في تلك اللحظة، عبر ذهنها صورة الصبي الذي كان ينظر إلى القصر. عيناه الزرقاوان الباردتان. المنديل الذي طار في ضوء الشمس الشتوي، والجو الهادئ كالبحيرة.
“سأذهب لبرهة، لذا ابقي صامتة كما كنتِ سابقًا.”
“هل يتوجب عليك الخروج؟ ألا يمكننا البقاء مختبئين هنا معاً وحسب؟”. دون وعي، تشبثت رييلا، التي كانت شاردة الذهن، بيد الرجل الذي همّ بالمغادرة.
“إن لم تخرج، لن تضطر لقتل أحد. ولن يُصاب أحد بأذى.”
خفض آصلان بصره القاتم محدقًا في يدها التي تمسكه. وحين شبك أصابعه بأصابعها بقوة كما فعلت، شعرت بتلاشي القوة تدريجيًا من مفاصل يده الطويلة والصلبة. رغم أنه لم يكن هناك أي احتمال لأن تنتصر رييلا عليه.
يا له من شخص غريب.
ليتني كنت سأعيش مع شخص غريب كهذا. إذن لما شعرت بالخوف مطلقًا. سَرَى دفء حنون لا تقاومها ليذوب بنعومة داخل كفه. بدا وكأن جسدها المبلل بالمطر بدأ يكتسب الدفء. كانت المرة الأولى في حياتها التي تفكر فيها برغبتها في ملامسة شخص ما أكثر.
مع تتابع أصوات الطلقات النارية، ترددت رييلا قبل أن تمد يدها الفارغة بحذر، ليرفع عينيه الزرقاوين نحوها. رغم أن أصابعها راحت تلامس جبهته، وحاجبيه، وعظام وجنتيه وخديه وكأنها تمسح عليهم، إلا أنه بقي ساكنًا. حركته الوحيدة كانت تفاحة آدم البارزة التي تتحرك ببطء، مثبتة أن الزمن لا يزال يسري. وسط هذا التوتر الخانق، شعرت بوخز خفيف في أطراف أصابع قدميها.
وحين وصلت يدها إلى فكه الحاد، أدار آصلان رأسه ليدفن شفتيه في راحة كفها. انكمشت رقبتها لذلك الملمس الناعم والمثير، فابتعد قليلاً ليتمتم بصوت منخفض: “إذا لم يعجبكِ الأمر، أخبريني في أي وقت.”
همس بتلك الكلمات التي دغدغت راحة يدها، ثم أمسك بمعصمها النحيل وبدأ ينثر قبلات صغيرة ببطء من أطراف أصابعها، مرورًا بمعصمها، ووصولاً إلى باطن مرفقها. على النقيض من لوكاس، الذي كانت لمساته الخفيفة تشعرها بالبؤس، كان هو جادًا ومتأنيًا، مما جعلها تشعر وكأنها أصبحت وجودًا ثمينًا للغاية. وبينما كان يضغط بشفتيه على ذراعها، كانت عيناه الحادتان تتفحصانها بتركيز. تسارعت أنفاسها خوفًا من أن يكتشف نبضها المتسارع كلما لامست أرنبة أنفه العالية بشرتها بنعومة. ورغم أنها هي من بادرت بلمسه، إلا أن تصرفاته كانت مثيرة بشكل مفرط.
“أنا لا أكره ذلك، لكن ربما لا ينبغي لنا فعل هذا.”
“لماذا؟”.
“لأن لوكاس سيكره الأمر.”
لم تظهر عليه أي تعابير، ورغم ذلك شعرت بضرورة تقديم عذر.
“لأنني قيل لي إنه يجب عليّ مسايرة مزاج لوكاس، ولو من أجل المستقبل.”
“رييلا! إن كنتِ تسمعينني فأجيبي!”.
لسوء الحظ، في تلك اللحظة بالذات وصل صراخ لوكاس من الخارج. وكأنها مزحة مروعة من القدر. انتفضت رييلا ذعراً وسحبت يدها التي كان يمسكها بقوة.
يبدو أنها حبست أنفاسها دون أن تدرك، فاخترق صوته المنخفض مسامعها. نظر آصلان إلى يده التي أصبحت فارغة للحظات، ثم أمسك ببطء بندقيته وصوب فوهتها نحو خارج الخندق باعتيادية تامة. حدق عبر منظار التصويب دون حراك، ثم تحدث بنبرة خالية من أي مشاعر خاصة: “هل تريدين أن أقتله؟”.
