الأمر وكأن القدر يواصل نسج خيوطه حتى مع عودة الزمن.
‘هل يجب أن أختار واحدًا فقط؟’.(قصده تقول عن شي واحد بس، مثلا ذكريات طفولتهم، او الجولة الأولى بحق الجنة او الثاني بحدث الرقم 15، او ذكريات طفولتهم)
كم سيكون رائعًا لو أمكن اقتطاع الذكريات ماديًا وتقاسمها معًا. حينها، كنت سأقطع جزءًا من روحي وأضعه في يده بلا تردد.
ذكريات تعلمها السباحة بركبتين مرتجفتين، أو لحظة انفجارها ضاحكة في أحضانه. وتلك الأيام التي قضياها يقلبان قاع البحيرة بحثًا عن الأسماك ثم ينتهيان بالتحديق في سماء الليل، كلها أصبحت بالفعل جزءًا لا يتجزأ منها.
“أخشى ألا يكفينا الوقت، لذا لست متأكدة إن كان بإمكاني بدء الحديث.”
عندما تمتمت رييلا بقلة ثقة كفتاة بطيئة التعلم، ألقى آصلان نظرة سريعة على الساعة في اليد التي كانت تمسك بشعرها، وأجاب بصوت منخفض: “لقد أخبرته أن يأخذ غفوة إذا شعر بالتعب أثناء العمل. لذا لا بأس من الغياب قليلاً.”
عملية الإصلاح تسير بسرعة والوقت وفير. عندما استوعبت رييلا الوضع، أومأت برأسها لكنها ترددت طويلًا. ربما لأن الذكريات تراكمت بكثرة، أصبح من الصعب استخراج تلك الموجودة في القاع.
“إذن، هل يمكنني تجاوز مرحلة الطفولة والبدء من لحظة استيقاظنا في مسبار الاستكشاف لأول مرة؟ أريد أن أروي حكايات الطفولة لاحقًا عندما يكون لدينا متسع كبير من الوقت.”
في النهاية، قررت الاحتفاظ بذكرياتها الأثمن في أعماق روحها. شعرت أنه لن يكون متأخراً أن ترويها دفعة واحدة لاحقًا، عندما يصبح الوضع أكثر أمانًا وتستعيد ذاكرتها بالكامل.
“البداية كانت تمامًا مثلما استيقظنا هذه المرة. الجميع كانوا نائمين وكنا أول من استيقظ…”.
وهكذا بدأت تسرد الأحداث التي وقعت في الرقم 30 واحدًا تلو الآخر من ذاكرتها. ماذا قال آصلان وكيف تصرف عندما استيقظ أولاً، من مات، وما هي الأحداث التي تلت ذلك. كانت هذه معلومات مفيدة له في التعامل مع الناس مستقبلاً.
كما كانت تفكر دائمًا، كان لديه موهبة فطرية في الاستماع.
الرجل الذي كان يحدق في عمق عينيها دون أن يحيد ببصره، كان يركز كليًا على كل كلمة تقولها، وأحيانًا يطرح أسئلة، وفي كل مرة يفعل ذلك، كان قلبها يخفق. لأن ذلك كان تعبيرًا عن اهتمامه الواضح بقدر ما هو تعبير عن تعاطفه.
نبرته المنخفضة والمريحة للأذن كانت تشع جوًا من الاستقرار يختلف تمامًا عن توتره السابق عندما أمسك بها ليمنعها من الذهاب إلى ديلان. وبفضل ذلك، زال توترها وأصبح الجو ناعمًا كالحرير. وهذا هو السبب الذي يجعلها تحب قضاء الوقت معه.
ففي أي وقت وأي مكان، تجد نفسها مندمجة في حديث حميم، وتستخدم إيماءات يديها بحماس دون أن تشعر.
“…ثم وجدت المفتاح والمسجل في جيب أنطون. في الحقيقة، هذا ما جئت لأعيده إليك. لأنه في الأصل يخصك يا آصلان.”
عندما بحثت في جيب سروالها القصير وناولته الغرض الأصلي، شغل أصلان المسجل فوراً وتحقق من الملف.
– الساعة 09:00 من اليوم الثاني والعشرين مارس 2035. بدءاً من هذه الساعة، ستدخل الوحدة 30 إلى الهاوية. هذا التسجيل هو سجل احتياطي تحسبًا لتلف تسجيلات مسبار الاستكشاف خلال فترة المشروع.
مرت حوالي 12 دقيقة حتى سُمع صوت الارتطام “كونغ”. وعندما ساد الصمت بعدها، قفز بالتسجيل إلى النهاية كما فعل سابقًا. سُمع صوت حركة أنطون ثم انتهى التسجيل. توقعت رييلا أن يذكر موضوع المهلة الزمنية المحدودة.
لكن، وعلى عكس المرة السابقة، لم يضع المسجل في جيبه بعد الاستماع للنهاية. بدا غارقًا في التفكير. في النهاية، سألته رييلا بحذر: “ما الأمر؟ هل هناك شيء غريب؟”.
“هل تتذكرين ما قلته في البداية؟”.
“ما قلته في البداية؟”.
“.”هذا التسجيل هو سجل احتياطي تحسبًا لتلف تسجيلات مسبار الاستكشاف خلال فترة المشروع”.”
“آه، نعم.”
“لكن لم يكن هناك أي تسجيلات للمسبار في قمرة القيادة.”
“ماذا؟”.
