لا أدري كم من الوقت مرّ. شفتي المفتوحة جفت، والجسد الذي أسند رأسي عليه أصبح أكثر صلابة تدريجيًا.
من المؤكد أنني كنت أنا من يحتضنه قبل أن أفقد وعيي، لكن حين استيقظت، وجدت آصلان هو من يضمني بقوة بين ذراعيه. لم أجهل ما يعنيه ذلك.
لقد حماني حتى آخر لحظة في حياته.
“هئ…”.
يا لك من أحمق. وأنت لا تذكر أي شيء. هذه المرة لم يكن بيننا أي شيء حقًا.
لا تزال ندف الثلج المتساقطة بغزارة محفورة في عيني. الأنفاس البيضاء التي انطلقت فجأة بعد أن حُبست طويلاً. العيون الخفيضة. المنديل الممدود.
الصوت المنخفض الذي هز كياني وجعله يضطرب.
لم تعد دموعها تنساب كما ينبغي. فقط تخبطات متقطعة وسط هلوسات بأن شيئًا ما يمسح على ظهري. حين أدركت أن ما يوهمها بذلك هو شعرها فقط، كانت المجسات التي تكاثرت قد أحكمت وثاقها حولها بالفعل، مانعة إياها من الحراك ولو قيد أنملة. إلى متى يجب أن أبقى حية هكذا، عاجزة عن الحراك؟ حتى أشيخ وأموت ميتة طبيعية؟ لا، هذا… أنقذوني. أريد أن أموت.
آه، إذن هاتان الجملتان تعنيان الشيء نفسه.
في النهاية فقط أدركت رييلا. كل الأضداد لم تكن سوى وجهين لعملة واحدة داخل “الهاوية”. الأمل هو اليأس، والحلم هو الواقع، والنور هو الظلام. إذن، ربما تكون كل الذكريات التي أسترجعها الآن محض خيال أيضًا. الوحدة رقم 30. آصلان. الماضي المبهر كالنجوم المتلألئة.
بجسدها الواهن من الجوع، كانت رييلا تفقد وعيها مرارًا. والفترات الفاصلة بين استيقاظها كانت تزداد طولاً. وفجأة….
اشتعل لهب برتقالي خلف جفنيها. مع أصوات غريبة وحرارة لافحة، دفعت جفنيها بوهن للأعلى، لينعكس في بؤبؤ عينيها مشهد غير واقعي للسفينة رقم 30 وهي تحترق خلف آصلان والسيارة.
“آه…”.
هذا نار… أهو حريق مفتعل…؟.
بينما كانت تحدق بذهول في ألسنة اللهب المتصاعدة والظلال المتراقصة، تناهى إلى سمعها وقع خطوات بشرية.
حاولت رييلا تحريك عينيها بصعوبة للنظر في ذلك الاتجاه. شخص يرتدي زي المشروع كان يهرب. رجل هزيل بشعر بني أشعث. وعلبة وقود بيضاء تتدحرج ملقاة على الأرض.
لأنها لم ترَ بشرًا منذ زمن بعيد، استغرقت وقتاً طويلاً لاستيعاب الواقع. في اللحظة التي اختفى فيها الرجل من زاوية رؤيتها، تحطمت نافذة السفينة 30 بضغط هائل، واجتاحتهم موجة من الهواء الساخن.
“…آه!”.
شظايا الزجاج المتناثرة عكست الضوء الأحمر، مستحضرة شعورًا بالواقعية. عينا رييلا اللتان امتلأتا بالنار وكأن فتيلًا اشتعل فيهما، تقلصتا بشدة ثم اتسعتا ببطء. لقد ومض مشهد مشابه في زاوية من عقلها. حريق الوحدة 30 الذي رأته سابقًا.
لماذا؟ لماذا يحدث نفس الشيء؟ ألم يضرم “جايد” ورفاقه النار لتدمير المكان الذي سنعود إليه؟.
– “لا. لا أعلم إن كنتِ تعرفين يا آنسة، لكن من بين الذين دُمرت حياتهم، هناك مرضى نفسيون يرغبون أحيانًا في تدمير حياة الآخرين السليمة أيضًا. يقال إن مجنونًا أضرم النار في مسبار الاستكشاف ليموت الجميع معاً.”-
مستحيل.
– “والأدهى أن مشعل الحريق هرب بعد فعلته، ولا أحد يعرف ما حل به.” –
مستحيل، هذا غير معقول.
