كنت جالسة منهكة، مسندة ظهري إلى الجدار الشفاف الذي يسد مدخل السلالم.
بدا أن وقتاً طويلاً قد مرّ منذ أن غادر هاينري هذا المكان.
‘…لا أعرف على وجه الدقة كم مضى من الوقت.’
إذ لم يكن في هذا المكان نافذة ولا أي وسيلة لمعرفة الزمن، فلم أستطع تمييز ما إذا كان الوقت نهاراً أم ليلاً.
والحقيقة أن الجهل بجريان الوقت أثقل على نفسي أكثر مما توقعت.
‘هل لم يمر بعد يوم كامل؟ إلى متى سأبقى محبوسة هنا؟’
خلال ذلك، كنت قد قلّبت المكان كله رأساً على عقب أبحث عن مخرج آخر، واصطدمت غير مرة بذلك الجدار غير المرئي.
لكن كل ذلك ذهب سدى.
“……”
في تلك اللحظة أصدرت معدتي صوتاً عالياً من شدة الجوع.
‘لا يعقل أن يكون قصده أن يتركني أموت جوعاً. …فلديه ما يريده مني، فلن يفعل ذلك.’
ولكن، هل كان صادقاً حقاً فيما قاله؟
“أحتاج إلى حبك.”
أي أن ما يريده مني هو الحب….
‘ما هذه الهرطقة؟ حتى لو كان بارون كذلك، فذلك الأمير لم يمض وقت طويل منذ أن عرفني. أتراه مهووساً بي إلى درجة أن يصوّر حبسي كأنه مشهد من دراما رخيصة؟’
ذلك الأمير البارد الجاف؟
وأنا أقضم أظافري أخذت أستعيد كلماته.
‘لقد قال إنه يحتاج الحب كما لو كان يتحدث عن غرض من الأغراض. لم يكن في صوته أدنى أثر لشغفٍ أو رغبةٍ لزجة.’
غَرغَرَت معدتي مرة أخرى، فانحنيت برأسي مغلوبة من التعب، وخرج مني أنين يائس.
“جائعة… أما شاهدتَ old boy؟ حتى لو أردت أن تجعل الأمر فيلماً عن الحبس، فعليك أن تضع شيئاً للأكل على الأقل….”
‘لا بد من وجود طاقة حتى أتمكن من إيجاد مهرب أو حيلة ما.’
صحيح أني حين قلبت هذا المكان الواسع لم أجد حتى شقاً صغيراً، لكنني أردت أن أصدق أن هناك منفذاً ما لم أكتشفه بعد.
كنت أظن أن معنوياتي عصية على الانهيار، غير أن القول بأن الجسد يؤثر في النفس لم يكن كذباً.
‘ربما يجدر بي أن أنام قليلاً أولاً. يجب أن أوفّر طاقتي. لا طبيب هنا، فإن مرضت فأنا الخاسر الوحيد… آه!’
في تلك اللحظة ومضة خاطر جالت في رأسي.
‘قد يكون الخاسر هاينري أيضاً.’
تدفقت إلى ذهني ذكرى قديمة كنت قد نسيتها.
حين فتحت عيني لأول مرة في هذا العالم، ووعيت أني مخطوف لدى أسرة كايين، حاولت أن أستخدم حياتي سلاحاً للنجاة.
كنت جالسة القرفصاء على الأرض، فوثبت واقفة.
‘حين يعود هاينري، إن هددته بأنني سأموت…’
لست واثقة إن كان سيتلقى تهديدي بجدية، أو إن كانت حياتي لها معنى حقيقي عنده.
‘لا وسيلة لمعرفة ذلك. لكن ما أستطيع فعله الآن هو محاولة قلب الموقف ولو قليلاً.’
لم يخطر ببالي أي سبيل آخر.
نهضت وأخذت أتفحص المكان من حولي.
كنت قد بحثت فيه مراراً وأنا أفتش عن مخرج، لذا كنت أعلم أن لا شيء يمكن أن يصلح سلاحاً.
إذ لم يكن هنا سوى نباتات وأزهار لكونه مكاناً للعبادة، أو لعل هاينري أزال كل ما يمكن أن أستعمله ضده.
حتى الأرض كانت مكسوّة بالعشب دون أن أجد حجراً صغيراً.
أجل، بعد التحقق مجدداً، لا وجود لشيء.
‘حقاً، ما أحرصه من رجل.’