كان جادًا. في اللحظة التي التقت عيناها بعينيه اللتين تحركتا نحوها، أدركت أنه قادر على فعلها. تمتمت رييلا وهي ممتقعة اللون: “إذا ارتكبت حماقة كهذه، فإن والدي لن يقف مكتوف الأيدي.”
“من أجل معرفة مصدر الرصاصة، يجب وضع ما لا يقل عن خمسين شخصًا ممن دخلوا الجزيرة في دائرة الاشتباه.”
“هناك أيضاً خيار قتل الجميع دون البحث عن الجاني. فحياة من لا يملكون سجلات مدنية لن تعني شيئاً لوالدي.”
“حقًا؟”.
عاد لينظر إلى الأمام وسأل بلامبالاة: “إذن، هل تفضلين الهروب معي بدلاً من ذلك؟”.
اتسعت عينا رييلا دهشة من سؤاله العفوي. رغم أنه لم يتحدث بالتفصيل، كان من المؤكد أنه لا يتحدث ببساطة عن مغادرة الجزيرة الاصطناعية، بل كان يشير إلى الهروب من عائلة “أندريه”.
بشكل غريب، شعرت أن الأمر ممكن. لو قالا لنفعل ذلك فقط. لو قالا لنهرب معاً فقط. حركت شفتيها وهي تشعر بقلبها يخفق بشدة. و…. .
و… .
رفعت رييلا رأسها فجأة.
“… لقد أُعيد الزمن.”
“ماذا؟”.
“لقد قامت أمي بإعادة الزمن الآن.”
انحرف نظرها كالمسحورة نحو القصر خلف الخندق. قفزت واقفة، فتطايرت أكمام الزي الذي ترتديه وكأنها ترقص. التفتت رييلا الشاحبة كليًا نحو آصلان وقالت: “أوصلني إلى الجسر. حالاً.”
كانت الجزيرة لا تزال تضج بالفوضى بحثًا عنها في الجانب الآخر. تجنبا تلك الجلبة ووصلا في لمح البصر إلى الجسر الضيق الطويل، مغادرين الغابة المظلمة والكثيفة وهي تلاحق ظهره العريض فقط.
“هل ترين السياج خلف الشجيرات؟ اركضي مباشرة دون أن تلتفتي للخلف. سأبقى أراقبك.”
رمقها آصلان بنظرة خاطفة وهو يقف خلف شجرة ضخمة. ترددت رييلا وهي تلتقط أنفاسها ولم تستطع المغادرة فورًا.
“شكراً لك. لن أنسى أبداً مساعدتك لي اليوم. ما هو اسمك؟”.
أرادت أن تلتقيه مجددًا. مرة واحدة فقط. ولو لمرة واحدة إضافية. ابتسم الرجل الذي كان يستند بصلابة إلى الشجرة. استسلام؟ لا، سخرية من الذات؟ لا، ماذا كان ذلك يا ترى؟.
انفرجت شفتاه الباردتان بشكل ساحر بعد فترة طويلة.
“…آصلان.”
“آصلان. سأتذكرك. إياك أن تموت.”
رددت الاسم بصوت خافت وهي تنظر في عيني الرجل العميقتين، ثم استدارت وركضت عبر الجسر المؤدي إلى أرض القصر. كان صندلها المقطوع مربوطًا بإحكام برباط حذاء عسكري. لمع ظل فضي بحجم ذراع في بحيرة الليل.
توقفت في المنتصف لتلتفت، لكن الظلام كان قد حجبه بالفعل ولم يعد مرئيًا.
رغم ركضها في مهب الرياح الباردة، إلا أن ذراعها التي لامستها شفتاه كانت تتوهج حرارة وكأنها احترقت. أريد رؤيته ثانية. أتمنى لو التقينا مجددًا. في المرة القادمة سأسأله عما حل بصندوق الموسيقى. الفارق بيننا عامان فقط، فهل يمكنني التحدث معه بأريحية؟ فكرت رييلا فيما إذا كانت ستتمكن من رؤيته ثانية، ثم هزت رأسها بصعوبة لتطرد تلك الأفكار وتركز على الوضع الحالي. كان الوقت الآن للتفكير في والدتها.
لم يكن ينبغي لوالدتها الواهنة أن تعيد الزمن مجددًا. إنهم ليسوا آلهة. حتى لو لم يكن هناك عدد محدد، فإن إعادة الزمن ليست أمراً يمكن فعله عشوائيًا. وخاصة كلما ارتفعت نسبة الخلايا البشرية في الجسد. قيل إن ذلك يسبب ضغطاً هائلاً على الجسم. قيل إن سيدة “أندريه” الأولى أعادت الزمن عشرين مرة قبل موتها، والثانية ست عشرة مرة.