اتسعت عينا رييلا باستغراب. لم تفهم قصده جيدًا.
“ألا يمكن أن تكون قد تضررت عندما تحطمت قمرة القيادة؟”.
“لو تضررت لكان السجل موجودًا. الأقرب للصواب هو أنها حُذفت.”
حُذفت؟ من فعل ذلك؟.
لم تستطع الفهم. لماذا؟ لو كانت تحتوي على عملية النزول لكانت مفيدة من عدة نواحي، فمن ذا الذي يفعل شيئًا كهذا ولأي غرض؟ لا يوجد سوى سبعة أشخاص، وإذا كان أحدهم قد حذفها، فبالتأكيد الجاني بينهم، لكن رييلا لم تكن واثقة. حتى أنطون، المشتبه به الأبرز، لا دليل ضده، وربما كان هناك شخص استيقظ قبله… .
وبالتفكير في الأمر، لم يكن هذا هو الشيء الغريب الوحيد. حتى لحظة التسجيل، كان يبدو أن أصلان يعرف الكثير عن مشروع الهاوية. ثم “كونغ”، توقف المسبار وفقد الجميع وعيهم بسبب الحادث. وعندما استيقظوا مجددًا، كانوا فاقدين للذاكرة.
هل هذا ممكن واقعيًا؟.
من الصعب إلقاء اللوم على “الهاوية” وحدها، فالفرق الأخرى مرت بنفس الحادث وظلت سليمة. الأقرب للمنطق هو أن أحدهم “مسح” ذاكرتهم عمدًا أثناء غيبوبتهم. تماماً مثل الخبراء الذين كانوا يأتون في طفولتها حاملين آلات ضخمة توضع على الرأس. إذا كان هذا المشهد مسجلاً، فسيكون سبب حذف تسجيلات الفيديو مفهومٍا.
في لحظة الإدراك، اجتاحها رعب واقعي كالقشعريرة. كان من المربك أنها لم تفكر في هذا من قبل. حاولت رييلا جاهدة تذكر وجوه الأشخاص الذين تبادلت معهم التحيات بود في الطابق الثاني قبل قليل. بما أنه لا أحد يستطيع مسح ذاكرته بنفسه، فلا بد أن الفاعل يعرفها. من كان الشخص الذي بدا عليه الارتباك أثناء التحية؟.
“هل يمكنكِ التحقق من التسجيل بدلاً مني؟ أود الاستماع إليه بنفسي، لكن مع الإصلاح والقيادة، سيكون من الصعب تخصيص عشر ساعات حاليًا”
آصلان، الذي كان غارقًا في أفكاره أيضًا، هو من قطع سلسلة أفكارها المتلاحقة. وضع مفتاح مستودع الأسلحة في جيب بنطاله وأعاد إليها المسجل فقط. بدا وكأنه يعتقد أن دليلاً ما يختبئ في تلك الفجوة الزمنية الطويلة بين البداية والنهاية التي تجاوزوها. عندما أومأت برأسها وهي تأخذ الجهاز بذهول، أخرج آصلان سيجارة ووضعها في فمه كعادة، لكنه سرعان ما أدرك أنه لا يستطيع تدخينها، فعلق تلك الأسطوانة البيضاء الطويلة بين أصابعه.
“لطالما كان لدي فضول… متى تدخن في العادة؟” قالت ذلك لتخفي توترها، لكن بمجرد نطقها للسؤال، شعرت بفضول حقيقي. في المرة الأولى، وضع السيجارة في فمه لكنه لم يشعلها أبدًا، وفي المرة الثانية، أشعلها بسهولة بعد وقت قصير.
كانت تتساءل عن المعيار الذي يجعله يغير تصرفه.
“لم أفكر في الأمر من قبل، لكنني ألجأ إليها عادة عندما يتشتت انتباهي بأمور لا ينبغي لي الاكتراث بها. أو عندما أرغب في تهدئة انفعالي، أو حين ينتابني شعور قوي بالشؤم.”
“والآن؟”.
“ما رأيكِ، أيهما يبدو الأقرب؟”. مالت زاوية شفتيه الطويلة بابتسامة جانبية. كانت عيناه الخفيضتان موجهتين نحو وجهها الأبيض فقط، لكن رييلا شعرت لسبب ما وكأنها مكشوفة تمامًا.
ربما لأن شعرها الطويل والكثيف الذي كان يغطي كتفيها وملابسها قد انزلق كله خلف ظهرها أثناء حديثهما. في تلك اللحظة، تحركت شفتي رييلا التي كانت تنظر إليه بعينين مرتجفتين من تلقاء نفسها.
“…إذن، ماذا عن الشعر؟”.
رغم علمها أن هذا ليس الوقت المناسب. لكنها شعرت أنها إن لم تسأل الآن، فلن تتمكن من السؤال أبداً.
“الشعر؟”.
“لماذا يميل الفتيان للعب بشعر الفتيات وترك أماكن أخرى؟ أعلم أن الأمر يختلف من شخص لآخر، لكن ما رأيك؟”.
كانت تعلم جيداً أن سؤالها مفاجئ وفي غير محله. لكن آصلان لم يسخر من سؤالها ولم يبدُ عليه الذهول. بدلاً من ذلك، نظر إليها بتمعن وكأنه فهم مغزى كلامها، وأجاب: “لأنها شيء يرغب في لمسه، لكنه لا يستطيع لمسها كما يحلو له.”
التعليقات لهذا الفصل " 73"