وبعد تفكير طويل، خلصت إلى أن الحل الوحيد هو أن أحطّم جدار الدفيئة الصغيرة الزجاجية عند الأطراف، وأستعمل شظاياه.
لكن جدرانها كانت أصلب مما ظننت، ولم تنكسر بسهولة.
حاولت أن أضربها بقبضتي مراراً وركلتها أيضاً، ولكن بلا جدوى.
‘لو أن عندي شيئاً صلباً لأصدمها به… لحظة، شيء صلب؟’
وبينما أفكر خطرت لي فكرة، فاتجهت على الفور نحو مركز المعبد.
هناك، حيث تنتصب تماثيل الرخام الأبيض.
وقفت أمام تمثال لامرأة هادئة الملامح، تحمل في وجهها مسحة حزن، فغمرني إحساس غريب كما أول مرة رأيته فيها.
حاكمة حامية للإمبراطورية….
‘أي إن هذا… يعني أن التمثال يمثلني أنا؟’
ما زلت غير قادرة على تقبّل ذلك.
كلما تذكرت هذا بدا لي شعوراً مريباً.
‘إن كانت هذه حقاً أنا…’
“فهذا أفضل، يمكنني رميه بلا ذنب.”
ولحسن الحظ لم يكن التمثال مثبتاً في الأرض، لذا بدا أنه يمكنني نقله إلى الدفيئة إن بذلت كل ما لدي من قوة.
وهكذا يمكنني أن أحطّم به الجدار.
‘لو كان التمثال لشخص آخر لشعرت ببعض الذنب… لكن طالما أنه يمثلني، فلا بأس!’
أنا ألقي بتمثالي أنا، فما شأن أحد؟ أليس كذلك؟
“أه…”
تأوهت وأنا أتشبث بخصر التمثال محاولة رفعه.
كان التمثال بحجم أصغر مني بقليل.
ولما بذلت قصارى جهدي، ارتفع قليلاً كأنه سيطفو، لكن للحظة قصيرة فقط.
“هاه…!”
اضطررت أن أضعه من جديد وأنا أتنفس بلهاث.
‘ما الأمر… لمَ هو ثقيل إلى هذا الحد؟’
وبينما أفرك كتفي، رمقت وجه المرأة الهادئ في صمت.
“……”
“……”
“…أأنتِ حقاً أنا؟ أم عليّ أن أقول، هل أنا أنتِ؟ على كل حال، إن كان الأمر كذلك حقاً…”
“……”
“إذن فلتساعديني.”
“……”
“إن كنتِ أنا، فلا بد أنكِ تدركين. يجب أن أخرج من هنا بسرعة.”
“……”
“عائلتي… لا، عائلتنا في خطر. وإن كنتِ أنا، فلا شك أن أولئك الأحبة غالون عليكِ كما هم عليّ. أرجوكِ، ساعديني.”
‘…ما الذي أقوله الآن؟’
هل هو من أثر بقائي وحيدة كل هذا الوقت؟ لا أدري كيف أفلت هذا الحديث مني.
أما المرأة، فما زالت تشخص بي بنظرتها، شفتاها مطبقتان بابتسامة وديعة، دون أن تتحرك قيد أنملة.
تبادلت النظر معها هنيهة ثم ارتسمت على وجهي ابتسامة صغيرة.
‘منذ جئت إلى هذا العالم، لم أذكر أني توسلت لأحد بشيء كهذا… والمفارقة أن أول من أتوسل إليه هي أنا.’
تنهدت خافتة وأطرقت رأسي، فإذا بصوت غريب يتناهى إليّ.
لم يكن صوتاً بقدر ما كان اهتزازاً رقيقاً أقرب إلى صدى خافت. ومع ذلك، استطاع عقلي أن يفسره بوضوح.
[…يد…]
في البدء ظننت أن هاينري قد عاد، فالتفتّ بسرعة، لكن لم يدخل أحد.
نظرت من حولي فلم أجد حتى ظلاً لإنسان.
ثم عاد الاهتزاز مرة أخرى، أو قل: الإحساس به.
[ارفعي… يدكِ…]
‘أن أرفع يدي؟’
فهمت العبارة بجلاء. لكن….
‘من أين…؟ لا يعقل، أليس كذلك…؟’
وما من جواب منطقي سوى واحد.
التمثال القابع أمامي.
تطلعت إليه صامتة، وإذا بي أشعر بغرابة في محياه الهادئ الصامت، كأنه يوافق على الأمر.
[ضعي يدكِ… على القلب.]
