في الحقيقة، لا أعلم لماذا عدتُ إلى اليوم الأول للمركبة رقم 30.
لقد رأيت ذكريات سنواتي من الثانية عشرة حتى السادسة عشرة. ورغم أنني وضعت في الحسبان احتمالية الاستيقاظ في المركبة رقم 30، إلا أن من اشتقت إليه حتى الموت كان آصلان في ذلك الزمن.
ليتني أستطيع المحاولة مرة أخرى فقط. لو حدث ذلك، لكنتُ… .
“هل تعنين أنكِ ستنتحرين؟”. سأل آصلان بنبرة باردة وهو يخفض عينيه. تجنبت رييلا النظر إليه وأشارت بيدها الفارغة إلى لوحة التحكم.
“هل لا بأس بترك قمرة القيادة على وضع الطيران الآلي؟”.
“ليس هناك ما يمكنني فعله أكثر من هذا. لا توجد مشكلة في أجهزة الطاقة، لكن أجهزة التحكم معطلة، لذا القيادة السليمة غير ممكنة.”
“إذن، ماذا عن الهبوط؟”.
“سنراقب الوضع، وعندما نقترب من السطح، سيتعين علينا القفز بالمظلات من المركبة رقم 30 التي ستستمر في الصعود بلا توقف.”
نقل آصلان الموقف بهدوء ووتيرة غير مستعجلة.
“مع ذلك، من الجيد أننا نجحنا في الإقلاع. كان الأمر وشيكًا.”
عندما رسمت رييلا ابتسامة شاحبة بصعوبة، نظر إليها بتمعن.
“ألم تكن هناك طريقة أخرى؟ بما أنكِ تحدثتِ عن النافذة الزجاجية، لا بد أنكِ كنتِ تعلمين بوجود مشكلة في قمرة القيادة.”
“ربما كانت هناك، لكن هذه بدت الطريقة الوحيدة لهروبنا جميعًا بسلام. فالوقت ضيق، ونحن سبعة أشخاص.”
السيارة المخصصة لأربعة ركاب لن تتسع للجميع، وكان من الصعب إيقاظهم وإقناعهم جميعاً والتحرك في وقت قصير. كانت هذه أسهل طريقة. إذا وقع حادث أثناء الصعود أو شعرت أنها ستموت، يمكنها حينها الانتحار بمسدس آصلان. بهذه الطريقة، يمكنها العودة دون أن يتألم أحد.
يمكنني المحاولة مرارًا وتكرارًا… حتى يصل جسدي إلى حده الأقصى.
“لكن يبدو أننا تخلصنا منهم، أليس كذلك؟ الحمد لله. عندما نخرج إلى مكان مشرق، سأحكي لك حقًا كل ما حدث دون أن أغفل أي تفصيل. شكرًل لمساعدتك.” قالت ذلك بنبرة تبريرية وهي تنظر إلى الارتفاع المكتوب باللون الأحمر: 1102 مترًا. بما أن المخلوق العملاق الذي رأته كان بحجم مبنى من 20 طابقًا تقريبُا، فمن المستحيل أن يصل إليهم الآن. توقف تسارع مسبار الاستكشاف، وبدأ بالصعود بسرعة ثابتة.
1103 م، 1104 م… .
كانت الأرقام الموضوعية تتصاعد بنفس سرعة تصاعد شعورها بالارتياح. وبمجرد أن استرخى جسدها المتوتر، ترنحت، فمد آصلان ذراعه ليلتقطها بشكل لا إرادي. أسندت رييلا رأسها على صدره الصلب، واستنشقت رائحته العميقة وهي تحاول بيديها تلمس خصره بحثًا عن المسدس. رغم أنهم يصعدون، إلا أن الحيطة واجبة. حينها، جلس هو على لوحة التحكم خلفه مباشرة، وأمسك بيدها التي كانت تعبث بخصره. أمسكها بخفة ثم بدأ يضغط على أطراف أصابعها تدريجيًا. بقوة تكاد تخدرها.
“قد أكون وافقت على إعارتكِ القداحة، لكنني لم أقل أبداً أنني سأعيركِ المسدس.”
سقط صوته المنخفض بجوار أذنها. رفعت رأسها. عيناه اللتان جمعتا بين السواد والزرقة، كانتا تتحولان إلى هاوية ثم إلى بحر مع كل ومضة من لوحة التحكم. قد لا يكون لأي منهما معنى. لأن الحقيقة الثابتة هي أن ذلك الظلام المزرق، أياً كان، فارغ تمامًا. هو لا يتذكرها.
