الفصل السادس والستين، نهاية الجزء الأول من ذكريات رييلا.
أشعر بالدوار… وكأنني سأتقيأ.
“أوغ…”.
بمجرد أن فتحت رييلا عينيها، استمرت نوبات الغثيان المؤلمة تهاجمها.
“هاه، هاه…”.
لم يكن واضحاً ما إذا كان السبب هو تشوش ذهنها الذي أصبح كالعجين، أم رائحة الدماء التي تفوح من كل مكان. وبينما كانت تلهث وتدير رأسها بصعوبة، رأت جهاز تخزين الذكريات يتدحرج على الأرض برؤية ضبابية.
“…….”
آه، صحيح. ما رأيته للتو لم يكن واقعًا. بل كان ماضيًا قد حدث بالفعل. لقاؤها الأول بإصلان، صداقتهما، وقوعها في حبه، نسيانه، ثم لقاؤهما مجددًا… حين استدعت الفصول المتكررة في ذاكرتها، شعرت بوكزات في قلبها، وامتلأت عيناها بالدموع التي سرعان ما سقطت قطرة تلو الأخرى.
ذكريات السعادة عادت للحياة واحدة تلو الأخرى، وعصفت بها مشاعر لا يمكن وصفها كإعصار هائج.
الأمنية التي تمنتها وهي تنظر لزخات الشهب كانت قد تحققت منذ زمن بعيد. في الحديقة المكسوة بالثلج. عند النافذة حيث تعصف الرياح، في الغابة الرطبة، وفي مسبار الاستكشاف حيث فتحت عينيها مرتين.
– “لأنكِ تبدين مألوفة.”
هي وحدها لم تكن تعرفه. أما هو، فكان يعرفها دائمًا. أمسك بيدها حتى بعد أن نسيته، وعاد ليمسك بيدها مرة أخرى بعد نسيان آخر. هذا الحب كان مقدراً منذ البداية.
“أنا أتألم…”.
بينما كانت تنتحب وتمسك بصدرها، انتقل إليها إحساس بصلابة شيء غارق بالدماء عبر أصابعها. حاولت رييلا بذهنها المتبلد أن تتذكر الحاضر لا الماضي. ما الذي حدث قبل أن يبدأ الجهاز بالمزامنة؟ بالتأكيد كانوا يهربون باستماتة، وطاردتهم المجسات حتى الطابق السفلي… .
“…آصلان.”
حاولت رفع جسدها فور أن ومض المشهد الأخير في ذهنها، لكنها كانت مُحتضنة بقوة مفرطة منعتها من التحرك بسهولة.
كان الرجل يضمها بجسده بالكامل وكأنه يحميها. ولا يزال. حتى بعد مرور وقت طويل لا تتذكره.
“رييلا. هل استيقظتِ؟”.
في تلك اللحظة، اقتحم وجه رجل أشقر مجال رؤيتها فجأة.
انحنى الرجل نحوها وهي متيبسة في مكانها، وهمس بنبرة خالية من أي واقعية: “لقد قمتُ بإزالة الجهاز قسرًا لأنه بدا وكأنه المشكلة.”
“ما الذي…”.
“أخيراً، مات رفيقكِ. يمكننا الآن التحدث وحدنا.”
“من الذي مات؟” سألت رييلا بذهول. شعرت وكأن دماغها قد توقف عن العمل.
ما الذي يقوله الآن؟ أي رفيق؟.
عاد إليها وعيها فجأة وكأن دلوًا من الماء البارد سُكب على رأسها. دفعت رييلا ذلك الحضن الصلب بقوة لم تعهدها من قبل ونهضت. الرجل الذي كان يحتضنها وهو مغطى بالدماء كان مغمض العينين وكأنه نائم، والدماء القانية تسيل من زاوية فمه. كان آصلان. آصلان. آصلان. آصلان.
“لقد عرفت اسمه…”
تمتمت وهي تمد يدها نحوه، لكنها سحبتها بفزع لحظة تلامسهما. بقيت رييلا شاردة للحظة ثم أدارت وجهها وتحدثت: “لا. هو لم يمت، هو فقط لم يستطع النوم جيدًا منذ نزلنا إلى هنا.”
إنه نائم. لقد قال إنه سينام قليلاً بسبب الأرق ثم سيلحق بي.
