[جاري بدء المسح بالموجات فوق الصوتية لتحليل الخصائص الهيكلية للعائق.]
بمجرد أن اهتز المسبار، سحبها إليه بقوة محتضنًا إياها، وتمسك بمقبض لوحة التحكم. لم يكن الاهتزاز قويًا، لكنه كان كافيًا ليسقطها أرضًا لو كانت غافلة. تحملت رييلا ارتجاف الأرضية وهي غارقة تمامًا في أحضانه.
ملامسة للسطح؟ عائق؟ لماذا فجأة؟.
“…ما الأمر؟ هل يعقل أن شيئاً ما أمسك بنا من الأسفل؟” عندما توقف الاهتزاز، تمتمت رييلا وهي ترتعد خوفًا.
صورة الرجل الأشقر وهو يركض نحوهم كانت أول ما ومض في ذهنها. تمامًا كما يتخيل المرء السقوط بمجرد حمل كوب مليء بالقهوة، أو يتخيل انسكاب شيء ما عند رؤية حوض سمك نظيف، افترضت هي الأسوأ بشكل تلقائي. تخيلت السقوط.
“لا، ليس من الأسفل بل من الأعلى.” أجاب آصلان بصوت منخفض وهو يدير رأسه لينظر إلى الشاشة. اختفت تمامًا ملامح الاضطراب التي كانت تعلو وجهه قبل لحظات، وراح يحدق بلا تعابير في الشاشة التي تعرض رسمًا لمسبار الاستكشاف.
[تحذير: تم رصد جسم غير متوقع في مسار الحركة. جاري حساب المسار الأمثل لتجاوز العائق باستخدام نظام الملاحة الآلي.]
رسم النظام سقفًا مسطحًا يعترض طريق المسبار.
الارتفاع 2,311 مترًا. ورغم أن النظام أعلن عن حساب المسار، إلا أن الرسم أوحى بأن السقف يمتد أفقيًا بلا نهاية.
ترك آصلان رييلا واقترب من لوحة التحكم ليعبث ببعض الإعدادات، وحين لم يستجب النظام، تحدث مجددًا: “لدي سؤال واحد. كم قضينا من الوقت تحت الأرض قبل أن نستيقظ؟ هل سبق لكِ رؤية مطر يهطل أو ماء متجمع على الأرض؟”.
“لا. قضينا وقتًا طويلاً، أظن أنه قارب الشهر، لكن المطر لم يهطل ولو لمرة واحدة. لكن، ألا يمكن أن تكون قطرات المطر قد تبخرت بسبب الحرارة العالية قبل وصولها للأسفل نظراً لعمق المكان؟”.
كان يوري قد ذكر هذا الأمر أيضًا. قائلا إن عدم هطول المطر أمر غريب. لكن رييلا كانت تعتقد أن وصول المطر إلى هذا العمق السحيق هو الأمر الأغرب.
“درجة الحرارة لا تتوافق مع هذا الافتراض.”
“ماذا؟”.
أشار آصلان بعينيه إلى معلومات أخرى بجوار مؤشر الارتفاع 2,311 مترًا. كان مكتوبًا في خانة الحرارة 20 درجة مئوية (68 فهرنهايت)، والضغط الجوي 900 هيكتوباسكال.
بالتأكيد كانت درجة الحرارة أبرد من أن تسبب تبخر قطرات المطر.
“هناك أمر آخر يثير الريبة. الزجاج كان مكشوفًا وكنت أراقب طوال الصعود، لكن باستثناء ارتفاع طفيف في الحرارة وانخفاض بسيط في الضغط، لم يتغير شيء يذكر حتى بعد صعودنا 2,300 متر.”
عند التفكير في الأمر، شعرت رييلا بانسداد في أذنيها، لكن لم يبدُ أن هناك تغييرات أخرى ملحوظة.
“كيف يعقل ذلك؟”.
“قد يكون ممكنًا إذا أطلقنا العنان لمخيلتنا. إذا فهمنا المكان الذي نحن فيه كغرفة ضخمة يتم التحكم في بيئتها اصطناعيًا. ففي الدفيئات أو المباني الضخمة، تميل الحرارة للارتفاع، لذا من الطبيعي أن يكون الجزء العلوي أكثر دفئًا”
اتسعت عينا رييلا دهشة. لم تفكر في ذلك من قبل. بهذا المنطق، كيف عاشت كائنات الأعماق طوال هذا الوقت؟ فكلما تعمقنا في القشرة الأرضية، أصبحت البيئة غير صالحة للحياة بسبب الضغط والحرارة العاليين.
