ابتسمت له ابتسامة رقيقة بعينيها وهي تلقي التحية على الصبي.
غير أنّ الصبي الذي كان يرمقها بعصبية وهو يرفع عينيه إليها، ما لبث أن أدار رأسه بعنف بعيدًا عنها.
ومع ذلك ظلّت تنظر إليه بابتسامة صافية نقية لا تشوبها شائبة.
أجبره أحد الفرسان على الركوع بخشونة.
وقال بازدراء وهو يحدّق في الصبي كما لو كان ينظر إلى حشرة:
“لقد رأيتُ هذا النشّال يمدّ يده إلى ثياب سيدي بأمّ عيني.”
ثم تابع:
“بل سمعتُ أنّ هذه ليست المرة الأولى التي يقترف فيها مثل هذه الأفعال. حتى الكهنة طلبوا مني أن ألقنه درسًا قاسيًا هذه المرة. وخبرتي تقول إن أمثال هذه الحشرات…”
“اسمي بارون!”
“ماذا؟”
“بارون كلارك! هذا اسمي!”
قهقه الفارس الذي كان يمسك به جاثيًا على ركبتيه.
“أنتَ أيها اليتيم، وتملك حتى اسمًا ذا لقب؟ مثير للسخرية. لا أحد سأل عن ذلك أصلًا، أيها اللص الوغد!”
ارتجفت عينا الصبي غضبًا عند سماع كلمة يتيم، وهمّ بأن ينهض لينقضّ عليه، لكن الفارس عاجله بركلة أسقطته أرضًا.
“أيها الوغد، كيف تجرؤ أن تتصرّف هكذا أمام سيدي؟! لص مثلك لا يظهر أدنى أثر للندم!”
رفع الفارس يده ليضربه، وفي تلك اللحظة اندفعت ليزِه أَليهايم مسرعة من العربة.
“توقفوا!”
كانت على وشك البكاء وهي تحمي الصبي بجسدها وتحيط ظهره بذراعيها، فأسقط الفارس يده على عجل.
“آه… آنسة…”
“لا تؤذوه، أرجوك.”
“ليزي.”
ناداها دوق أَليهايم بصوت صارم وهو يراقب الموقف.
“انهضي. كم مرة قلت لكِ إن عليكِ أن تحسني التصرف ولا تتهوري؟”
“أبي.”
رفعت رأسها تنظر إلى أبيها بعينيها الصافيتين.
“هل ستسمح بأن يؤذى هذا الطفل؟”
ظلّ صامتًا للحظة، ثم أزاح بصره بعد أن سعل بخفة متكلفًا.
“أحم. صحيح أنّ على المرء أن يتحمل عواقب ذنبه ليستقيم النظام، لكن… بما أنّه صغير جدًا، ولأن ما سُرق لم يكن بالمبلغ الكبير، فلنترك الأمر هذه المرة.”
“لكن يا سيدي…!”
قاطعه الدوق بصرامة:
“فكّر يا أيها الفارس، هل يعقل أن يتوافق ما فعلتَه مع روح الفروسية التي يتحلى بها فرسان أَليهايم؟”
فما كان من الفارس، الذي بدا عليه الامتعاض، إلا أن لاذ بالصمت.
“لننطلق الآن.”
استدار الدوق مغادرًا.
رفع الصبي رأسه قليلًا وهو لا يزال جاثيًا، فرأى تلك الفتاة الصغيرة ذات الشعر الفضي والعينين الورديتين، تمشي خلف والدها وتلتفت إليه من نافذة العربة بابتسامة براقة صافية.
“وداعًا يا بارون.”
نادته باسمه.
فاشتعلت حمرة في عنقه وأدار رأسه بسرعة.
… ومضت سنوات.
وحين خرجت الإبنة المقدسة في إحدى نزهاتها، رأت شابًا أشقر الشعر قد ازداد طولًا، فعرفته من النظرة الأولى.
“مرحبًا يا بارون.”
حيّته بابتسامة مشرقة، فما كان من الشاب الذي كان يراقبها من بعيد إلا أن شهق بدهشة.
“أ، أتتذكرينني؟”
“نعم، ما زلتُ أذكرك.”
“واسمكِ، يا آنسة… ل، ليزي أَليهايم…”
قالها متلعثمًا، فأومأت برأسها مؤيدة.
“صحيح. أنا ليزي أَليهايم.”