“إذا كان هناك إنسان ينظر إلى وجهكِ الآن ويسلمكِ مسدسًا، فهو قاتل.”
“آه… هل أبدو وكأنني سأطلق النار على أحد؟”.
“لا، بل تبدين وكأنكِ ستضعين الفوهة على رأسك وتضغطين الزناد.”
“…….”
“ليس لدي هواية مشاهدة شخص ينتحر.”
الانتحار. انكمشت أكتاف رييلا تحت وطأة تلك الكلمة. شعرت وكأن الكلمة التي حاولت تجاهلها عادت لترتد إليها كالسهم.
هل ما كنت أنوي فعله هو انتحار؟ كنت أريد العودة فقط. بما أنني أستطيع إعادة الزمن على أي حال، فإن تحدي الاحتمالات ولو لمرة واحدة لا يعد شيئًا جللاً. الموت ليس مخيفًا، لذا لا شيء… في تلك اللحظة تذكرت قنينة الدواء الصغيرة التي تسلمتها في المختبر. وتذكرت كلمات الباحثين.
اقشعر بدنها وانقطع نفسها فجأة.
ربما هي الآن في حالة لا تسمح لها بالتفكير السليم. دون تفكير عميق، لقد هربت وهي تنظر إلى الأمام فقط، مثل حصان يُحجب ما على جانبيه عن الرؤية، دون تفكير عميق.
حتى أنها نسيت الحقيقة البسيطة بأن الوحوش ستتجمع إذا أضاءت الأضواء.
“لا… لم أكن أنوي الانتحار أبدًا… أبدًا”
في النهاية، خارت قوى يديها. بدأ قلبها يخفق ويؤلمها كما لو أنها تناولت كمية كبيرة من الكافيين.
“إذن، هل يمكنني أن أطلب منك معروفًا واحداً؟”.
“تحدثي.”
“إذا فقدنا الأمل، سواء بسقوطنا أو بظهور شيء ما لقتلنا، هل يمكنك حينها أن تطلق عليّ النار أولاً؟”.
تصلب وجه الرجل الذي كان ينظر في عينيها بثبات.
“أعلم أنني أبدو كمجنونة، لكن إذا مت، يمكنني إعادة الزمن. لهذا السبب عرفت مسبقًا أن شيئًا ما سيظهر قبل قليل. أكره أن يتألم الآخرون. سأموت أنا أولاً وأبدأ من جديد.”
“أرفض.”
“لماذا؟ لأنك لا تصدقني؟ لذلك أقول لك ليس في أي وقت، بل حين تحكم أنت بأن الوضع خطر…”.
لا يزال تعبير وجه آصلان في الثامنة عشرة حين صوب مسدسه نحو لوكاس حيًا في ذاكرتها. وجه خالٍ تمامًا من المشاعر، بلا أخلاق ولا شعور بالذنب. هو يختلف عن البشر العاديين. لأنهم ربوه ليكون مختلفًا. في ذلك القصر، تعلمت هي كيف تموت، وتعلم هو كيف يقتل. كانا تركيبة أرسلت إلى السفينة 30 في الوقت المناسب تماماً.
“آصلان.”
نظرت إليه وهي ترخي حاجبيها بتوسل، فقطب ما بين عينيه قليلاً. كان نفس التعبير الذي ارتسم على وجهه حين نادته باسمه لأول مرة عند البحيرة.
“لدي سؤال واحد، هل يمكنني طرحه أولاً؟”.
“أجل.”
أومأت برأسها ظنًا منها أنه سيسأل عن مسبار الاستكشاف أو المشروع. كانت تنوي إخباره بكل ما تعرفه هذه المرة لتمنحه الثقة. لكنه سأل حينها: “ماذا كنتُ بالنسبة لكِ؟”.
شعرت وكأن قلبها هوى إلى الأسفل. اهتزت عينا رييلا بتيه أمام سؤال سمعته يوماً ما. لا تدري لماذا يترك كل الأسئلة التي لا تحصى ويسأل دائماً نفس السؤال.
“لماذا تسأل عن ذلك؟”.
“لأن معدتي تضطرب كلما التقت أعيننا.”
“…….”
