خيّم صمت ثقيل وموتر. تيك تاك، تيك تاك. شعرت وكأنها تسمع صوت عقرب ثوانٍ لساعة غير موجودة.
لم يكن لدى أي منهم نية للتنازل مهما قيل. ربما لأن الجميع استشعروا توترًا غامضًا في كلماتها، لم يجرؤ أحد على التحدث بتهور.
“إثبات أنهم بشر، كيف يعني؟”.
“لا أدري. هذا أمر عليهم هم معرفة كيفية فعله.”
نظر آصلان إليها بتعبير غير مقروء، ثم مد يده. عندما سلمته وحدة التحكم بعد تردد، رأته يومض الأضواء لإرسال الرسالة. بعد تكرار نفس المحتوى ثلاث مرات، غرق الطرف الآخر في الظلام. دقيقة مرت. دقيقتان.
“لا يعقل أنهم غضبوا وغادروا، أليس كذلك؟” تمتم ديلان بقلق.
“فكروا في الأمر. لقد خاطبناهم لينقذونا، وفجأة نطلب منهم إثبات أنهم بشر. من تظنين نفسك… هل أنتِ نظام لمنع الروبوتات (Macro)؟”.
“لم يكن هناك خيار آخر لمنع وقوع كارثة. بالمناسبة، كيف عرفت اللقب؟”.
“هاه؟”.
“قبل قليل، أشرت لنفسك باسم ديلان ليونارد وشيء ما.”
لأنها كانت قلقة مثله، غيرت الموضوع عمدًا. هز ديلان كتفيه وأخرج محفظة جلدية بالية من جيبه ولوح بها.
“كانت في محفظتي.”
يبدو أن بطاقة هويته كانت بداخلها. نظرت رييلا بخلسة إلى الشاشة التي لم يأتِ منها رد، وسألت لتخفيف التوتر: “هل يمكنني رؤيتها؟”.
“بكل سرور.”
“سيد تينجي، تعال إلى هنا أيضًا. لننبش معًا في ماضي شخص غريب.”
لأنها شعرت بالقلق تجاه الشخص الواقف وحده بمعزل عنهم، نادته، فاقترب تينجي بتردد ووقف بجانبهم. بدا ديلان مستمتعًا بكونه مركز الاهتمام حتى في هذا الموقف. كانت المحفظة الجلدية البنية الكلاسيكية مغطاة بالكثير من المواد اللامعة في إحدى زواياها، مما اضطرها للإمساك بطرفها لفتحها.
“11 فبراير 2011…؟”.
كان تاريخ الميلاد أكثر إثارة للدهشة من الصورة التي بدت وكأنها لمطلوب أمني.
“أنت في الرابعة والعشرين!”.
“وماذا في ذلك. هل لهذه السفينة حد عمري للركوب مثل ألعاب الملاهي؟”.
“ليس هذا ما أعنيه، أنا في الخامسة والعشرين وآصلان في السابعة والعشرين.”
لأنها شعرت بالذهول من إسقاطه للألقاب الرسمية طوال الوقت، أشارت لنفسها ولآصلان بالتناوب وهي تتحدث. نظر ديلان بشكل طبيعي إلى الهدف التالي، تينجي. بدا تينجي مرتبكاً وتمتم بقلة ثقة: “أه… لست متأكدًا… لكن أظن أنني تجاوزت الرابعة والعشرين.”(يعني بكوريا الشخص يلي عمره أكبر نناديه أو نتكلم مع برسمية بس ديلان لا يعملهم كأنه أكبر منهم وما يتكلم برسمية، بس المشكلة أن ديلان نشاء بحي فقير عكسهم عشان كذا يتكلم بقلة احترام)
“أجل، هنيئًا لكم جميعًا بتقدمكم في السن. يبدو أن مواليد الألفين مختلفون حقًا، مهووسون بالأعمار.”(قصده مواليد 2000 ل 2009 بالالفين)
“أنا أيضاً من مواليد 2010.”
عندما ردت رييلا وهي تضيق عينيها، سخر ديلان بصوت “هونغ”، لكن وحدة التحكم ومضت في تلك اللحظة. أغلقوا أفواههم جميعًا في وقت واحد والتفتوا، وهذه المرة، بدأت جملة طويلة استغرق عرضها أكثر من 4 دقائق تومض على الشاشة. لو كان شخصًا عاديًا، لكان عليه تدوين الرموز وفك شفرتها ببطء، لكن الشخص الذي يقرأ الرموز الآن هو أصلان.
اكتفى بالمراقبة في المرة الأولى، وعندما تكررت الرسالة للمرة الثانية، قرأ الإشارة بصوت منخفض وبطيء.
