هل من الخطأ أن يعجبني رؤية الشرير يتألم [ 93 ]
القاعة.
مضى وقت غير قصير منذ أن غادرت ليزي مع هاينري.
عندما التقطت سيلفيا حركة خلفها، أسرعت بالالتفات، لكنها لم ترَ من كانت تنتظر.
لم يخرج إلى قاعة الاستقبال إلا الأمير هاينري وحده.
“جلالتك.”
حيّته سيلفيا بأدب رغم ما اعتراها من شك، وهي تلقي نظرة خلفه تبحث عن ليزي، غير أنها لم تكن تتبعه.
‘ما الأمر…؟’
تجمد وجه سيلفيا من الارتباك. وما إن همّت بالحركة حتى رفع هاينري ذراعه ليعترض طريقها مبتسمًا ابتسامة وادعة.
“هذا المكان لا يُسمح بدخوله دون إذني.”
“مولاي، السيدة كايين…”
“السيدة كايين طرأ لها ظرف، وستمكث في القصر بضعة أيام.”
وبينما كان يتحدث مبتسمًا ابتسامة خفيفة، شعرت سيلفيا بأن جسدها كله يتصلب.
كان في ابتسامته اللطيفة ما يثير ريبة باردة، فأدركت في أعماقها أن ثمة أمرًا غير سليم.
‘حتى لو كان لها ظرف، لكانت أخبرتني بنفسها… لا أن يأتيني خبر كهذا عبر شخص غريب دون أن تراني.’
“لذا، عودي من حيث أتيتِ.”
قالها بصوت هادئ ملؤه الرفق، غير أن عينيه حين التقتا بعينيها أبردت قلبها.
كتمت سيلفيا اندفاعها لتزاحمه وتهرع إلى الداخل، وحاولت التمسك بأدبها قائلة:
“أرجوك، اسمح لي برؤية السيدة كايين ولو للحظة قبل أن أغادر.”
“للأسف، هي لا يجوز إزعاجها الآن. سأبلغها تحياتك بنفسي، فعودي.”
كان صوته لطيفًا لكن حازمًا، فما كان من سيلفيا إلا أن عضت شفتها بقهر.
‘لا يكون قد أصابها سوءًا؟ هل تجرأ هذا الرجل على إيذائها؟’
لقد كانوا تحت تهمة الخيانة، وإن فشلت ليزي في تبرئة نفسها، ربما أُلصق بها جرم أعظم، وربما احتُجزت… أو حتى عُذّبت.
شهقت سيلفيا، وقبضت كفيها بقوة.
وما إن همّت بالاندفاع إلى الداخل متجاوزة هاينري حتى قال ببرود مشوب بالأسف:
“أتراك تنوين الآن ارتكاب الخيانة حقًا، بعد أن نجحت السيدة كايين في تبرئة أسرتكم من التهمة؟”
توقفت سيلفيا في مكانها.
‘تبرئة…؟ هل زالت التهمة فعلًا؟’
أكمل هاينري:
“لقد بدّدت السيدة كل الشبهات عن كايين، فلا تطيشي بتصرف أحمق يذهب بجهدها سدى.”
“…….”
“عودي وأخبري أسرتك أن التهمة قد رُفعت، وأن سيدتك ستمكث في القصر بضعة أيام.”
كان كلامه في ظاهره رقيقًا، غير أنه أمر لا يقبل رفضًا.
ازدادت حيرة سيلفيا أكثر من أي وقت مضى.
‘ماذا أفعل…؟ حتى لو كانت في خطر، لا أستطيع إنقاذها وحدي… ولو أقدمت على ذلك جررت الأسرة كلها إلى الهلاك. لكن أن أعود من دونها…؟’
بلعت ريقها وهي تحدق خلف الأمير.
عاشت طفولتها في الشوارع، فكان لها بصر بالهرب والجري، وربما لو تفادت الأمير واندفعت بسرعة…
لكن هاينري الذي رمقها بصمت كأنه يقرأ أفكارها، حرّك يده نحو الخنجر المعلّق على خاصرته.
لم يكن من الصعب عليه أن يتخلص من خادمة كهذه، وكان ذلك أيسر من استدعاء الحرس.
وما إن كاد يقبض على مقبض خنجره حتى انحنت سيلفيا بعمق وقالت:
“مفهوم، مولاي. سأعود إلى كايين وأبلغهم.”
ثم أضافت وهي لا تزال مطأطئة الرأس:
“لكن، هل لي أن أسأل متى ستعود سيدتي؟ لأُخبر الدوق بذلك.”