دون أن أمهل نفسي للتفكير، رفعت يدي كأن قوة خفية تسوقني، وأطبقتها على موضع القلب من التمثال.
وفي اللحظة التالية غمرني نور باهر.
حين أفقت قليلاً، كان وعيي ما يزال ضبابياً.
‘ما هذا…؟ لتوّي شعرت وكأن روحي غادرت جسدي للحظة… إحساس لا يمكن وصفه.’
‘لقد حدث ذلك حين لمست التمثال.’
وبينما كنت مذهولة، انطلقت في أذني نبرة ما.
[أخيراً… أستطيع أن أحدثكِ.]
كان الصوت يخرج كأنه من التمثال، أو من أرجاء المكان كله.
تجربة غير واقعية أقرب إلى حلم.
“لا أدري لماذا… لكن أشعر أني كنت أنتظر أيضاً هذه اللحظة لأحادثكِ.”
انفلتت الكلمات من فمي تلقائياً، كأنها رد فعل غريزي لا إرادة فيه.
[أعلم. كنت أراقبك.]
“أأنتِ… الحاكمة؟”
[أراقب هذا العالم وأحرسه.]
“أأنتِ أنا؟”
[……]
ساد الصمت للحظة، ثم جاء الجواب.
[نعم… ولا.]
لم أفقه المعنى.
لكن الصوت بدا مدركاً لحيرتي، فتابع:
[يبدو أنكِ لم تفهمي.]
“هكذا هو الأمر.”
[إذن عليّ أن أشرح.]
وعندها، تدفقت إلى عقلي صور متتابعة، أشبه برواية طويلة تُسرد في داخلي.
❖ ❖ ❖
في البدء، وُجدت الحاكمة لتحرس هذا العالم.
قضت دهوراً مديدة ترعاه.
تولد البشر الجدد بيدها، وتقبض أرواح الشيوخ، تزرع الفرح حيناً، وتبث الحزن حيناً آخر، محافظة على التوازن كيلا يختل الكون.
ومضت الأيام بلا انقطاع.
كانت حياة الحاكمة دورات لا تنتهي، تتكرر بلا كلل، فيما الأجيال البشرية تتعاقب واحدة تلو الأخرى.
وبعد زمن لا يحصى، جاء إدراك صاعق.
لقد كانت وحيدة.
لطالما بقيت وحدها، تشاهد العالم من علٍ. وللمرة الأولى، تاقت أن تكون جزءاً منه.
وصادف أن مولوداً جديداً كان على وشك أن يبصر النور: فتاة صغيرة.
ووفقاً لما جرت به العادة، كان ينبغي أن تهبها الروح.
لكنها لأول مرة قررت أن تفعل غير ذلك.
أرسلت الروح الأصلية للطفلة إلى عالم آخر لتولد هناك، فيما نزلت هي بنفسها إلى الدنيا متجسدة في جسد الطفلة.
ابنة أليهايم، ليزي أليهايم.
ومع ذلك، لم يكن بوسعها أن تهجر مقامها إلى الأبد.
فحين تبلغ ليزي سن الرشد، كان لا بد أن تعيد الجسد لروحه الأصلية، وتعود هي إلى موضعها السماوي.
رحلة قصيرة نهايتها مرسومة سلفاً، لكنها ما إن أطلقت أنفاسها الأولى بين ذراعي والديها وسط بركة العائلة، حتى أدركت أن هذه الحياة الصغيرة ستترك في نفسها أثراً أعظم من كل ما عاشته عبر الأزمان.
حياة ليزي أليهايم كانت تجديداً يومياً.
العالم بعيون البشر بدا مغايراً تماماً لما اعتادته.
ما كانت تراه مجرد أجزاء في منظومة كبرى، صار يظهر لها قصصاً فردية، لكل كائن شأنه ومعناه.
كل شيء أصبح محبباً.
أخوها وخدمها، أحبّوا شخصيتها الغريبة التي ترى الأشياء من منظور مختلف.
حتى والدها الصارم المحافظ، كثيراً ما خضع أمام براءتها.
وحدث ذات يوم في عودتها من المعبد برفقة أبيها وأخيها، أنها سمعت جلبة خارج العربة التي تستعد للتحرك.
ومن نافذة العربة، رأت الفرسان يركعون فتىً أمام أبيها.
تبيّن أن ذاك الفتى العامل في المعبد قد سرق مالاً من أبيها.
“……”
رفع الفتى رأسه، فالتقت عيناه الخضراوان المتمرّدتان بعينيها الطاهرتين.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 94"