ثم أشرقت ابتسامتها مرة أخرى، فاكتشف بارون أنّها مختلفة قليلًا… وأنها جميلة على نحو لافت.
اشتعل وجهه بحرارة وهو ينظر إلى تلك الابتسامة، لكنه تمالك نفسه كما درّب نفسه مرارًا، وجثا على ركبة واحدة أمامها بمهارة.
“ذ، ذلك اليوم… أشكرك لإنقاذي.”
أطرق برأسه مطأطئًا، وأغمض عينيه بإحكام إذ لم يجرؤ أن يتبين رد فعلها.
“منذ ذلك الحين لم أعد أرتكب تلك الأفعال… بل صرتُ أبذل جهدي لأصبح فارسًا. ويومًا ما، سأكون فارسًا مقدسًا للإمبراطورية…”
لكن قلبه أخذ يخفق بجنون، وفي اللحظة الأخيرة تفوّه بكلمات أخرى غير التي كان قد أعدها مرارًا:
“…سأحميكِ أنا.”
فتح عينيه ببطء، فرأى الدهشة على ملامحها.
“تحميني أنا؟”
“ن، نعم! صحيح أنني لستُ الآن سوى تابع صغير، لكنني يومًا ما سأصير فارسًا حقيقيًا… لأجل أن… أن أحميكِ أنتِ!”
لم يجرؤ أن يُكمل، ووجهه محمّر حتى الأذنين، لكنها ابتسمت له ابتسامة مضيئة.
“شكرًا لك يا بارون.”
“……!!”
“لم يقل لي أحد مثل هذا الكلام من قبل.”
“لكن… أليست فرقة فرسان أَليهايم دائمًا إلى جانبكِ؟”
قالها مترددًا وكأنه لا يفهم، فاكتفت هي بالصمت وابتسامة غامضة.
وللحظة شعر بارون أنّ تلك الابتسامة ليست جميلة وحسب، بل تخالطها مسحة حزن خفية.
“أنا سعيدة.”
وحين همست له بذلك، أقسم في نفسه أنّه مهما حصل، سيفي بذلك الوعد.
ومضت الأعوام مسرعةً من جديد.
ولم تلتقِ الإبنة المقدسة ببارون كلارك مرة أخرى.
لكن ذكرى تلك اللحظة، حين سمعت لأول مرة أحدًا يعدها بالحماية بعدما كانت هي دائمًا من يحمي العالم، ظلّت محفورة في قلبها حية لا تزول.
لم تلتقي الإبنة المقدسة ببارون كلارك ثانية طَوال تلك المدة.
لكنّ ذكرى ذلك الوعد، يوم سمعَت للمرة الأولى وهي التي لم تفعل سوى حماية العالم دومًا أحدًا يقول لها إنّه سيحميها، بقيت حيّة في ذهنها بكل تفاصيلها.
صحيح أنّ بارون كلارك لم يكن يملك القوة الكافية ليحميها حقًّا، بل إنّ المنطقي أن تكون هي من تحميه لا العكس… لكن تلك الذكرى وحدها كانت كفيلة بأن ترسم ابتسامة على وجهها في كل مرة تستعيدها.
وبما أنّ عليها أن تعامل كل ما في العالم على قدم المساواة، فلم تكن تحمل لبارون وحده مشاعر استثنائية، غير أنّ بارون كلارك كان دون شك شخصًا ذا معنى خاص لديها.
لذلك، عندما حان وقت عودتها إلى مكانها الأصلي، أحسّت أنّها تستطيع الرحيل بقلب مطمئن.
وجاء اليوم الذي بلغت فيه ليزي أليهايم سنّ الرشد… وكان هو أيضًا اليوم الذي اختُطفت فيه إلى قصر الدوق كايين.
في الغرفة التي حُبست فيها، لم يبدُ على الإبنة المقدسة أي اضطراب، إذ كانت تعرف مسبقًا أن الأمور ستسير على هذا النحو.
لكنها أحسّت بالأسف تجاه الروح الأصلية لليزي، التي كان عليها أن تواجه مثل هذا الوضع العسير وهي لا تذكر شيئًا.
قالت وهي تتمتم:
“بفضلكم استطعت أن أرى وأسمع وأختبر أشياء جميلة.”
رغم وجودها منذ أزمنة لا تُحصى، لقد وجدت أنّ أشياءً لم تختبرها من قبل لم تذقها إلا بعد أن جاءت إلى عالم البشر.
وكان الآن وقت الرحيل، وهي تحمل معها تلك الذكريات.