لم يكن “جايد” هو الفاعل…؟.
في اللحظة التي اقشعر فيها بدنها، انتقلت النيران التي انتشرت كالهشيم بشراسة إلى السيارة. بدا أن هيكل السيارة المشتعل ككتلة لهب ضخمة شكل تهديدًا للمجسات أيضًا، فانفصلت بعض المجسات التي كانت تحاصر رييلا. وفي وسط الرؤية التي اتضحت فجأة، رأت نصل سكين يعكس بحر النيران المضطرب.
كانت السكينة العسكرية التي أفلتتها تلمع على الأرض كفرصة لن تتكرر. مدت يدها بشكل لا إرادي وأمسكت بها، لكن كاحلها سُحب بعنف لترتطم بالأرض.
“آه!”.
صرخت والتفتت لتلمح امرأة طويلة بشعر أسود. تراجعت رييلا للخلف وهي لا تزال جالسة، لكنها عرفتها فورًا.
المرأة التي وقفت في الرواق بعد أن قتلت أنطون في أول يوم نزلوا فيه إلى “الهاوية”. وكانت أيضًا المرأة التي ظهرت في كوابيسها تلك الليلة. المرأة التي ذاب وجهها لتظهر أسنانها ومقلتا عينيها بشكل مرعب، أمسكت بوجه رييلا في الحلم بقوة ساحقة وهي تذرف سائلًا أسود. رغم عدم وجود تعابير واضحة، إلا أنها شعرت لسبب ما أنها كانت مليئة بالحقد.
قرأت رييلا بعينين مرتجفتين الاسم الأبيض المكتوب على الزي.
“ساندرا…”.
سال عرق بارد على ظهرها. وتجمعت الدموع التي ظنت أنها جفت للأبد في عينيها.
“لماذا أنتِ هنا…؟”.
– “هل تعلمين يا رييلا؟ ضوء النجوم الذي نراه من الأرض الآن، قد انطلق من النجوم منذ بضع سنوات كحد أدنى وحتى مئات الملايين من السنين كحد أقصى. لذا نحن نلتقي بنجوم الماضي في الحاضر. أليس هذا مدهشاً؟”.-
صوت الباحثة التي كانت تمشط شعرها وتقول تلك الكلمات رن بنعومة في صدرها. كانت بمثابة الأم التي ربتها. الشخص الحنون الذي علّم رييلا الرياضيات والعلوم لأنها لم تذهب للمدرسة، واختارت بنفسها الكتب المناسبة لعمرها كهدية في عيد ميلادها. تعلمت من توبيخها أن الحب والقلق قد يكونان وجهين لعملة واحدة أحيانًا
انفجرت رييلا بالبكاء، ودون أن تفكر حتى في مسح دموعها المنهمرة، عدلت قبضتها على الخنجر وهي تنتحب.
الكون مكان مدهش حقًا. مكان يرى الماضي متجاوزاً الزمن. هل الزمن أصلاً سوى مفهوم بشري بحت؟ الحاضر والماضي، التمييز بينهما في هذا الكون الشاسع لا يحمل معنى كبيرًا.
كل الأضداد ليست سوى وجهين لعملة واحدة داخل “الهاوية”. اليأس هو الأمل، والواقع هو الحلم، والظلام هو النور. الماضي هو الحاضر.
رفعت ذراعها عاليًا وهي تنظر إلى المجسات المقتربة. وقبل أن تتمكن من تقييدها، غرزت النصل في قلبها بقوة. خوفًا من ألا تموت، طعنت نفسها مرارًا وتكرارًا. غرزته ونثرت قطرات الدم القانية. كواك. كواك. كواك.
آه، يا لها من زخات شهب جميلة.
بيييييي-
عندما فتحت عينيها، كانت في غرفة مغلقة. الرقم 30 المكتوب على الجدار بدا ضبابيًا.
“هاه… هاه…”.
رفعت رأسها وهي تلهث، لترى أشخاصًا آخرين جالسين في الغرفة المعتمة. ستة أشخاص، بمن فيهم هي، يجلسون ثلاثة في مواجهة ثلاثة، وقد ربطوا أحزمة الأمان.
لقد عادت إلى السفينة رقم 30، إلى نقطة البداية. أدركت رييلا تلك الحقيقة وهي في حالة ذهول.