“…إذن، ربما نحن داخل منزل بنوه هم من أجل البقاء.”
وكان الباب مغلقًا. ولا أحد يعرف كيفية الخروج سوى صاحب المنزل.
تاك-تاك، تاك-تاك-تاك، نقر آصلان على لوحة التحكم ثم حدق في مؤشر الوقود. كانت الطاقة المتبقية 87%.
“من الأفضل أن نذهب للآخرين أولاً. لا بد أنهم استيقظوا جميعًا.”
عبث بشيء ما ثم التفت إلى رييلا. رغم توقف المسبار، شعرت بأن طبقة من قلقها المتأجج قد انقشعت بفضل هدوئه واتزانه. أومأت برأسها طاعة، فثبتت نظرته عليها للحظات.
دون أن تجد فرصة لتفادي نظراته، تذكرت المحادثة التي دارت بينهما قبل توقف المسبار مباشرة. عمليًا، كان ذلك بمثابة اعتراف بمشاعرها.
“بخصوص ما قلته قبل قليل…”.
“ليس لدي أدنى نية لقتلكِ. مهما حدث في المستقبل.”
“لا داعي لأن تهتم كثيرًا بالأمر.”
خرجت الجملتان الأخيرتان في وقت واحد تقريبًا، فتشابك الكلام بفوضوية. انتفضت رييلا، فمد يده التي يزينها سوار الساعة ليحجب الرياح عن وجهها وتحدث: “لست مهتمًا. أنا أنوي تصديق نصف كلامك فقط حتى أتذكر بنفسي.”
“…….”
“وحتى ذلك الحين، سأكتفي بمراقبتكِ من جانبي.”
صوته المنخفض والرطب جعلها تشعر وكأن قدميها قد سُمرتا في الأرض. تساءلت فجأة. هل شعوره باضطراب في معدته يعني أنه لا يزال يحمل مشاعر لها؟ أم أنه مجرد حنين غامض للماضي؟.
وبينما كانا ينظران لبعضهما البعض بصمت، فُتح باب قمرة القيادة بصوت “كييك”.
“آه، كنتما هنا؟”.
الشخص الذي أطل برأسه كان أنطون، الذي التفت ليمسح قمرة القيادة بنظرة سريعة ثم رسم ابتسامة ودودة مصطنعة على وجهه.
“الجميع في حالة ذعر وقلق الآن. أعتقد أنهم بحاجة لتفسير، إلى متى يجب أن يبقوا جالسين في أماكنهم؟”.
بشكل مفاجئ، بدا أن أنطون كان يسيطر على الناس حتى الآن. استعادت رييلا تماسكها واستدارت لتجيب: “آه، نعم. اصعدوا الآن إلى الطابق الثاني. ومعك الآخرون أيضاً.”
***
كانت وجوه الناس المتجمعين في مرفق المعيشة شاحبة وقلقة بلا استثناء. وكان ذلك متوقعًا بعد أن مروا بتلك الفوضى دون أن يتذكروا شيئاً. قيل إن بولينا استيقظت أثناء الإقلاع وأصيبت بنوبة، مما استدعى تدخل رجلين لتثبيتها من الجانبين. لم يذكروا من هما الرجلان، لكن رييلا كانت واثقة من أن ديلان لم يحرك ساكنًا.
“على أي حال، أنا سعيدة جدًا لأننا جميعاً نحن السبعة بخير.” تحدثت رييلا وهي تنظر إلى الجالسين في غرفة المعيشة.
ربما لأن أنطون نقل الموقف وكأنه يقدم تقريرًا، ولأن آصلان كان يقف بجوارها كحارس، ركز الجميع انتباههم عليها بشكل طبيعي. حتى ديلان الذي كان يعقد ذراعيه بتعبير مليء بالاستياء.
“هل هناك من يتذكر ما حدث قبل الحادث هنا؟”.
“كيف يعقل ذلك. أعني تبًا، استيقظت وأنا في حيرة من أمري. كل شيء يهتز، أشعر بالدوار والغثيان، وفي الجانب الآخر تصرخ امرأة لا أعرفها، ورجل يبدو كعم من الحي المجاور يتمتم كالممسوس بأن المكان آمن وأننا سنموت إذا خرجنا.”