“همم…”
تأملها قليلًا ثم أجاب:
“ربما بعد نصف شهر. قالت إنها ستعود حالما تنتهي شؤونها.”
“سأنقل كل شيء كما هو.”
“حسنًا. سأرسل من يرافقك إلى الخارج، فانتظري.”
“أمر مولاي.”
ولئلا تحاول الهرب في الطريق، أمر فارسين بمرافقتها.
ووفق ما بلغه، فإن سيلفيا خرجت بهدوء حتى بلغت قصر كايين.
‘ظننت أنها ستثير المتاعب، لكن الأمر جرى على غير المتوقع.’
فرك هاينري ذقنه برضا.
كان جاسوسه مارڤين قد أخبره أن خدم كايين يخلصون الولاء لليزي، لكن هذا جاء لصالحه.
‘رغم أنها بدت مترددة، فقد اقتنعت فيما يبدو، وستنقل الكلام إلى الدوقة وأخيها بلا شك.’
ابتسم هاينري برضا.
❖ ❖ ❖
لكن، وعلى خلاف ما توقع، ما إن عادت سيلفيا إلى قصر كايين حتى أثارت جلبة.
“سيلفيا، عدتِ؟ أين السيدة ليزي…؟”
“تنحّوا جانبًا! عليّ مقابلة الدوقة فورًا!”
أزاحت كل من اعترض طريقها، وركضت مسرعة إلى مكتب مارثا.
وكانت مارثا تمقت أشد الكره أن يدخل أحد مكتبها بلا إذن، وهي التي تقضي معظم يومها في أعمالها.
غير أن سيلفيا لم تكترث.
“مولاتي الدوقة…!”
اقتحمت الباب بشدة، تلهث وهي تحدق في مارثا التي رفعت بصرها عن أوراقها ونظرت إليها بفتور انزعاج.
“قلتُ ألا يدخل أحد حتى أستدعيه…”
“سيدتي ليزي، لقد احتُجزت في القصر الإمبراطوري!”
ارتفع رأس مارثا بحدة وتصلبت قامتها وحدجتها بنظرة فاحصة.
“ماذا تقولين؟”
“الأمير قال إنها ستبقى في القصر نصف شهر. لم يذكر أي سبب، ولم يسمح حتى برؤيتها لحظة واحدة!”
“ألم تعد معك؟”
“…كلا.”
“إذن هي وحدها في القصر؟”
“نعم.”
تجعد جبين مارثا واشتد وجهها قسوة.
“لا يكون أنها قد قُيّدت بتهمة الخيانة….”
“قالوا إنه ليس كذلك. قيل إن سوء الفهم قد زال، غير أن ظرفًا آخر قد طرأ… لو كانت تهمة الخيانة فعلًا، لتم اعتقالي أنا أيضًا.”
بعد أن شرحت سيلفيا الأمر لاهثة، بدأت شيئًا فشيئًا تستعيد هدوء تفكيرها.
“هكذا إذن.”
بدت مارثا هي الأخرى متجهمة، غارقة في تفكير بارد… حتى ــ طَق.
ارتجفت سيلفيا عند سماع صوت انكسار، فالتفتت لترى قلم الريشة وقد انقسم نصفين في يد مارثا.
حتى بعد أن حطمته، ظلت تحدق في الفراغ بقبضة مشدودة.
“مولاتي الدوقة…”
قالتها سيلفيا مذعورة، غير قادرة على فعل شيء.
كان وجه مارثا ثابتًا لا يشي بانفعال، لكن عنقها حتى أسفل فكها كان محمرًا بشدة.
“إن كانوا قد حبسوا فردًا من عائلتي بلا جرم، فعليهم أن يتحملوا تبعة ذلك.”
“س-سيدتي…!”
“اجمعوا الجنود حالًا.”
“تمهلي…!”
لم يدر بخلد سيلفيا حين اقتحمت المكتب وهي ترتجف من الانفعال، أن تجد الدوقة أكثر انفعالًا منها. بل كانت تتوقع أن تزجرها ببرود. لكن الواقع انقلب.
استمرت سيلفيا في تهدئتها بإصرار حتى هدأت مارثا أخيرًا بعض الشيء.
“…هاه…”
زفرت طويلًا، وأسندت جبينها إلى يدها، ثم أمرت سيلفيا بالخروج.
غير أن الخادمة لم تكد تغادر حتى أحاط بها الخدم الآخرون الذين انتظروا عند الباب، وقد لاحظوا انفعالها، فانهالوا بالأسئلة.
“سيلفيا، ما الذي حل بالسيدة ليزي؟!”
“لماذا منعتِ الدوقة؟! يجب أن نهاجم القصر الآن وننقذها!”