الرجل الأشقر الذي انتصب بمرونة كان ينظر الآن إلى رييلا بعينين حالكتين بالسواد. نظرت حولها لتجد أن المكان لم يكن يضمهم وحدهم، بل كانت هناك جثث كثيرة متكدسة حولهم. السبب في رؤيتها هو أن المصباح اليدوي كان مضاءً هنا فقط. قد يستيقظ آصلان بسبب الضوء.
“لماذا أشعلت الضوء؟ أطفئه من فضلك.”
“لأنكِ لن تري شيئاً إذا أطفأتُ الضوء، وأنا أرغب في الحوار.”
“أي حوار تعني؟”.
“هل أنتِ من نفس فصيلة إيزابيلا؟”.
عاد التركيز للحظة إلى عينيها اللتين كانتا غائمتين. استغرق الأمر وقتًا ليس بالقصير ليستوعب عقلها الاسم غير المتوقع الذي سمعته أذناها. وأخيرًا، خرج صوت حاد من بين شفتيها.
“…أتعرف والدتي؟”.
“إيزابيلا صديقتي. هل إيزابيلا تعيش حياة جيدة؟”.
توقفت رييلا عند تلك الكلمة التي بدت غريبة. هل لديهم مفهوم الصداقة أصلاً؟ ترددت قليلًا ثم اختارت كلماتها بحذر وهي تترقب رد فعله.
“والدتي توفيت منذ زمن طويل. لم تعد في هذا العالم.”
هذه المرة، صمت الطرف الآخر لفترة طويلة وكأنه تفاجأ. فكرت رييلا أن الأمر غريب. حقيقة أنها تستطيع قراءة مشاعره رغم خلو وجهه من التعابير، ورغم عينيه السوداوين بالكامل دون بياض.
هل لأن جزءًا مني يشبههم؟.
كلما استعادت إحساسها بالواقع، عاد الخوف من الكائن الماثل أمامها. لكن، وبمعزل عن الخوف، كانت تشعر بنوع من التعاطف البشري أيضًا. إذا كان حقًا صديقًا لوالدتها، فربما يستحق الأمر محاولة التحدث معه. ربما يمكنني أن أطلب منه السماح لنا بالخروج.
“ربما بسبب تعرضها للكثير من أشعة الشمس. ولقد أعادت الزمن لمرات عديدة جدًا. كان من الأفضل لو نزلت والدتي إلى هنا بدلاً مني.”
“إيزابيلا لا تنزل إلى هنا.”
“لماذا؟”.
“لأنها أحبت السطح. لا يمكنها العيش هنا.”
الحب. تلك الكلمة كانت أغرب من كلمة صديق. قلبت رييلا الكلمة على لسانها، وفكرت أن نطق الرجل لها يشبه طريقة نطق والدتها لها. وبشكل غريب، توالت في ذهنها مشاهد لا علاقة لها بالموقف. اليوم الذي اكتشفت فيه والدتها أنها تمضي وقتاً مع آصلان، ونظرة الرعب التي ارتسمت على وجه والدتها وهي تمسك بكتفيها بقوة.
الشيء الذي أرادت حمايته.
“…أنا آسفة لسماع ذلك.” تمتمت رييلا بكلمات لم تستطع هي نفسها تفسير سبب قولها. في الواقع، كانت هي من يجب أن تُقال لها هذه الكلمات. بقي الرجل واقفاً بسكون دون أي رد.
“ما الذي تريده مني؟”.
“ألا يُعاد الزمن بعد الآن.”
شعرت رييلا بالحذر والارتياح في آن واحد. إذا كان هذا ما يريده، فهذا يعني أنه لن يقتلها. لكن الكلمات التي تلت ذلك جعلتها تتجمد في مكانها.
“نحن نبيد البشر. قبل أن يفسدوا الأرض لدرجة لا يمكن إعادتها.”
“…….”
تذكرت المشهد الذي رأته قبل سحب جهاز الذكريات. “الهاوية” وهي تُفتح، وكتل المجسات السوداء تندفع خارجة منها. الوحوش. الحرب. الأخبار.