وكانت هذه المرة السابعة لوالدتها.
لماذا؟ لماذا أعادت الزمن؟.
كلما اقتربت من القصر، تدفقت الذكريات بكثرة في عقل بييلا لدرجة أنها لم تعرف ماذا تفعل. لم تكن قد أعادت يومًا أو يومين. بل كانت عشر سنوات كاملة. جثت رييلا في الحديقة وهي تشعر بالغثيان. حاولت جاهدة تذكر آخر تقويم رأته في رؤاها. 2030، 2033، 2035، 2036…. .
“هاه، هاه، هاه…”.
مع رنين في أذنيها، ملأت رؤيتها صورة الحفرة العملاقة التي كانت تُعرض على كل الشاشات. منطقة التنقيب عن النفط. “الهاوية”. الجيش. الباحثون. النهاية. الدين. الدمار. الدمار. الدمار. كتل من المجسات تزحف خارجة من الحفرة ولم يمضِ على فتحها ثلاث سنوات. الحرب الكبرى بين الأجناس.
بحق السماء، ما الذي يحدث لكوكب الأرض؟.
“رييلا! يا إلهي! أين كنتِ! لقد انقلب البيت رأساً على عقب بحثاً عنكِ، لقد كانت فوضى عارمة. أين كنتِ بحق…”.
“أين هي والدتي؟”.
عندما اقتحمت القصر متجاوزة الموظفين والحراس وصعدت للطابق الثالث، صُعقت ساندرا وراحت تتفحص جسدها المبلل بالمطر بدقة. وكأنها بذلك ستعثر على أثر لجريمة ما في زاوية من جسدها.
“من أين لكِ بهذا الزي العسكري… لا تقولي لي، أليس كذلك؟ رييلا.”
“أين أمي؟ أخبريني بسرعة!”.
أمسكت رييلا ذراع ساندرا بقوة وهزتها. لم تكترث بما قد يتخيله الآخرون عند رؤية الزي الأسود الذي ترتديه فوق فستانها. كان همها الوحيد الآن هو التأكد بأم عينيها من أن والدتها لا تزال على قيد الحياة.
“سيدة أندريه في فراشها كالمعتاد. كما تعلمين، إنه وقت نومها…”.
“ستكون مستيقظة. استدعي طبيبها الخاص حالاً.”
“فهمت. فهمت، لذا اهدئي واجلسي قليلاً على الأقل. سيعود لوكاس أندريه قريبًا بعد تلقيه الاتصال، لذا أرجوكِ اخلعي تلك الملابس. سأتحمل المسؤولية وأحضر لكِ إذنًا بالزيارة. حسناً؟”.
عندما تحدثت ساندرا وكأنها تهدئ حيوانًا بريًا هائجًا، شعرت رييلا بالاطمئنان وأفلتت يدها المرتجفة أخيراً. كانت الباحثة التي اعتنت بها وكأنها ابنتها بدلاً من والدتها المريضة بمثابة عائلة لها. كانت تثق بها.
جلست على الأريكة الجلدية في الرواق بعد أن خارت قواها. توقفت المرأة ذات الشعر الطويل عن الحركة فجأة ووقفت تنظر إليها بتمعن.
“…ساندرا؟ لماذا؟”.
“فهمت. فهمت، لذا اهدئي واجلسي قليلاً على الأقل. سيعود لوكاس أندريه قريبًا بعد تلقيه الاتصال، لذا أرجوكِ اخلعي تلك الملابس. سأتحمل المسؤولية وأحضر لكِ إذناً بالزيارة. حسناً؟”.
كررت ساندرا نفس الجملة دون تغيير حرف واحد. تمامًا مثل عطل في آلة. في اللحظة التي شعرت فيها بتوقف دماغها، شعرت بشيء ما يسقط فجأة من أذنها التي كان يفترض ألا يكون فيها شيء.
“فهمت. فهمت، لذا اهدئي واجلسي قليلاً على الأقل. سيعود لوكاس أندري قريباً بعد تلقيه الاتصال، لذا أرجوكِ اخلعي تلك الملابس. سأتحمل المسؤولية وأحضر لكِ إذناً بالزيارة. حسناً؟”.
بدأت الرؤية تتشوه. وكان ذلك حين هوت الأرض من تحتها. بدت وكأنها جرف أسود لن تستطيع الصعود منه أبدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 65"