“…….”
جسدها كان لا يزال يرتجف، ورقبتها رطبة من أثر الحدث الذي وقع لتوّه. رغم عدم وجود ألم، ظل وجه رييلا شاحبًا وهي تلهث لفترة طويلة. لولا الصوت الذي جاء من جانبها، لربما فقدت وعيها.
“هل تتذكرين شيئًا ما؟”.
توقف تفكيرها بمعنى آخر لحظة سماعها لذلك الصوت العميق والمنخفض. أدارت رأسها بذهول لتقع عيناها أولاً على الشعر الرمادي وملامح الوجه الحادة. تجمعت الدموع في عينيها فورًا، لكنها ضغطت على أسنانها وحبستها.
تماسكي. ليس هذا وقت البكاء. تمسكت بوعيها الذي كاد ينهار وتمتمت بصعوبة.
“…أجل. أتذكر كل شيء.”
توقف صوت القداحة فجأة، ربما لأن الإجابة كانت غير متوقعة. حين التقت عيناها بعيني الرجل الذي رفع رأسه، شعرت هذه المرة بخطر حقيقي. أمسكت رييلا بفخذها وكأنها تخدشه، وانتقلت كلماتها بحذر.
لا تبكي. أرجوكِ. لا يجب أن تفسدي هذه الفرصة.
“هذا مسبار استكشاف تحت الأرض. كما ترى، لقد هبطنا اضطراريًا… لكنها ليست مشكلة كبيرة، يمكننا قيادته للصعود مجدداً.”
بينما كانت محبوسة في الظلام، فكرت مسبقًا كيف ستتصرف إذا عادت للبداية. لأن الوقت سيكون شحيحًا بمجرد البدء. الرجل الأشقر الذي استشعر الموجات الكهرومغناطيسية سيقتحم المكان قريبًا عند النقطة التي أُعيد فيها الزمن.
لتجنب إثارة الشكوك كما حدث في المرة السابقة، نظرت مباشرة في عينيه وحاولت جاهدة ترتيب كل كلمة بعناية. لا وقت لتضييعه.
“لقد رأيت الجثث في الخارج، أليس كذلك؟ ليس لدينا وقت. سأشرح الباقي عندما نصبح في أمان، لذا اصعد معي إلى قمرة القيادة وساعدني قليلاً.”
“أين تقع قمرة القيادة؟”.
كما توقعت.
لأنه طلب منطقي، لم يطل الحديث.
“في الطابق الثالث. النار خطرة لذا لا تشعلها بتهور.”
رغم أن كلماتها بدت واثقة، إلا أن أصابعها كانت لا تزال ترتجف. لم تستطع حتى فك حزام الأمان، وكانت يدها تنزلق مرارًا، مما جعلها تغضب من نفسها. في تلك اللحظة، تدخل آصلان الذي كان يراقبها بصمت، وفك الحزام بدلاً منها وهو يقول: “إذا كان أمرًا يمكن شرحه بالكلام، فيمكنكِ فعل ذلك. لا تبدين كطيار.”
تصلبت للحظة عند تلامس أصابعهما، فأبعد يده ببطء ورمقها بنظرة فاحصة. حركت رييلا شفتيها بذهول ثم هزت رأسها نفيًا.
“هذه الخطة تتطلب شخصين. لأنه ليس لدينا وقت…”.
ترنحت وهي تقف، أنزلت السلم وخطت بقدمها عليه. همت بالصعود، لكنها تذكرت فجأة أمرٍا مهمًا والتفتت برأسها من فوق كتفها.
“سيد أنطون. أعلم أنك مستيقظ. أرجو أن تتحمل المسؤولية وتبقي الناس داخل هذا المكان حتى نُقلع. لا تفتحوا النوافذ ولا تخرجوا. تصديق كلامي من عدمه يعود لكم، لكن شيئًا واحدًا أستطيع قوله بوضوح. إذا لم تلتزموا بذلك، ستموتون. هنا في الوحدة رقم 30.”
~~~
هنا وصلنا لأحداث الراو، أول ما نزلت الرواية نزلت دفعة 68 فصل وهنا تونا وصلناها
أول كنت بمشي لكم الحال بالترجمة بس بعد نقد هيونا وتحطيمها استحيت على وجهي وصرت اترجم الفصول بشكل أفضل من قبل
التعليقات لهذا الفصل " 67"