تمدّدت بهدوء على السرير بعدما أتمّت استعداداتها.
لقد استدعت روح ليزي الحقيقية من العالم الآخر، وأعدّت لها ثلاثة هدايا مقابل أن تستعير جسدها.
“الأولى هي المعرفة بهذا العالم. منحتك إياها على نحوٍ يجعلكِ تتقبّلين المستقبل بأفضل صورة ممكنة. وأثق أنك ستتمكنين من تجاوزه بسلام.”
ثم أغمضت عينيها ببطء وهي تحدّق في السقف.
“الثانية هي قدرتي. سيكون بمقدورك شفاء من يقدّمون لكِ الاحترام. أما البركة الأخيرة فهي…”
توقفت فجأة، إذ انسكبت إلى ذهنها صورة قوية.
بارون كلارك، مرتديًا درع الفرسان المقدّسين للإمبراطورية، يثير ضجّة أمام قصر كايين.
“سمعتُ أنّ آنسة أَليهايم محتجزة هنا!! أطلقوا سراحها حالًا!”
لكن موظفي القصر طالبوه بالدليل، ولما لم يستطع تقديمه طُرد شرّ طردة.
ومع ذلك ظلّ يحدّق بصرامة في القصر بعينين تشتعلان.
“…لقد أصبح حقًّا فارسًا مقدّسًا.”
تمتمت مبتسمة، وراودها شوق لأن تكلّمه مرة أخيرة.
وفي تلك الليلة، دخلت إلى حلم بارون… في هيئة ليزي.
“مرحبًا با بارون.”
“آنسة أَليهايم…!! هل عدتِ سالمة؟!”
بمجرد أن رآها، احمرّ وجه بارون الذي غدا شابًا ناضجًا.
قالت هي بابتسامة هادئة:
“جئتُ لأودّعك.”
“تودّعينني؟ ما معنى هذا….”
“في المرة القادمة التي تلتقيك فيها ليزي، لن أكون أنا.”
بدت الحيرة أعمق على ملامحه.
“آنسة، ماذا تقولين؟”
“ليزي على الأرجح لن تعرفك. فالمستقبل الذي وهبته إياها لم يكن فيه وجودك. لكن لا تقلق، ستجد هي السبيل لتغييره.”
“آنسة أَليهايم… أي كلام هذا….”
“مبارك لك أن صرتَ فارسًا مقدّسًا.”
بهذه الكلمات الأخيرة غادرت حلمه… وغادرت أيضًا عالم البشر.
وعادت إلى مكانها الأصلي، بعد أن أعادت الجسد إلى روحه الحقيقية.
❖ ❖ ❖
كنتُ قد شهدتُ كل شيء، ومع ذلك لم أفعل سوى أن أحدّق شاردة وأطرف بعيني بذهول.
رأسي ما زال فارغًا تمامًا.
‘إذًا… أنا هي ليزه أَليهايم الحقيقية… وخلال تلك المدة كنت أعيش في عالم آخر بينما كانت هي تستعير جسدي؟’
هل معنى ذلك أنّ حياتي التي صدّقتُ أنها حقيقية في ذلك المستشفى لم تكن واقعيّة أصلًا؟ بل إن هذا المكان هو عالمي الحقيقي؟
‘إذًا كوني اعتقدت أن هذا المكان مجرد عالم داخل رواية…’
وفجأة دوّى صوت في داخلي يجيب عن تساؤلاتي:
[لقد عرضتُ عليك المستقبل بأفضل طريقة تُمكّنك من تقبّله.]
‘أفضل طريقة لأتقبّله…’
آه، إذًا كان ذلك من خلال رواية مظلمة عالية التصنيف….
ورغم الارتباك والذهول، أدركت مجددًا كم أن ذوقي محدد بوضوح.
[وكما توقعت، لقد تفاديتِ ذلك المستقبل بذكاء.]
“لكن… رغم ذلك، ها أنا عالقة في هذا المأزق.”
استفقت فجأة وأحسست برغبة يائسة في الاستغاثة:
“أرجوك، أنقذيني من هنا. إن بقيت على هذا الحال فسوف يقتلني ذلك الأمير المجنون!”
[لا أستطيع إنقاذك.]
“لكن بسببك عرفتُ عن المستقبل…!”
[ذلك كان بجهدك أنتِ، فلم أتدخل مباشرة. أقصى ما أستطيع هو أن أحكي لكِ فحسب.]
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 95"