هل من الخطأ أن يعجبني رؤية الشرير يتألم [ 85 ]
الصدع الرفيع الذي ظهر في الكأس سرعان ما أخذ يتمدّد محدثًا صوت تشقق، حتى عمّ أرجاءه كلها.
بدا وكأنه سينهار في أية لحظة، غير أنّ أركل لم يتركه، بل أمسك به بقوة أكبر كأنه عازم حقًا على تحطيمه.
‘سوف يؤذي يده بهذا الشكل…!’
راقبت المشهد بقلق حتى هممت بتحذيره بأن يتوخّى الحذر، غير أنّ ذلك لم يكن ضروريًا. فالكأس المتشقق بدأ يتفتّت إلى غبار متلألئ.
تناثرت ذرات الغبار الذهبية في الهواء، ثم تلاشت قبل أن تبلغ الأرض.
وقفت مشدوهة، أحدّق في المنظر.
‘ما أجمله…’
حتى أركل، وقد خارت قواه، اكتفى بالتحديق بهدوء في البقايا المتلاشيّة بين يديه.
ما كان ليُصدَّق أنّ هذا الجمال هو النهاية لِما جلب كل ذلك العذاب للناس.
‘يختفي بهذه البساطة…؟’
فشعرتُ ببعض الخواء وأنا أتابع الغبار المبعثر. وما لبث أن تبقّى في يد أركل مقبض الكأس وحده، ثم تلاشى هو الآخر في الفراغ.
وحين اختفى آخر شظية، خُيّل إليّ أني سمعت صوتًا خافتًا يهمس:
[شكرًا لكم.]
‘جيرونيمو… آن لك أن ترتاح الآن.’
وبينما كنت أنا وأركل نتابع اختفاء الغبار الذهبي في الفضاء، دوّى صوت هوان:
“سيدتي ليزي، يا مولاي…!”
استدرت مسرعة، فرأيت أجساد السكان تتلاشى بالطريقة نفسها.
هرعت نحوهم، فيما كان هوان يسجّل آخر لحظاتهم بحجر التصوير.
“آه… جسدي صار خفيفًا…! كم مضى منذ شعرت بهذا الإحساس…”
“أخيرًا… أخيرًا انتهى كل شيء…”
“شكرًا لكِ يا سيدتي ليزي، حقًا شكرًا.”
“يا الرفاق، فلنلتقِ مجددًا في الحياة الأخرى! آنذاك سنظل جيرانًا أيضًا، أليس كذلك؟”
“كفى مئة عام جيرةً-! هاها. ومع ذلك… لا بأس في الأمر!”
كانوا يتحدثون بلسان سليم بعدما زال عطب ألسنتهم، وزالت كذلك جراحهم المتآكلة، وعادوا إلى صورتهم التي رأيتها قبل مئة عام، مبتسمين بتنوّع وسعادة.
اكتفيتُ بمراقبتهم أبتسم بخفوت.
‘الحمد لله… يبدون مرتاحين.’
“المخرجة ليزي-“
التفتُّ إلى الصوت، فإذا هو كان. حين التقت عيوننا ابتسم بمكر:
“…كما توقعت، لا تشبهينها أبدًا.”
“عذرًا؟”
“لا شيء. المهم، أريد أن أقول كلمة أخيرة.”
جسده كان قد اختفى نصفه، ومع ذلك ابتسم بحنين وهو يوجّه كلامه إليّ:
“أخبري امرأة تُدعى لوسي… ألا تستسلم للحياة.”
‘لوسي؟’
تساءلت عن الاسم الغريب، حتى تذكرت فجأة.
“قالت تلك الفتاة… إنها رأتني رائعًا.”
“كانت تعاني من مرض… وكان لقائي أمنيتها. وبفضلي… رغبت في أن تعيش طويلًا.”
لقد كانت من بين الجماهير الذين تركوا رسائل لممثلي <في العثور على الكأس المقدس>.
“آه…!”
صفقتُ بكفّي وقلت بدهشة وأنا أحدّق فيه:
“كنتَ تتذكرها؟”
“لم يكن تذكّرًا… بل لأنني قرأت الكتاب الذي أهديتني إياه ثلاث مرات في اليوم.”