“.”تحياتي. أنا الملازم الثاني ترانت ماكوي، ضابط اتصالات تابع لقيادة العمليات الخاصة في حكومة التحالف (UCS). في طفولتي، كنت أتخيل أن قصاصة الأظافر وقلم الحبر سفن حربية وألعب متخيلاً السفر في أرجاء الغرفة. كان يركب معي جرو أبيض أحببته لكنني ودعته، وقطة مرقطة أصبحت فردًا من العائلة بعد أن كنت أطعمها أمام المنزل. كنا نسافر عبر الصحاري الرملية ونقاتل فرسانًا يمتطون التنانين. كنت أسمي ذلك (لعبة القصص)، ومؤخرًا أفكر أنني جئت للفضاء وأحتفل بحقيقة تغلبي على تلك الشروط الجسدية اللعينة لركوب مركبة فضائية. شككم في الهاوية حكيم، لكنني أؤكد لكم أنني إنسان يحلم ويتخيل ويستمتع بختلاق القصص”.”.
“إذا كان عليك إنزال أحدهما من تلك السفينة الحربية، الجرو الأبيض أم القطة المرقطة، أيهما ستتخلى عنه؟” سألت رييلا فجأة، فبدا الجميع مندهشين. وحده آصلان، وكأنه خمن نيتها، حرك يده برضا لإرسال السؤال.
“يا، مهلاً، هل سترسلين ذلك كما هو؟”.
قبل أن يتمكن ديلان المذعور من منعهم، تم إرسال الرد.
إنسان يتخيل ويختلق القصص… بالطبع، الإبداع الذي أظهره قد يكون دليلًا مناسبًا لإثبات إنسانيته. لكن في الوقت نفسه، رأت رييلا أنه غير كافٍ لاستبعاد احتمال تقليد الوحوش.
المهم هو رد الفعل “الإنساني” عند تلقي سؤال غير متوقع. فالإنسانية هي الموهبة البشرية التي لا يمكن للآلات ولا للوحوش تقليدها أبداً.
“.”أنزل أنا بدلاً من التخلي عن عائلتي”.”
جاء الرد أسرع من المرة السابقة. ومضت الإشارة مرة واحدة فقط دون تكرار، وكأن صاحبها شعر ببعض الاستياء.
فكرت أن هذا رد فعل إنساني بحت. إذا سألها أحدهم ما هو الإنساني في ذلك، فلن تكون واثقة من تحديد السبب بدقة، لكن رييلا عرفت ذلك وحسب. الملازم الثاني ترانت ماكوي كان، على الأقل في هذه اللحظة، إنساناً حياً.
“أعتقد أن هذه إجابة كافية. هل يمكنني الإبلاغ عن وضعنا الحالي الآن؟”. سألها أصلان، الذي كان يراقب تعابير وجهها بصمت.
غرقت رييلا في التفكير، تراجع وتدقق، وبعد فترة طويلة أومأت برأسها. استعجلها ديلان، الذي كان يمرر لسانه على شفتيه بقلق وعيناه تلمعان: “ماذا سترسلين؟”.
“يو سي إس تايتان، هنا الوحدة 30 لمشروع الهاوية. نؤكد نجاة 7 أشخاص. مسبار الاستكشاف يقع حاليًا على مسافة 8 كيلومترات من الطائرة المسيرة. نحن بصدد إصلاح لوحة التحكم ومن المتوقع أن يستغرق الأمر حوالي سبع ساعات. نحتاج إلى إنقاذ طارئ. انتهى.”
لم يمضِ وقت طويل حتى جاء الرد. السفينة الحربية لا تستطيع التحرك من موقعها الحالي، وطلبوا منهم القدوم إلى ذلك الموقع بعد ثماني ساعات وإرسال إشارة مجددًا. تحقق آصلان من الوقت. الساعة 12:55 بعد منتصف الليل.
“يجب الانتهاء من الإصلاح بحلول الساعة الثامنة صباحًا، هل سيكون ذلك ممكنًا؟ إذا كان مستحيلاً، يمكننا تعديل الوقت.”
عندما سأل آصلان تينجي، جفل الأخير وتأتأ قائلاً: “س-سأحاول. الوقت الذي ذكرته سابقاً كان بزيادة احتياطية…”.
“لا أدري إن كنت سأفيد، لكنني سأساعدك بجانبك.”
آصلان، الذي قدم دعمًا بكلمات مقتضبة ولكن مشجعة، ضغط زر العودة في وحدة التحكم لاستدعاء الطائرة المسيرة. إنه عمل يتطلب التركيز طوال الليل في مكان مظلم. ولن يكون تحمل عبء إنقاذ الآخرين أمراً هينًا.
“سأساعد أيضًا بكل ما أستطيع. بالمناسبة، ألستم جائعين؟ هل أحضر لكم شيئاً لتناوله؟”. عندما سألت رييلا بلطف، احمرت أذنا تينجي وتمتم بكلمات الشكر.
وبهذا، لم تعد الوحدة 30 تطفو بضياع، بل أصبح لديها اتجاه للمستقبل على الأقل. قد يجدون طريقة للخروج. فحقيقة أنهم لم يستخدموا الاتصال اللاسلكي كانت دليلًا واضحًا على أن الطرف الآخر يعرف “الهاوية” جيدًا.
