هل من الخطأ أن يعجبني رؤية الشرير يتألم [ 83 ]
في كوخ صغير يكاد ينهار.
جلس كان على سرير متآكل متعفن بالكاد حافظ على شكله، شاخصًا ببصرٍ غارقٍ في العتمة نحو الفراغ.
قال بصوت خافت متحشرج:
‘قبل أن أمحو حتى وجوده من ذاكرتي. لقد نسيت ملامحه واسمه… لا أريد أن أفقد المزيد.’
كان يعرف ما تشعر به.
هو نفسه نسي منذ زمن بعيد شكل هذا البيت قبل أن يتداعى، ووجه أخته التي كان يشتاق إليها بجنون، وصوت صديقه الذي كرهه حتى الموت.
“…….”
ربما كان إنهاء الأمر قبل أن يُمحى حتى وجودهم من ذاكرته هو الاختيار الأصوب.
لكن—
أغمض عينيه بإحكام وخفض رأسه وهو يشد قبضته.
‘لينا… حتى اسمك بتُّ كثيرًا ما أنساه. كيف كان شكلك يا ترى…؟’
“وجدتك.”
صوت رقيق دافئ، فيه شيء من المزاح.
رفع رأسه، فإذا بامرأة باسمة تقف أمامه.
لحظةً واحدةً فقط مرّ على ملامحها شبح ذلك الوجه المشتاق إليه، فظل كان مذهولًا.
“لينا؟”
“إذن هنا كان يعيش كان.”
قالت المرأة وهي تتأمل المكان بعفوية طفولية:
“همم… الديكور يناسب ذوقي جدًا.”
أطبق كان جفنيه ببطء ثم هز رأسه صغيرًا.
“كيف… وصلتِ إلى هنا يا ليزي…؟”
“سألتُ أحدهم عن المكان. لا تفهمني خطأ، لم آتِ لتتبعك، فقط أردت أن أتحدث معك.”
“قلتُ إني أريد أن أبقى وحدي…”
ابتسمت وقالت بخفة:
“كان، أنت في الأصل شخصية تسونديري. ومَن هو على هذه الشاكلة، إذا قال إنه يريد أن يكون وحيدًا، فالحقيقة أنه يريد أحدًا بجانبه. لم أستطع إلا أن آتي.”
هي لم تكن لينا.
وجهها وبسمتها لم يشبها لينا في شيء، ومع ذلك، لمَ رأى فيها ظلها؟
“…ألعلي لم أعد أتذكر جيدًا، فاختلطت عليّ الأمور…؟”
“مم؟ ماذا قلت؟”
“آه… لا، لا شيء.”
تأملت ليزي كلامه بفضول واتسعت عيناها، فيما هو تمتم متجنبًا النظر إليها:
“…ذكرتني بشخص أعرفه.”
“تقصد لينا؟”
“كيف….”
رفع رأسه بدهشة، ثم أومأ ببطء.
“…نعم، قلتِ إنكِ رأيتِ كل شيء.”
“كيف كانت لينا؟”
“…لقد نسيتها.”
انطفأت عيناه بالحزن.
“الآن لم يعد لي سوى التذكر بأنها وُجدت فعلًا. هذا كل ما تبقى لي.”
“…….”
“ولا أعلم متى سأفقد حتى تذكر وجودها…”
ابتسمت ليزي فجأة وقالت ببساطة:
“كانت لا تحب كثيرًا الخضار، أليس كذلك؟”
رفع كان رأسه ينظر إليها مذهولًا.
استغرقت لحظة في التفكير، كأنها تستحضر صورة قديمة من مئة عام.
“كانت دائمًا تبعد الكرنب وتأكل اللحم فقط، فكنتَ أنت تتذمر منها.”
“…….”
“وكانت تتجاهل كلامك تمامًا وتغير الموضوع، وفي النهاية كنتَ تقول ‘لن أتكلم أكثر’، وتستسلم. لم أرَك يومًا تنتصر عليها في جدال.”
واصلت ليزي الحديث تروي له ذكريات شاهدتها، عن الأخوين، عن أيام مضت. وكان “كان” يصغي في صمت، أحيانًا ترتسم على وجهه ابتسامة باهتة.
وحين انتهت من كلامها، نظرت إليه قائلة:
“إذن، ما مشكلتك أنت؟”
“…….”
“ما الذي يحيرك إلى هذا الحد؟”
بعد صمت طويل، قال:
“…أنا أيضًا… أريد أن أرتاح. حقًا.”
“…….”
“يسرني أن جيراني نالوا راحتهم أخيرًا… لكن…”
ضغط على شفتيه وحدق في الفراغ.