هزّ رأسه بخفة وتابع:
“صحيح أنني لم أحقق لها أمنيتها… لكن قولي لها إن الحياة ستمنحها أماني أخرى، وعليها أن تواصل السعي لتحقيقها.”
“أكان هذا ما يثقل قلبك؟ يا لك من طيب.”
“لم أكن منشغلًا بها حقًا.”
“أنتَ حقًا تسونديري.”
“ما الذي تعنينه؟”
نظر إليّ متعجبًا، فأجبته بابتسامة ساخرة:
“للأسف لا وقت لشرح ذلك الآن.”
“…يبدو كذلك.”
كان جسده قد أوشك على الزوال تمامًا، وأنا أتابع آثاره حتى النهاية.
“وداعًا يا ليزي.”
“إلى اللقاء يا كان.”
“إن التقينا مجددًا، سأريك تمثيلًا أفضل.”
“بالطبع، وإلا فلن أستعين بك أبدًا.”
“ما زلتِ حاسمة كما عهدتك.”
ابتسم وهو يوشك على الاختفاء وعيناه تلتمعان ببريق لاحتُ لي لمحة منه، فبادرت ممازحة:
“آه، هل دخل الغبار في عينيك مرة أخرى؟!”
“…نعم.”
تردّد صوته في الفضاء وقد غاب أثره:
“شكرًا على كل شيء.”
وقفتُ ساكنة أحدّق بالموضع الذي اختفى فيه طويلًا.
لم يبقَ من أهل القرية أحد.
لم يعد هناك سوى السماء الزرقاء والغيوم.
‘وأنا أيضًا… ممتنة لكم.’
ألقيتُ عليهم تحية الوداع مرة أخرى في قلبي.
‘إلى اللقاء.’
وفجأة دوّى صوت غريب من مكان ما:
“…كهه… أغغ…”
استدرت، فرأيت هوان وقد أنزل حجر التصوير، وجهه مبلل بالدموع وعيناه متورمتان.
“ماذا؟ هوان، منذ متى تبكي؟”
“…لا أبكي، فقط… دخل الغبار في عيني أثناء التصوير…”
“أنتَ لستَ مقنعًا أبدًا.”
هممتُ بممازحته أكثر، لكني تذكرت فجأة ما شغلني عن أهم ما عليّ فعله.
‘أركل…!’
رأيت أركل واقفًا عند النافورة يترنّح وهو يراقب المشهد. بدا أنه تابع النهاية مثلنا، لكنه سرعان ما هوى أرضًا بصوت مدوٍّ.
“أركل!!”
أسرعت نحوه، جسده مبلّل بالعرق البارد.
أزحت شعره المبلل وهمست:
“لقد عانيت كثيرًا. بفضلك تم كل شيء على خير.”
لكنه لم يفتح عينيه، مكتفيًا بأنفاس متقطعة مضطربة، فيما الهالة السوداء تعاود الاضطراب حوله.
“أركل، اطلب مني بسرعة أن ألمسك!”
“……”
“أنت تعرف… أني لا أستطيع تهدئتك إلا هكذا…”
لم أكره شرط قدرتي العلاجية بقدر ما كرهته في تلك اللحظة.
“أركل…!!”
فتحت عيناه نصف فتحة، وهمس:
“…المسيني…”
فأسرعت أحتضن وجهه بكفّي.
“الآن ستصبح بخير.”
“…هاه…”
كان صوته المتقطع يهدأ شيئًا فشيئًا، وأهدابه المرتجفة أطبقت من جديد.
“لاكو، هل أصبح بخير الآن؟”
سألتُ على عجل لاكو الواقف قرب النافورة.
فاقترب بحذر من أركل، ووضع إصبعيه على جبهته، ثم أغمض عينيه وبدأ يتمتم بلغة غريبة:
“Øđßŋ, Øđßŋ Øđßŋđđ….”
فتح عينيه وأبعد أصابعه ثم قال:
“انتهى الأمر يا سيدتي. لقد استعاد قوته الأصلية.”
“الحمد لله… أحسنتَ يا لاكو.”
“……!! شـ، شكرًا لكِ يا سيدتي…!! لقد فعلتُ ما يجب عليّ فعله كخادمٍ للحاكمة فقط…”
احمرّ وجه لاكو، وظل يردد بحماسة وكأنه يحدث نفسه: “لقد مُدحت… مُدحتُ حقًا…”
“والآن، ما الذي ينبغي أن نفعله؟”
سألته، فاستفاق من شروده وهز رأسه سريعًا.