لكن لم يكن هناك حديث عن مثل هذه الأمور في مسجل صوت آصلان. قيل إن أحدًا ممن دخلوا الهاوية لم يخرج، لكن لم يُقل إن “شيئاً ما” خرج منها. الاستنتاج الوحيد الممكن هو واحد.
المستقبل تغير. بسبب إعادة والدتها للزمن.
مشروع “الهاوية” نفسه ربما تم التخطيط له بعد إعادة الزمن.
“…فهمت. أتفهم ذلك. إذن…”.
اهدئي. لا يمكنني القتال. هناك الكثير مما لا أعرفه بعد، وأصلان مصاب بشدة.
“هل يمكنك أولاً إرسالنا إلى الأعلى؟ أقسم أنني لن أعيد الزمن بمجرد خروجي. آه، وإذا كنت لا تثق بي، لا بأس بأن أبقى أنا هنا. فقط اسمح لزملائي بتشغيل مسبار الاستكشاف والصعود.”
أمال الرجل الأشقر رأسه. كان رد فعل مشابهًا لما حدث في الجنة منذ زمن بعيد حين اكتشفت هويته.
“الإنسان الذي بجوارك قد مات. مثل إيزابيلا.”
“أخبرتك. هو نائم فقط.”
احتضنت رييلا رقبة آصلان وكأنها تخشى إيقاظه. كان يجب أن تتركه ينام. فلا بد أن التعب قد تراكم عليه. ليس الآن. عندما يستيقظ سأخبره أنني تذكرت كل شيء. كانت تنوي الجلوس في مكان دافئ ومريح، على عكس هذا الخندق، وحل سوء التفاهم خطوة بخطوة. بمجرد أن يستيقظ… .
“توك”. في تلك اللحظة سقطت الذراع التي كانت تحتضنها على الأرض. وبينما كانت تنظر بذهول إلى اليد الكبيرة التي كانت تمسك بها بقوة حتى لحظات قليلة، امتدت المجسات فجأة من كل مكان وانغرست فيها.
“لا تفعل… لا تلمسه…”.
توقفت شفتا رييلا الشاحبتان عن الحركة. حين أدارت رأسها فجأة، وقع بصرها على الوجه الذي لا يزال نائمًا بلا حراك. رغم أن المجسات كانت تنغرس بكثافة في ذراعه وتسبب ألماً رهيباً.
هل هذا يعقل؟.
“…لا.”
“…….”
“لا. لا. هو لم يمت.”
رييلا التي كانت تنكر الواقع بشكل أعمى، أغلقت فمها في لحظة ما وراحت تحدق في آصلان بصمت. انحدرت نظراتها ببطء نحو فخذه الذي كانت تجلس عليه. كان هناك سكين عسكري بطول شبر واحد. تحركت يدها قبل أن يمر الأمر حتى على تفكيرها. في اللحظة التي سحبت فيها الخنجر وحاولت غرسه في قلبها، اخترق مجس صدرها الأيمن بصوت مروع، وواصل طريقه لينغرس في جسد آصلان أيضاً.
“آه، وإذا كنت لا تثق بي، لا بأس بأن أبقى أنا هنا.”(يقلد كلام رييلا يلي قالته)
“كح، كح، كح.”
بينما كانت رييلا تتخبط وتتقيأ الدماء، تم تثبيت ذراعها، ثم اندفع مجس بين شفتيها المفتوحتين وضغط لسانها ليمنعها من قضمه.
“لا بأس بأن أبقى أنا هنا. لا بأس بأن أبقى أنا هنا. لا بأس بأن أبقى أنا هنا.”
طفا رعب واضح في عينيها البنيتين. الرجل الأشقر، الذي ردد كلماتها بطريقة تبعث القشعريرة، خفض رأسه والتقى بعينيها كما فعل أول مرة استيقظت فيها. عينان سوداوان وعميقتان كالهاوية. ظلام لا نهاية له.
“لقد أقسمتِ.”
راقبت رييلا، وهي متجمدة، زوايا فم الرجل وهي تتمزق صعودًا حتى أذنيه. بدا وكأنها المرة الأولى التي تراه يضحك.
هذا إن كان يمكن تسمية ذلك ضحكًا.
بعدها، انطفأ ضوء المصباح. حُبست رييلا في الظلام دون أن تتمكن من الموت. ربما إلى الأبد.
التعليقات لهذا الفصل " 66"