لقد أرادوا تجنب جذب انتباه الكائنات الضخمة التي قد تستشعر الموجات اللاسلكية.
***
بمجرد أن فكرت في الأمر، شعرت بالقلق من أنهم ربما استخدموا الموجات الكهرومغناطيسية أكثر من اللازم.
حتى بعد نزولها للطابق الثاني ومشاركة طعام الطوارئ مع الآخرين والتعرف عليهم بود، ظلت رييلا تعاني من رعب اقتحام الرجل الأشقر للمكان في أي لحظة. إذا شردت قليلًا، كانت صورة السفينة 31 المحطمة جزئيًا بسبب استخدام اللاسلكي تطفو في ذهنها.
رغم معرفتها أن مدى الموجات الكهرومغناطيسية للطائرة المسيرة لا يتجاوز بضعة كيلومترات في هذا المحيط، بعكس اللاسلكي الذي يصل لمدى عشرات الكيلومترات، إلا أنها ظلت قلقة. كانت متوترة من فكرة أن الوحش قد يصل إليهم بطريقة ما رغم صعودهم لآلاف الأمتار. لم يكن هناك مجال للنوم. ومع ذلك، وبينما كانت تغير ملابسها لتحاول إغماض عينيها ولو قليلاً، سقط المسجل من جيبها على الأرض بصوت مكتوم “توك”.
“آصلان، هل يمكنك الخروج للحظة؟”.
عندما فتحت باب قمرة القيادة قليلاً وتحدثت، كان الرجلان ينظران في اللوحة بنفس الوضعية التي كانا عليها قبل أربع ساعات. الشيء الوحيد الذي تغير هو السترة التي خلعها آصلان ربما بسبب الحرارة، وقميصه الأبيض الذي ترفرف أكمامه في الرياح مع زرين مفتوحين.
“لدي شيء أريد إعادته لك.”
نظر إليها، ثم قال شيئًا لتينجي وخرج من قمرة القيادة. قبل أن يغلق الباب، هبت رياح قوية في الرواق. عندما ارتعشت كتفاها، مسحها بنظرة من رأسها حتى أخمص قدميها وهي ترتدي قميصًا أبيض بنصف كم وسروالًا قصيرًا. كانت قد غيرت ملابسها لتوها بملابس خفيفة ومريحة استعداداً للنوم.
“كيف يسير العمل؟”.
“أسلس مما توقعت، أعتقد أننا سننتهي خلال ساعة تقريبًا. وقت الاختبار سيكون مسألة أخرى.”
“واو، هذه أخبار جيدة. في الحقيقة، كنت قلقة بشأن استخدامنا للطائرة المسيرة سابقًا، لذا أرغب في مغادرة هذه المنطقة بسرعة.”
“سأحاول الانتهاء بأسرع وقت ممكن.”
أجاب آصلان باقتضاب، وكأي شخص خرج لأخذ استراحة، أخرج سيجارة ووضعها بين شفتيه بحركة معتادة. حان الوقت للحديث عن المسجل. وبينما كانت رييلا تفكر في كيفية قول ذلك، لاحظت فجأة أن الرجل المستند على الجدار لم يشعل سيجارته، فانتفضت.
“آه… صحيح، القداحة.”
الغرض الذي كان يجب إعادته حقًا كان شيئًا آخر.
“ديلان أخذها قبل قليل قائلاً إنه سيستخدمها للحظة، ونسيت استعادتها منه. أنا آسفة.”
عندما تمتمت رييلا بوجه يوشك على البكاء من الارتباك، أخرج الرجل السيجارة من فمه وهو ينظر إليها بتمعن، وأجاب بصوت منخفض: “لا بأس. لم أكن أنوي التدخين في الداخل على أي حال.”
“لكنها ليست غرضي حتى، ومع ذلك أعدتها لشخص آخر. سأذهب لاستعادتها فورًا.”
في اللحظة التي استدارت فيها، توقفت خطواتها بسبب يد قوية أمسكت بمعصمها. انتفضت ونظرت إليه، لتلتقي عيناها مباشرة بنظراته الخالية من المشاعر. الخامسة فجرًا. وسط جو الإرهاق المميز لتلك الساعة، كانت عيناه اللتان لا يمكن سبر أغوارهما مثبتتين عليها وحدها.
“الآن، أريد فقط أن يكون شخص ما بجانبي. لأن القداحة شيء يمكن التخلص منه.”
في الإضاءة الخافتة، بدا وجهه المظلل وكأنه ملتوٍ بشكل طفيف وغير ملحوظ لسبب ما. رمشت بعينيها، ثم اقتربت منه مستسلمة ليده التي سحبتها. كانت المسافة بينهما تسمح باحتضان بعضهما والمسح ببطء على الظهر، أو ضغط الشفاه على الكتف، لكنه لم يفعل ذلك. اكتفى بفك يده التي كانت تمسك بمعصمها ببطء، ليقبض على أطراف شعرها التي انسدلت على صدرها.
التعليقات لهذا الفصل " 72"