جاء الرد بطبيعة الحال من ديلان الذي كان يتحين الفرصة.
تنهدت رييلا بعد أن تخيلت الموقف بوضوح، وهزت رأسها نافية وهي ترد على توهمات ديلان: “لا تقلق. ليس اختطافًا. بما أنه ليس لدينا وقت، سأشرح باختصار. لقد شاركنا في مشروع استكشاف تحت الأرض يسمى مشروع (الهاوية)، ونحن الآن داخل أعماق مجهولة. تعرضنا لحادث مفاجئ ونحن الآن متوقفون أثناء محاولة الصعود مجدداً.”
كان الأمر مختلفًا عن السابق. ربما لأنها مرت به مرة، خرج الشرح بنبرة مستقرة. كما أن الحوار الهادئ مع آصلان لعب دوراً كبيراً في تهدئة روعها.
“أنا أيضاً لا أتذكر كل شيء بسبب صدمة الحادث. لكنني أعلم يقيناً أن هناك كائنات جوفية خطرة تعيش في الخارج، وأن تلك الكائنات تستجيب للموجات الكهرومغناطيسية كالضوء والإشارات الإلكترونية، لذا لا يجب فتح الأبواب بتهور.”
جالت بنظرها بين الحضور لترقب ردود أفعالهم، فرأت الجدية تعلو وجوههم جميعًا. لم يكن هناك من يسارع باللوم أو يتهمها بالكذب أو يقول إن هذا مستحيل. يبدو أن حقيقة إقلاعهم وصعودهم الفعلي، بالإضافة إلى تغير نبرتها، قد لعبت دورًا كبيرًا في إقناعهم. اطمأنت رييلا لأنها أوصلت الحقيقة الأهم، وتابعت حديثها: “المشكلة الآن هي كيفية الصعود للأعلى. قمرة قيادة المسبار تضررت قليلاً، ولجعل الأمور أسوأ، توقفنا عن الصعود بسبب شيء يسد الطريق فوقنا. سيد تينجي. هل يمكنك إلقاء نظرة على قمرة القيادة؟”.
الرجل ذو الذقن المدبب، الذي كان يجلس بضم ركبتيه بقلق، انتفض حين شعر بالأنظار تتجه نحوه وأشار إلى نفسه متسائلاً: “أنا؟”.
“نعم. حسب علمي، أنت مهندس يا سيد تينجي. أنت الوحيد القادر على المساعدة. ديلان مسؤول عن قيادة أجهزة النقل، والسيد أنطون عالم، والآنسة آنا والآنسة بولينا مسؤولتان عن الاتصالات والأبحاث على التوالي.”
“آه… نعم، فهمت. أين معدات الإصلاح؟”.
عندما نهض تينجي متردداً، قال آصلان، الذي اطلع على مخطط السفينة، إنه سيرشده.
“ماذا عن البقية؟ ماذا يجب أن نفعل؟”.
التفتت رييلا نحو الصوت الودود لتجد أنه أنطون، وهو أمر غير متوقع. حاولت رييلا دفن ذكرى لقائهما الأول -حين صوب مسدسه نحوها وهددها بالابتعاد- في زاوية بعيدة من ذاكرتها، ورتبت الأولويات.
“في رأيي، يجب أن يجمع كل شخص أغراضه المهمة من غرفته تحسباً لاضطرارنا لمغادرة السفينة 30 بشكل عاجل. خاصة الأدوية الشخصية التي لا يمكن الحصول عليها في الخارج.”
“ألا يوجد جهاز تحكم عن بعد لرؤية الوضع في الخارج؟”
قاطعها ديلان فجأة وهو عابس الوجه. رغم أن تدخله لم يكن متماشيًا مع سياق الحديث، إلا أن رييلا اهتمت بكلامه.
“قلتِ إنه مسبار استكشاف تحت الأرض. ألا يوجد روبوت استكشافي يمكنه الخروج بدلاً من البشر، أو طائرة مسيرة (درون) مثلاً؟”
~~~
وعدنا لتكملة المجلد الثالث، المجلد الثالث يبدأ من 65 ل 100 والمجلد الرابع من 101 ل 137
التعليقات لهذا الفصل " 70"