“هذا الوغد… أعني، سأفك قيوده.”
‘لابد أنه يقصد الحبل الملفوف حول عنق أركل.’
وكما توقعت، نظر لاكو إلى الحبل وتمتم بكلمات غريبة قصيرة، ثم أخرج حجرًا مسنونًا وقطع به الحبل الملتف حول عنق أركل.
وأخيرًا انقطع الحبل بعد صوت الاحتكاك، تاركًا أثرًا أحمر بارزًا حول عنقه.
مددت يدي ألامس ذلك الأثر، فما زال يحمل حرارة جسده.
“شكرًا لك يا أركل.”
“……”
“الجميع كانوا ممتنين لك أيضًا.”
“……”
أركل الذي كان يتنفس ببطء أمسك بيدي الملامسة لعنقه، ورفعها ليضعها على وجنته.
“هل… هل ابتسموا؟”
“ابتسموا ببهجة كبيرة.”
“…فهمت.”
بقينا جالسين هكذا متقابلين في صمت دون أن نحرّك ساكنًا.
❖ ❖ ❖
أنهينا مهمتنا وغادرنا كيلستون في ذلك المساء.
وقبل أن أركب العربة، التفتُ مرارًا إلى القرية الخالية.
كنت أعلم أنه مستحيل، لكن جزءًا مني كان يتمنى أن أرى السكان مصطفّين يلوّحون لي مودّعين.
‘…ما هذا الذي أفكر فيه؟ عليّ أن أتحرك بسرعة. ثمة أنباء مهمة عليّ إيصالها.’
كان مارڤين لا يزال فاقدًا للوعي تحت تأثير تعويذة لاكو، موثَقًا ومحمولًا في عربة البضائع.
ورغم اكتمال الاستعداد للرحيل، وجدت نفسي مترددة، وكذلك أركل وهوان على ما يبدو.
“كانت القرية هادئة من قبل، لكنها الآن تبدو أشد صمتًا.”
“……”
“لا تبكِ مجددًا يا نوان.”
“أنا؟ أبكي…! كح… لا، لقد دخل الغبار في عيني، مجرد رياح محملة بالرمال.”
قالها وهو يعدّل نظارته بتصنّع، ثم وقع بصره على شيء عند مدخل القرية فتغيّرت ملامحه.
“لكن… أهذا شيء تركتِه أنتِ يا سيدتي ليزي؟”
“لقد كان هدية. والهدية لا تُسترد بعد أن تُعطى.”
ابتسمتُ بخفة واستدرت.
“فلننطلق إذن؟ لدينا هدية نقدّمها للآنسة مارثا أيضًا.”
“تقصدين ذلك المسمى مارڤين.”
قال أركل بهدوء:
“أظن أن سيدتي قد تفكر هذه المرة في تسليمه إلى ناران.”
ابتسمتُ بخجل وأنا أحكّ ذقني:
“همم… ربما عليّ أن أفكر في الأمر أكثر. لا أريد أن أتركه يتلف تمامًا.”
قال هوان:
“أرجوكِ، امنعي ذلك يا سيدتي… لقد سعدت لأن الشاب ناران انصرف عن الاهتمام بتلك الأمور مؤخرًا…”
“حسنًا، لو قبلتَ أن تصبح مساعدي الدائم فسأفكر في الأمر.”
“…أمهليني وقتًا للتفكير.”
بين المزاح والحديث، ركبنا العربة. ومع انطلاقها، بدأت ملامح كيلستون تتضاءل من خلف النافذة حتى اختفت تمامًا.
ومع ذلك لم أستطع رفع عيني عنها حتى آخر لحظة.
❖ ❖ ❖
عند مدخل كيلستون، تقلبت صفحات كتاب موضوع تحت شجرة ضخمة بفعل الرياح.
وبين عشرات الرسائل التي تركها الزوار، برزت جملة لم يجف حبرها بعد:
[وداعًا، يا أعظم ممثلين لي!]
وظلّت الصفحة ثابتة برهة، كأنها تمنح الجميع وقتًا كافيًا لقراءتها.
*****
النهايه في الفصل 102 ترا لا تضيعون وتحسبونها النهاية 😂❤️
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 85"