“وإن لم تأمرنا الدوقة، فلنذهب نحن وحدنا لإخراجها…!”
تمنت سيلفيا لو أنها على الأقل أغلقت الباب خلفها، لكنها نسيت ذلك في عجلتها.
والآن فات الأوان.
قالت بكل ما تملك من رباطة جأش:
“كفّوا عن التسرع. الدوقة ستتولى الأمر.”
“لكن…!”
“قبل أن تغادر، قالت السيدة ليزي بنفسها: إن وقع أمر في القصر، فثقوا بحكم الدوقة.”
“…….”
“ستجد مولاتنا الحل. وأي تصرف متهور سيعقد الأمور أكثر.”
“…….”
“أوصت ألا نفقد أحدًا من دون جدوى.”
تكلمت سيلفيا بحزم، وارتجفت ملامحها ألمًا.
كان هذا ما أوصتها به ليزي داخل العربة في طريقها إلى القصر، وهو ما جعلها ترضخ وتنسحب أمام الأمير هاينري.
والآن حين استرجعت تلك الكلمات، بدا واضحًا أن ليزي ذهبت إلى هناك وهي مدركة تمامًا لخطورة الموقف.
‘سيدتي ليزي…’
عضت سيلفيا شفتها بعنف.
❖ ❖ ❖
لم يكد الهدوء يعود إلى القصر حتى المساء، حتى عاد أركل من مشوار قصير كلفته به مارثا، فقلب الأجواء رأسًا على عقب.
وما إن سمع الخبر حتى جحظت عيناه وكاد يستدير بفرسه إلى القصر الإمبراطوري، لولا أن هوان ترجّاه بجنون حتى رده.
حتى بعد عودته إلى قصر كايين، كان أركل يزيح كل من يعترض طريقه بوجه كالممسوس، يتجهز بسلاحه.
وفي النهاية، اضطرت مارثا نفسها إلى القدوم، بدلًا من إصدار الأوامر من مكتبها كعادتها.
“أتريد أن تقود الجيش؟”
“……”
“أتريد أن تتمرد؟”
توقفت يد أركل وهو يربط غمد سيفه على خاصرته.
“ما خطر ببالي يومًا فعل كهذا.”
“……”
“كل ما أريده هو استعادة زوجتي.”
كان صوته جافًا، يبعث قشعريرة، حتى أن مارثا عضت شفتها كظمًا لغضبها.
هي أيضًا أرادت، لو استطاعت، أن تستأجر الجنود المرتزقة لتسترجع ليزي. لكن…
“زوجتك لا تريد هذا.”
“…ماذا تعنين؟”
رفع أركل عينيه المحمرتين إلى أخته، فشعرت لأول مرة برهبة منه، لكنها تماسكت وقالت:
“ليزي… تلك الفتاة… لا تريد أن نريق الدم.”
ونقلت له ما أوصت به ليزي خادمتها سيلفيا قبل دخول القصر.
“وإن تحركنا بتهور، صارت حياتها على المحك. هي الآن رهينة، لم تعد رهينتنا نحن، بل رهينتهم.”
“…….”
ظل أركل محدقًا في الفراغ، ثم أمسك غمد سيفه وقذفه بعيدًا يطلق عواءً وحشيًا، فحولت مارثا وجهها عنه غير قادرة على النظر.
‘أيعاقبنا القدر على ذنب خطفها قديمًا…؟ لو أن العقاب يقع عليّ أنا، لا عليها.’
“لن نقف مكتوفي الأيدي. عد إليّ حين تهدأ، وسأطلعك على خطتي.”
“……”
وبعد أن رحلت، ظل أركل طويلًا يحدق في العدم، وصورة ليزي أمام عينيه كما ودعته بابتسامة خجولة وهي تمسح على شعره.
‘يالحماقتي… كان يجب أن أذهب أنا. كان يجب أن أذهب أنا بنفسي.’
اجتاحه ندم حتى تمنى لو يقتل نفسه.
تتابعت أنفاسه بعنف، كاد صدره يختنق، وقبض على قلبه بيد مرتجفة.
حتى عروقه برزت من فرط التوتر.
لكن أكثر ما أحرقه أن ليزي وهي تعرف المخاطر ذهبت مبتسمة.
“أتظن أنك قادر على محو شبهة الخيانة؟ ليس كل أحد سيفهمك كما أفعل أنا.”
‘لو كانت عندي بعض الثقة بنفسي فقط…’
عض أركل شفته حتى سال الدم، وقبض يده بقوة.
لقد عزم، وسيعيدها حتمًا، ولو كلفه ذلك حياته.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 93"