“لكن إن حدث ذلك… فستختفي لينا كليًا. وإن متُّ أنا أيضًا، فلن يبقى أحد يتذكرها…”
ارتجف صوته، وانحنى رأسه.
لقد عاش قرنًا من الزمان عاجزًا عن الموت، اختبر فيه كل ما يمكن أن يختبره الإنسان… إلا الموت.
ولذلك كان قلبه غارقًا في التردد.
“أعرف أني أثقل كاهل الآخرين… وأن هذا الأمل الوحيد لهم. لكن… فكرة أن وجودنا جميعًا أنا ولينا وجيروم سيمحى دون أثر… تؤلمني.”
“لن يكون الأمر هكذا.”
رفع رأسه على صوتها الواثق العذب.
“أنا من سيتذكركم.”
“…….”
“سأتذكر لينا، وجيروم، وكل إنسان من هذه القرية.”
“ليزي…”
“أنت أول صديق تعرفت عليه هنا يا كان. لذلك ستظل مميزًا عندي. وللحق، أنا أيضًا لا أريد أن أفترق عنكم.”
نظرت إليه بعينين شجيتين ثم ابتسمت ابتسامة مشرقة:
“بصمتكم محفورة في داخلي ولن تُمحى أبدًا.”
توهجت ابتسامتها، فأشاح كان وجهه سريعًا كي لا يراها، فأمعنت النظر إليه بدهشة.
“كان، هل تبكي؟!”
“…مستحيل…! لقد جفّت دموعي منذ زمن بعيد.”
“حسنًا، سأعتبرها مجرد ذرة غبار دخلت عينيك.”
“قلت لك… حقًا…! آه، يكفي.”
تنهد بصوت خافت، ثم تردد قليلًا قبل أن يسأل:
“…هل حقًا… ستتذكرين؟”
“طبعًا. بل خطر في بالي الآن حل رائع.”
“آه؟ أي حل…؟”
“تعال معي أولًا يا كان. أحتاج إلى مساعدتك أنت والبقية.”
التفتت عند الباب ونظرت إليه.
للحظة أخرى، انعكست عليها صورةٌ شديدة الشبه بظلٍ مفقود.
‘لا… لا تشبهها أصلًا…’
ظل ينظر إليها بلا وعي، حتى نادته مجددًا:
“كان، هيا بنا!”
“…حسنًا… لينا، لا، ليزي.”
❖ ❖ ❖
بعد أن أنهيت الحديث مع كان، عدتُ معه إلى المبنى الخشبي.
ظننت أننا تأخرنا كثيرًا، لكن فوجئت بأن السكان لم يغادر أحد منهم، وكأنهم كانوا ينتظرونني.
وهم أيضًا فوجئوا بقدوم كان برفقتي.
“كان… هل عزمت… أمرك؟”
“ق، قررت…! ليزي… أرجوك…”
“إذن قررتِ أن نحطك الكأس المقدسة؟”
قالها أركل وهو يقطع بيننا بخطوة.
ابتسمت له وقلت:
“ليس بعد. ما زال هناك عمل أخير.”
ثم التفت إلى السكان:
“قبل أن نحطم الكأس، علينا أن نكمل ما بدأناه. علينا أن نتمم الفيلم.”
فأومأ الناس برؤوسهم واحدًا تلو الآخر، كأنهم استعادوا ما نسوه.
“ص، صحيح… لقد جئتِ أصلًا من أجل ذلك يا ليزي…”
“صحيح… أجل، السيدة ليزي جئتِ في الأساس من أجل ذلك…”
“لـ… لا بد أن نساعدكِ حتى النهاية. لقد صنعتِ لأجلنا الكثير…”
“إذن، هل نبدأ التصوير الليلة كما هو مخطَّط؟”
سأل هوان وهو يدفع نظارته إلى أعلى، فأومأت نافية.
“فكرتُ في الأمر… ما رأيكم أن نغيّر هذا العمل كليًّا؟”
“أتقصدين تعديل النص؟”
“لا، بل أن نصوّر عملًا آخر مختلفًا تمامًا. أعتذر منك يا أركل… لقد اجتهدتَ كثيرًا في التدرب.”
كنت أقول ذلك بصدق. فقراري الأخير كان مترددًا لأجله هو تحديدًا.
‘رأيتُ كم بذل من جهد… يجب أن أعده بأن أجعله بطل العمل القادم مهما حصل.’
لكن خلافًا لقلقي، بدا أركل غير متأثر إطلاقًا، بل على نحو غريب مريح أكثر.
“هكذا إذن… حسنًا، مؤسف بعض الشيء، لكن لا بأس.”