“أنا واثق من أنني لن أتمكن من تصويب المسدس نحوكِ، ناهيكِ عن إطلاق النار. لأن مجرد تخيل ذلك قبل قليل كان مؤلماً بما يكفي.”
صوته البطيء والمنخفض ضغط على فم معدتها حتى كاد يخنق أنفاسها. هذا الرجل الصريح لم يتغير قيد أنملة عن ذلك الفتى الذي كان يلصق شفتيه بذراعها. نظرته الحادة الفاحصة كانت هي نفسها لدرجة تثير الحزن. تذكرت رييلا حين سُئلت نفس السؤال في الماضي. حينها أجابت بأنهما لم يكونا شيئًا لبعضهما. اختارت طريقًا واحدًا عند مفترق طرق لا عودة منه. شعرت الآن وكأنها تقف أمام نفس المفترق مرة أخرى بعد تجوال طويل، لكن الحظ حالفها هذه المرة. أرادت أن تكون صادقة. هذه المرة على الأقل.
“…في الماضي، كنا معارف منذ الطفولة. لقد أنقذتني حين سقطت في البحيرة. وبعد ذلك قضينا الصيف معًا…”.
لم تكن تدرك أن الصراحة تتطلب كل هذه الشجاعة. ربما لهذا السبب يعتبر الكذب فعلًا جبانًا. لأن الصراحة أمر عظيم جداً. خفضت رييلا رموشها وهي تضغط مقدمة حذائها على الأرض لشعورها بوخز في أصابع قدميها.
“كنتَ حبي الأول.”
“…….”
“رغم أنني كنت صغيرة جداً ولم أفهم ذلك جيدًا. ورغم أنني لم أنطقها بصوت عالٍ قط. لكن حين أنظر للوراء، أعتقد أنه كان حبًا. كنت أنتظر منتصف الليل كل يوم وأجتر الذكريات. وحين أصبح اللقاء مستحيلاً… حاولت الموت لشدة شوقي إليك. كنت أرغب في استعادة ذلك الوهم الذي انغرس كشظية في الواقع.”
العالم هادئ وكأنه نائم. لا صوت لصراصير الليل، ولا ضوء قمر ساطع، لكنها شعرت وكأن الوقت منتصف الليل. لو نظرت للساعة، قد تكون الثانية عشرة حقًا. الوقت الذي ينفك فيه كل سحر ويعود الواقع. الوقت الذي يواجهان فيه بعضهما البعض بلا أي تزييف.
“كنتَ أثمن وهم حظيت به في طفولتي.”
حتى بعد أن أنهت كلامها، لم ينبس الرجل ببنت شفة لفترة طويلة. فكرت رييلا كيف كانت ستشعر لو سمعت نفس الكلام وهي فاقدة للذاكرة، ثم انكمشت أكتافها.
“لا تصدقني، صحيح؟”.
“ليس أنني لا أصدقك… بل أفكر. إذا كانت علاقتنا هكذا، هل من المقبول أنني نسيتكِ. ووفقاً لمنطقك السابق، حتى لو سمعت هذا الآن، سأكون في حالة نسيان مرة أخرى عندما نموت ونبدأ من جديد.”
ربما كان وهمًا، لكن بدا أن صوت الرجل العميق قد ازداد انخفاضاً اليوم. هو لا يتذكرها. كان ذلك محزنًا ومؤلماً. ومع ذلك، كان الأمر جيداً.
“أنا من يتذكر. يكفي أن أتذكر أنا. باستمرار، وإلى الأبد.”
رفعت رييلا رأسها ورسمت على شفتيها تلك الابتسامة التي قالت عنها ساندرا إنها محبوبة. اتسعت عينا الرجل. صمت للحظة وهو يثبت نظره عليها.
هبت رياح قوية من الخلف، مبعثرة شعره الداكن بعشوائية. والسبب الوحيد الذي جعلها قادرة على الوقوف بمظهر مرتب هو الرجل الذي كان يحجب الرياح عنها بجسده بالكامل. وأخيرًا، فتح شفتيه ببطء، بعينين هادئتين.
“بعد قول كل هذا، تطلبين مني أن أقتلكِ؟”.
“دمدمة”. في تلك اللحظة، اهتز مسبار الاستكشاف بعنف.
التعليقات لهذا الفصل " 69"
ثانكس جدا ربي يعطيك حتى يرضيك عا الي بتسويه