‘أهو يتحسّر فعلًا؟! إن وجهه مرتاح وكأنه مطمئن…’
كان يتحدث ببرود وكأن الأمر ليس بيده، لكن في أعماق عينيه الحمراوين كان يلوح ارتياح لا يخفى.
يبدو أن حمل البطولة كان أثقل مما تخيلتُ عليه.
‘لكن، لن أدعك تفلت بهذه السهولة.’
ومع أن قلبي كان يتوجع من التنازل عن نصٍّ هو خلاصة نواياي الخفية، إلا أني حاولت أن أفتح له منفذًا آخر.
“لا تحزن يا أركل. في المرة القادمة ستكون البطل بلا شك…”
“إذن، هل ستكتبين نصًّا جديدًا لفيلم الليلة؟”
هو أيضًا صرف الحديث بخفة، فلم يكن أمامي إلا مجاراته.
“لأكون دقيقة، لا حاجة لكتابة نص هذه المرة. فلن يكون ثمة تمثيل أصلاً.”
“هاه؟”
“ماذا تعنين؟”
“ألستِ ستصورين فيلمًا؟” سأل هوان بحيرة.
“بلى، إنه فيلم. لكنه هذه المرة وثائقي… عنكم أنتم.” ( عن الموتى الاحياء )
“وثا… ماذا قلتِ؟”
هجّيت الكلمة لهم بوضوح:
“وثائقي. لا قصة مختلَقة نمثّلها، بل تسجيلٌ لحياتكم كما هي.”
“كما هي…”
“عنّا نحن…؟ لكن… نحن لسنا… ممتعين… ولا مظهرنا…”
“لا حاجة لأن تكونوا مثيرين أو لافتين. هذا ليس عرضًا للترفيه، بل سجلّ للذكرى. حتى إذا رحلتم، يبقى أثر يذكّركم الناس به.”
ساد الصمت بين السكان.
تبادل بعضهم النظرات، وشرَد آخرون غارقين في التفكير.
لم يخطر لهم من قبل أن أحدًا قد يسعى لأن يتذكرهم بعد زوالهم؛ كل ما أرادوه كان الفكاك من اللعنة وإنهاء حياتهم.
“…أود ذلك.”
‘كان’ أول من كسر الصمت.
“لأني أريد أن يتذكر أحدٌ لينا، حتى بعد أن أختفي أنا.”
ثم تكلّم عجوز بصوت متردد:
“أما أنا… فلا بأس إن نسيتني الدنيا. لكن… لقد وعدتُ السيدة ليزي. فلنصنع هذا العمل جيدًا.”
سرعان ما تبعهم آخرون:
“يبدو ممتعًا… أريد أن أجرب.”
“أجل، ترك أثر كهذا كذكرى… ليس سيئًا أبدًا.”
“إن كانت السيدة ليزي بحاجة إلينا، فلا بد أن نساعدها!!”
وهكذا تقرر أن نصوّر فيلمًا وثائقيًّا.
ولأن أعمال مارڤين بانتظارنا، وكان عليّ أنا وأركل العودة إلى كايين قريبًا، اتفقنا أن تكون مدة التصوير ثلاثة أيام فقط.
رافقتُ المخرج المساعد هوان في جولات عبر أنحاء القرية، نصوّر السكان واحدًا واحدًا.
“هيا، أرنا منزلك قليلًا.”
“أم… هذا سرير، وهناك مطبخ— أو كان مطبخًا… هل هو مطبخ فعلًا؟”
في البداية بدا السكان مرتبكين، يتحرجون من الحديث عن أنفسهم. لكن مع مرور الوقت، راحت ألسنتهم تنطلق شيئًا فشيئًا.
“ما أسعد لحظة عشتها خلال المئة عام الماضية؟”
“عندما… سمعتُ أن الناس استمتعوا بمشاهدة الفيلم السابق… بعد قرن كامل… شعرتُ بسعادة غامرة.”
سجلنا مشاعرهم…
“سمعتُ أن ذاكرتك لا تزال حاضرة أكثر من غيرك يا جدي. ماذا كنت تعمل في الأصل؟”
“كنتُ… نجارًا. كانت حِرفةً متوارثة في أسرتي. منذ صغري وأنا…”
وحياتهم…
“لو التقيتَ ابنك من جديد، ماذا ستقول له؟”
“أعتذر… لأنني وفيت بالوعد متأخرًا جدًا. فلنبقَ معًا الآن.”
وأمانيهم…
لم أزعم أننا وثقنا كل ما عاشوه.
لكن—
على الأقل، التقطنا كل ما يستحق أن يُتذكر.
ثم أشرق صباح اليوم الذي سنكسر فيه الكأس المقدسة.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
التعليقات لهذا الفصل " 83"